شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
زرت مدن الزلزال ولا أعرف من أين أبدأ بالكتابة

زرت مدن الزلزال ولا أعرف من أين أبدأ بالكتابة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 10 فبراير 202301:38 م
Read in English:

Where do I start describing the earthquake devastation I saw?

بعد 24 ساعةً على الزلزال المدمّر الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا، بدأت بعض فرق البحث والإنقاذ بالعمل في مدينة هاتاي. تأخر العمل في المدينة تلازم مع انخفاض مستوى الأمل لدى من بقوا أحياء بالعثور على ناجين تحت الأنقاض، ولكن بعد 3 أيام من الكارثة، بات هؤلاء الجالسون قبالة بيوتهم المهدمة ينتظرون معجزةً لإنقاذ أناس لا يزالون على قيد الحياة.

ذهبت إلى مدن الزلزال جنوب تركيا، ولا أعرف من أين أبدأ بالكتابة.

انطلقت من إسطنبول بعد بضع ساعات من الزلزال باتجاه مدينة أضنة في جو عاصف وثلجي، وبعد أن تجاوزنا أنقرة، بدأت مشكلة الوقود تظهر، مع طوابير من السيارات التي تنتظر دورها على المحطات. اعتقدنا أن هذه الطوابير هي أم المشكلات لجهة بدء نفاد الوقود في مدن الكارثة، واتضح بعد ذلك أنها مجرد تمهيد، إذ إن المحطات المنتشرة بين مدن الزلزال أُغلقت تماماً، وساد ظلام حالك بين هاتاي وأضنة، عنتاب وأضنة، ولكن من الضروري القول إن مشكلة نفاد الوقود ضمن الجو البارد الذي تنخفض فيه الحرارة إلى ما دون الصفر، مشكلة بسيطة أمام هول ما سنراه بعد ذلك.

من أضنة إلى إسكندرون وهاتاي وعنتاب، كان الطريق الأشد قسوةً وبدا الوصول إلى المدينة أشبه بعقاب مستمر لا ينتهي؛ هنا هاتاي.

المدينة القديمة في هاتاي، والتي أتذكرها جيداً لشبهها الكبير بدمشق القديمة، تحولت في معظمها إلى ذكرى. الداخل إليها ينقطع بشكل شبه كامل عن العالم الخارجي

الطريق السريع إلى المدينة تحوّل إلى حارة صغيرة في أجزاء عدة، وفي أجزاء أخرى غاب تماماً لصالح شوارع جانبية تم تحويل السيارات إليها بسبب تصدع الطريق الرئيسي، ومع ذلك وبرغم الازدحام الشديد، بدت مشكلات الطريق باهتةً وطبيعيةً جداً، بمجرد وصولنا إلى هاتاي.

اسمحوا لي بأن أصف المكان. هاتاي اليوم مدينة حالكة السواد ليلاً، لا كهرباء للإنارة ما عدا الأضواء التي يستخدمها عمال الانقاذ، وهاتاي نهاراً كتلة من المباني المهدمة، فالحطام في كل مكان، والناس الذين هدّتهم الكارثة وأخرجتهم من بيوتهم بما يرتدونه من ثياب، يجلسون أمام مبانيهم المدمرة يرهفون السمع، على أمل خروج أصوات لأحياء من تحت الحطام، ولا أحد في هاتاي، لا أحد لديه أي فكرة عن كيفية البقاء على قيد الحياة من الآن فصاعداً.

المدينة القديمة في هاتاي، والتي أتذكرها جيداً لشبهها الكبير بدمشق القديمة، تحولت في معظمها إلى ذكرى. انهارت معظم أبنيتها وتصدعت الأخرى، ووسط كل ذلك الدمار، تكتشف فجأةً أن الداخل إلى المدينة ينقطع بشكل شبه كامل عن العالم الخارجي، فلا إنترنت ولا اتصالات هناك إلا في أوقات متقطعة وقصيرة.

يختلط الجيش بعمال الإنقاذ وعمال الصحة وأهالي المدينة. الجميع يريدون أن يساعدوا، والجميع يعرفون أن الزمان فات على إيجاد أحياء، والجميع أيضاً يسيرون كالمنوّمين مغناطيسياً، لا يعرفون من أين يبدؤون ولا إلى ماذا ستنتهي جهودهم.

مشينا بين صرخات أحياء يطالبون بالسرعة لنجدة أحبائهم تحت الأنقاض، وفي الوقت ذاته، يطالبون بالتأنّي والحذر، خوفاً من إيذاء من بقي حياً تحت الركام. معادلة مستحيلة الحل يواجهها الجميع كل ساعة؛ هنا هاتاي.

انسَ كل ما سمعته عن هاتاي، وكُل ما تشاهده من خلف الشاشة، فالمدينة تشهد كارثةً أكبر بكثير من أي وصف، المدينة في حداد لن ينتهي

في أضنة، كنت قد وقفت أمام بناء مهدّم بالكامل، ونساء بكين بشدة عندما أعلن عمال الإنقاذ أنه لم يتبقَّ أحياء تحت الركام، وظننت أن هذا الدمار كبير جداً، إلى حين دخلت هاتاي، فالمدن أيضاً مثل البشر، منها المحظوظة مثل أضنة ومنها من فقدت كل الحظ في لحظات عدة دمّر خلالها الزلزال كل شيء.

حلّت الكارثة في المدينة، إذ تضررت كل مبانيها بفعل الزلزال، فـ70% منها تضررت بشدة وغير صالحة للاستعمال في أي وقت لاحق، بمعنى أوضح، سيتم هدمها.

دهشتي لم تنتهِ بعد، الأرقام التي يجري الحديث عنها ستتضاعف سريعاً بعد اليوم، وستبدأ المصيبة الحقيقية بالظهور، وسيتخطى عدد الوفيات كل التوقعات، فالناجون في هاتاي وكأنهم أقل من المفقودين.

تركيا لم تكن مستعدةً لكارثة من هذا الحجم، هذه حقيقة تظهر لأي مراقب أو متابع لأخبار الزلزال، ولكنها تتحول إلى حقيقة وقحة وصادمة عندما تتورط وتدخل هاتاي.

انسَ كل ما سمعته عن هاتاي، وكُل ما تشاهده من خلف الشاشة، فالمدينة تشهد كارثةً أكبر بكثير من أي وصف، المدينة في حداد لن ينتهي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image