لا يمكن اختصار القصة بأن رجلاً من منبت فقير اسمه بابلو إسكوبار، استطاع أن يصبح في عداد أثرياء العالم عبر تجارة المخدرات. مثل هذه القصة لا تقول سوى أنه استطاع أن يجمع في البداية، ثروة صغيرة من شتى صنوف الأعمال غير الشرعية، من الابتزاز إلى سرقة أي شيء، بما في ذلك شواهد القبور، إلى الخطف مقابل فدية، بما في ذلك خطف وقتل أحد أكبر أثرياء ميديلين وأكثر الرجال كرهاً فيها بسبب معاملته السيئة للناس، الجريمة التي جعلت بابلو محبوباً في المنطقة وزودته بأول لقب له "الدكتور" دون معرفة الرابط بين اللقب والفعل، ربما لأنه استأصل هذا المرض، أو لأن العامة تنظر إلى هذا اللقب على أنه أفضل وسام.
وستضيف القصة أنه استطاع بهذه الثروة الصغيرة، وباكتشافه سلاح "الرشوة" بديلاً عن سلاح مواجهة الشرطة، وباستعداده الدائم للجريمة، اقتحامَ عالم المخدرات الواسع وصولاً إلى سيطرته الكاملة على تجارة الكوكايين إلى الولايات المتحدة، واحتكاره 80% من تجارة الكوكايين في العالم.
من وسط اجتماعي فقير إلى آخر ثري
هذه قصة عادية وربما بليدة ومملة، لأن طريق البطل فيها وحيد الاتجاه، ينطلق من وسط اجتماعي فقير كي يصل إلى وسط آخر ثري ويتمثل، ما استطاع، قيم هذا الوسط الجديد. قد يتعثر المغامر الطموح، ويتحطم على طريق طموحه، فتنقذه من عثرته صدفة ما، أو سرعة بديهة أو جريمة إضافية.
القصة هي أن يحمل المهرب وتاجر المخدرات والمجرم هماً اجتماعياً عاماً، أن يفكر بأهل بلده فيقدم لهم المساعدة ويبني لهم مساكن وملاعب كرة قدم وكنائس، من أموال الجريمة
وقد يفشل اندماجه في الوسط الجديد، ويبدأ طريقاً منحدراً ينتهي به إلى متمرد هامشي أو إلى نزيل في سجن أو في قبر. وقد ينجح المغامر الطموح ويصبح من نجوم الطبقة الجديدة بعد أن يتحول مع ثروته إلى أنشطة اقتصادية مشروعة تستر، أو لا تستر، أنشطة من النوع نفسه الذي أوصله إلى ما هو عليه. طيف الاحتمالات واسع، يمتد من الفشل وما يستجر من ثمن، أقله السجن، ويصل إلى النجاح في العبور إلى الضفة الأخرى والتمتع، ليس فقط بامتيازاتها، بل بالدرع التي تحميها. لكنها، بعد كل شيء، تبقى هذه قصص عادية لأفراد معزولين.
كما لا يمكن اختصار القصة بصراع بين القوى التي من شأنها أن تفرض القانون، والقوى الخارجة عن القانون. هذا صراع لا جديد فيه، وإن كان ينطوي، بطبيعة الحال، على الكثير من الدسائس والخيانات والحيل والرشى والإجرام والتدخل الامريكي والتعامل مع الشياطين أمثال اليمين المتطرف الكولومبي ومجرمي لوس بيبس... الخ، وينتهي بقصاص من المجرمين يكلف آلاف الضحايا وتلالاً من الخسائر.
هل يمكن أن تحمل الجريمة الهم العام؟ وهل يغسل الهم العام، أو حب العامة، الجريمة من عارها الأخلاقي؟
يمكن أن يكون تشييد سجن "لا كاتدرال" جانباً مثيراً ومسلياً في القصة. الفكرة بذاتها تليق بعالم "الواقعية السحرية" التي نبتت في تلك القارة، أن يقوم "مجرم" ببناء سجن على حسابه الخاص ووفق شروطه الخاصة، كي يقضي فيه عقوبته، فيبني سجناً شبيهاً بقصر يحتوي على ملعب كرة قدم وطاولات بلياردو ومسبح وكازينو ويستقبل فيه من يشاء. هذا واقع ولكنه مسحور.
ولإضافة لمسة لاذعة على سحر هذه "الواقعية"، يكون من شروط إسكوبار أن يختار حراس السجن، وأن تبقى الشرطة الحكومية على بعد لا يقل عن ثلاثة كيلومترات من السجن. على هذا النحو يكون اسكوبار قد استسلم وسلم نفسه للحكومة، كي لا يتم تسليمه إلى الولايات المتحدة لأن "القبر في كولومبيا أفضل من السجن في أميركا"، حسب قوله.
مجرم يحمل هماً اجتماعياً عاماً
أما القصة الحقيقية فهي قصة بابلو إسكوبار الذي لقبه الإعلام الرسمي بـ"سيد الشر" بينما حمل في بلده لقب "روبن هود كولومبيا". القصة هي أن يحمل المهرب وتاجر المخدرات والمجرم هماً اجتماعياً عاماً، أن يفكر بأهل بلده فيقدم لهم المساعدة ويبني لهم مساكن وملاعب كرة قدم وكنائس، من أموال الجريمة. هنا يوجد ما يستوقف. اجتماع الجريمة والهم العام لدى فرد. هل يمكن أن تحمل الجريمة الهم العام؟ وهل يغسل الهم العام، أو حب العامة، الجريمة من عارها الأخلاقي؟ لا يتعلق الأمر بالسياسة.
هناك تنظيمات سياسية تلجأ إلى الجريمة لغاياتها، ويمكن أن تسمي الجريمة نضالاً أو جهاداً. أما جريمة اسكوبار فهي جريمته هو، جريمة تحمل اسمه دون مواربة، فهو لا يرتكب الجريمة لغرض عام أو خدمة لقضية عامة، بل يرتكبها في سياق صراعاته وحساباته الخاصة التي غايتها تحجيم خصومه وتسيير أعماله وجني أكبر قدر من الثروة. بهذه الثروة أشبع نهم المحروم الذي حاز سبلاً وافرة (يقال إن هذا الرجل الذي اضطره الفقر إلى أن يذهب حافياً إلى المدرسة في صغره، اشترى 800 منزل، إنه الحرمان أو "العين الفارغة" كما يقال)، واستخدم الثروة أيضاً في مساعدة الفقراء من أهل منطقته.
توضع صوره في بيوت الفقراء كما توضع صور المسيح وأمه
رجل بقدرات ذهنية ونفسية متميزة تمكنه من أن ينشئ شبكة تهريب مخدرات وأن يخترق أجهزة حماية القانون بالرشوة والابتزاز والجريمة. يجمع ثروة هائلة ويوظف جزءاً منها لمساعدة الفقراء، حتى يصبح هذا الرجل معبوداً في نظر أهل منطقته "ميديلين"، وتوضع صوره في بيوت الفقراء كما توضع صور المسيح وأمه، ويحمل لقب "روبن هود كولومبيا". "أنا لست ثرياً، أنا فقير أملك الكثير من المال"، هكذا يضع اسكوبار الفارق بينه وبين الأثرياء الذين يحرسون دولة تحرس الفقر والحرمان في البلد.
يقال إن إسكوبار الذي اضطره الفقر إلى أن يذهب حافياً إلى المدرسة في صغره، اشترى 800 منزل... هو الحرمان أو "العين الفارغة" كما يقال.
الثروة إذن ليست وسيلة للاندماج في وسط الأثرياء الذي يبدو أن إسكوبار ظل يحتقره، حتى وهو يتمتع بالسلطة التي توفرها الثروة. لذلك أحبه الفقراء وراح أطفالهم ينشئون خيط اتصالات فيما بينهم عن الأسطحة، بمثابة شبكة إنذار تخبر رجال اسكوبار بتحركات الشرطة لمنع المفاجأة. كان هذا يعكس مزاج معظم الأهالي، الذين بقي الكثيرون منهم على "وفائهم" له بعد مقتله، ويحتفظون بصورته على حيطان البيت.
على هذا المستوى من المال والشعبية وشبكات الحماية، ماذا يتبقى من حلم؟ يبقى أن يتوسع حلم اسكوبار نحو الجهة الوحيدة التي تتحكم بكل الجهات، وهي السياسة التي تحمي وتفتح الآفاق. أراد إسكوبار أن يشارك في هذه الدائرة التي تصنع "القوانين" وتحدد ما هو مشروع، وأيضاً تحمي أفرادها وتحصنهم. سيبدأ من مجلس الشيوخ وفي ذهنه برعم الحلم الرئاسي. كان هذا الحلم، الذي ما أن تحقق حتى انطفأ، هو لحظة الاندفاع إلى "الرسمية"، إلى ترسيم سلطته وترجمتها إلى قوة شرعية، ولكنها صارت لحظة الطلاق النهائي مع الدولة، والاتجاه نحو بناء دولة موازية.
في الجلسة الأولى له في البرلمان يستعير ربطة عنق حارس القاعة الذي نبهه إلى أنه لا يجوز دخول القاعة دون ربطة عنق. فيما بعد يوجه له وزير العدل كلاماً قاسياً بوصفه مجرماً ويطالبه بالخروج من القاعة، فيمتثل اسكوبار على نحو غريب لا ينسجم مع شخصيته، ربما لأنه يفتقد أي خبرة أو معرفة سياسية. كان يمكنه أن يقول "أنا منتخب وخروجي يعني خروج من انتخبني وهم غالبية أهل المنطقة"، وكان يمكنه أن يقول "شرعية المنتخب الذي هو أنا، أعلى من شرعية عضو الحكومة غير المنتخب الذي هو أنت".
"أنا لست ثرياً، أنا فقير أملك الكثير من المال"، هكذا يضع اسكوبار الفارق بينه وبين الأثرياء الذين يحرسون دولة تحرس الفقر والحرمان في البلد
ولكنه لم يقل شيئاً. خرج، ثم أعاد ربطة العنق إلى الحارس، وتعامل مع إهانة الوزير له بطريقته الخاصة: "الاغتيال". ليدخل بعدها في صراع رهيب مع الدولة الكولومبية، إذ جعل القضاة الذين يحاكمون رجاله في المحاكم يرتدون الأقنعة لإخفاء هويتهم خوفاً من الاغتيال.
حمل إسكوبار في قلبه حقداً على النخبة التي تسيطر على البلد، من السياسة إلى الأمن إلى الإعلام. هل حمل هذا الحقد لأن هذه الدائرة كانت مغلقة في وجهه أم لأنها كانت تحاربه أم لأنها تنتج كل هذا البؤس في بلاده؟ يصعب القطع في القول.
إسكوبار الذي لم يخرج من جلده
اسكوبار الحديث النعمة كان في طفولته لا يملك حذاء يذهب به إلى المدرسة، حتى اضطرت أمه، التي لا تمتلك ثمن حذاء، أن تسرق حذاء من أجله. ويقال إنه وعدها منذئذ أن ينتقم لها من الفقر. ولكن، رغم أنه حديث النعمة، ليس بشخصية حديثي النعمة، لا يكترث بالمظاهر ولا بصنوف المتع التي يغرق فيها عادة محدثو النعمة، كالنساء والمجوهرات واللباس والخمور الفاخرة كما يقدمه مسلسل "ناركوس" على الأقل.
إسكوبار الحديث النعمة كان في طفولته لا يملك حذاء يذهب به إلى المدرسة، حتى اضطرت أمه، التي لا تمتلك ثمن حذاء، أن تسرق حذاء من أجله. ويقال إنه وعدها منذئذ أن ينتقم لها من الفقر
إذا نظرنا في نمط حياته، فإن اسكوبار لم يخرج من جلده، رجل بسيط في لباسه وفي عيشته وعلاقته بأسرته الصغيرة، محب لعائلته إلى حد أنه يتحول إلى كتلة من الحنان والرقة داخل بيته، فهو لم ينفعل في وجه أحد منهم ولو مرة واحدة. يتعامل مع زوجته بحرص وحب لا يخفى. يحب أمه إلى درجة أنه لم يتوجه لها بكلمة لوم واحدة حين خالفت تعاليمه وأوشكت، بسبب ذلك، أن تتسبب في مقتل العائلة كاملة. أما أبوه الذي كان دائماً على رفض لما يفعله ابنه، فقد استقبله ببرود حين لجأ إليه بعد أن تهدمت شبكته وبات في الحضيض. وقد يكون من أسوأ لحظات حياته، وأقوى مشاهد المسلسل، حين قال له الأب، بعد إلحاح الابن على السؤال عن رأيه به: "إنني أشعر بالعار".
لا ينطوي ما سبق على إعجاب بشخصية إسكوبار، فالجريمة، بوصفها كذلك، لا يغفرها شيء ولا يغسل عارها شيء. ولكن ما يجذب الاهتمام ويجعل من شخصية إسكوبار محل تأمل، هو، كما قلنا، هذا الجمع بين الجريمة وحب الناس. هذا يقول إن الطرق "الشرعية" للانتصار للناس ضد الفقر والحاجة ما تزال غير سالكة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون