عادةً ما يلفتنا في بعض أفلام الإثارة والخيال العلمي بشكل خاص، تلك الفوضى العارمة التي يتسبب بها انتشار وباء أو حدوث كوارث، وربما يخيّل إلينا لبعض اللحظات أنها مجرد عملية تضخيم لإثارة المشاهدين وتفاعلهم، ولكن ما نشاهده هو صورة عن الواقع، ربما تُضخّم لأسباب درامية وتشويقية، ولكنها لا تبعد عن الحقيقة كثيراً.
في أعقاب الكوارث الهائلة، تزداد المخاوف بشأن تصاعد الجريمة وغيرها من أشكال الفوضى في الكثير من الأحيان. لكن في حين أن بعض الناس يستغلون الإلهاء الجماعي، فإن الخوف من الجريمة -خاصةً النهب- عادةً ما يتجاوز الواقع، بحسب ما يقول الخبراء الذين يدرسون العواصف وعمليات التعافي.
فعلى سبيل المثال، شهدت مدينة بافالو في ولاية نيويورك الأمريكية، في بداية كانون الأول/ ديسمبر، عمليات سرقة لعدد من المتاجر بالتزامن مع طقس قاسٍ وُصف بـ"عاصفة القرن الثلجية"، أدت إلى مقتل عشرات الأشخاص، وتداول روّاد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تظهر نوافذ شركات تجارية محطمةً في الشارع، وقد أفادت شرطة نيويورك بحدوث عمليات نهب وسرقة جرّاء العاصفة، ويُعدّ الخوف ومحاولة النجاة من الموت، عاملين أساسيين أحياناً في ازدياد معدل الجريمة، خاصةً النهب والسطو.
في أعقاب الكوارث الهائلة، تزداد المخاوف بشأن تصاعد الجريمة وغيرها من أشكال الفوضى في الكثير من الأحيان
ما بعد الزلزال
منذ أيام وعلى إثر الزلزال الذي ضرب تركيا والشمال السوري في 6 شباط/ فبراير الجاري، أشارت وكالة الاناضول التركية إلى توقيف 48 شخصاً على الأقل للاشتباه بقيامهم بأعمال نهب في 8 محافظات تضررت جراء الزلزال، وصرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال زيارته محافظة ديار بكر، بأنّهم قاموا بإعلان حالة الطوارئ، مضيفاً: "هذا يعني أنه اعتباراً من الآن، على الضالعين في أعمال نهب أو خطف أن يعلموا أن يد الدولة الحازمة ستصل إليهم".
كذلك، انتشرت الكثير من الأخبار حول سرقة التبرعات والمساعدات المرسلة إلى سوريا على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي رسالة لأحد الشهود العيان في منطقة جبلة السورية، يروي أن المساعدات الإغاثية تتم مصادرتها من قبل النظام فور خروج الهيئات الإغاثية من المنطقة. كما تحدث شهود عيان عن معاملة سيئة وسرقة في بعض المناطق من قبل المخاتير ومشايخ ومديري المدارس عن سرقة تبرعات من أكل وبطانيات، والامتناع عن توزيعها على الناس ومنعهم من الوصول إلى المساعدات الغذائية.
وقد وُزّع منشور لفضح كل من يتعامل مع الناس المتضررين بطريقة سيئة، ويقوم بسرقة المعونات والمساعدات. وإن كانت بعض الأمور في سوريا مرتبطةً بحسابات سياسية، فالبعض الآخر لما يجري ليس إلا حالة من الفوضى ولا بد هنا من التساؤل حول علاقة الفوضى والجرائم وخاصةً النهب، بالكوارث الطبيعية؟
تقول الدكتورة في علم الاجتماع مي مارون، في حديثها إلى رصيف22، إنه دائماً عند حدوث أي كارثة، من حرب، أمراض، أو كوارث طبيعية، يحدث ما تُعرف بـ"الفوضى العارمة"، حيث تصبح الناس غير قادرة على معرفة كيف تتصرف عندما تصبح فيه بمواجهة مع الموت".
وتضيف: "لم يمر على الزلزال سوى أيام قليلة وما زال الناس يعيشون في خوف وذعر كبيرين، وهذا ناجم عن الخوف والقلق من حدوث زلزال آخر، أمّا في مناطق الزلزال فلا يزل السكان يخشون المزيد من الهزات الارتدادية، ولهذا يقوم البعض بجمع كل ما يجدونه من أشياء؛ مواد غذائية، أثاث منزل، ثياب... إن كانوا بحاجة إليها أم لا، لأنهم خائفون من مواجهة الموت، لذا يجمعونها لكي يستطيعوا العيش من خلالها".
بحسب مارون، هذه الظاهرة موجودة عبر التاريخ في كل مكان يشهد حرباً أو كارثةً، "بحيث تقوم الناس بأغلبيتها بفعل السرقة والنهب، وقد نتفاجأ حتى بأشخاص يسرقون ونتعجب لفعلهم، وهذا يعود لأن كل شيء يسقط أمام مواجهتنا للموت".
أما عن حالات التحرش الكبيرة التي يتم الحديث عنها في مراكز التجمع في تركيا وسوريا بعد الزلزال، فترى مارون أنه "نوع أو شكل من انعدام الضوابط، إذ لا يوجد من يخافون منه خلال الكوارث ويرون أنه لا وجود لأي رقابة عليهم أو حتى عقاب لهذا قد تتحول الناس إلى غرائزها، وهذا طبيعي بحيث لا تعود الأخلاق هي الحاكمة في مثل هذه الأوضاع".
الأطفال في خطر
تحدث عاطف نعنوع، وهو أحد متطوعي فريق ملهم، على حسابه الخاص عبر الإنستغرام، عن أنه بعد الزلزال هناك مشكلة بدأت تظهر حيث أن صور الأطفال المنتشرة والتي تشير إلى أنهم من دون أب وأم، هي لأطفال يتم استغلاهم، ويقول: "في بعض ضعاف النفوس والأشخاص المستغلين عم بيروجوا ياخدوا الأطفال من المشافي، لذلك الحكومة التركية منعت نشر صور الأطفال من دون الأب والأم".
عند حدوث أي كارثة، من حرب، أمراض، أو كوارث طبيعية، يحدث ما تُعرف بـ"الفوضى العارمة"، حيث تصبح الناس غير قادرة على معرفة كيف تتصرف عندما تصبح فيه بمواجهة مع الموت
ووجه نداءً الى جميع المشافي الموجودة في الشمال السوري للحفاظ على الأطفال الذين يتم نقلهم إلى المشافي من دون ذويهم والحرص على تسليمهم إلى أقاربهم والتأكد من أن من سيستلم الأطفال هو فعلاً شخص موثوق وقريب منه. وقد أثار نعنوع هذا الموضوع بعد اختفاء أحد الأطفال الناجين من الزلزال الذي تم نشر صوره، بحيث تم تسليمه إلى شخص ادّعى أنه قريبه ولكن فريق ملهم نجح في الوصول إلى الطفل ووضعه تحت حمايتهم حتى تسليمه إلى والده الذي خرج من تحت الأنقاض.
وأمام ارتفاع هذه التخوفات، تواصل رصيف22، مع مدير المكتب الإعلامي في الدفاع المدني السوري محمد الشبلي، الذي أوضح أنه "في الدفاع المدني يوجد فرق تعرف برعاية العائلات family care والتي فوراً يتم توجيهها إلى نقاط التجمعات للسكان أو نقاط الإيواء، بحيث يقوم الفريق المدرب بزيارة هذه المجمّعات، والحديث مع الأطفال والاطمئنان عليهم وتقديم الدعم النفسي لهم، ما يشكل نقطةً مهمةً للتعافي من بعد الصدمات، كما يسهّل الوصول إلى الناس بهدف فهم ما الذي تعرضوا له وفي ماذا يفكرون".
ويشير إلى أنه "في الدفاع المدني يتم اعتماد بروتوكول خلال عمليات الإغاثة، من المفروض على كل قائد لفريق خلال عمليات الإنقاذ وضع كاميرا تساعدنا على مراجعة مركز توثيق الانتهاكات، ونقوم بمراجعة داخلية وخارجية للمراقبة وتجنّب أي خطأ قد يرد في سبيل المعالجة والمحاسبة".
ولم يسمع الشبلي، بأي عملية استغلال للعائلات، ولكن "نحن على قدر الإمكان نحاول تأمين أماكن آمنة أو التعاون مع غير مؤسسات لتأمينها، هذا بالإضافة إلى حملات توعية تقوم بها فرق الدفاع المدني للسكان في مناطق الكوارث بهدف الحماية، إلى جانب وضع مندوب عن مخيم ومدّه بالإرشادات اللازمة للحد من الانتهاكات ومن أشكال الاستغلال".
وكانت منظمة الرؤية العالمية (WORLD VISION)، قد حذرت من خطر استغلال الأطفال عقب الزلزال، وقالت: "مثل العديد من حالات الطوارئ التي استجابت لها منظمة الرؤية العالمية في الماضي، فإن الأطفال في سوريا الذين تأثروا بالزلزال المدمّر يوم الإثنين أصبحوا الآن في وضع ضعيف للغاية في سوريا، واجهوا بالفعل العديد من المخاطر. أصبحت مئات الآلاف منهم بلا مأوى الآن، وبعضهم قد انفصل عن أسره، مما يزيد من خطر تعرضهم للاستغلال أو التعرض للانتهاكات".
مساحة للمجرمين
الأطفال في سوريا الذين تأثروا بالزلزال المدمّر يوم الإثنين أصبحوا الآن في وضع ضعيف للغاية في سوريا، واجهوا بالفعل العديد من المخاطر
تشير صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير يعود إلى عام 2012، حول جرائم الاغتصاب في هاييتي، إلى أن "هذه البلاد تعاني بشكل روتيني من الكوارث السياسية والطبيعية، إلا أن الاغتصاب يمثل أزمةً خبيثةً بشكل خاص، بحيث استخدمت الديكتاتوريات الوحشية في هايتي الاغتصاب كأداة سياسية لتقويض المعارضة"، كما أنه في أعقاب زلزال عام 2010، كان سكان مدن الخيام في العاصمة أكثر عرضةً بنسبة 20 مرةً للإبلاغ عن اعتداء جنسي مقارنةً بغيرهم من سكان هاييتي.
وعليه، يعرّف خبير إدارة الكوارث والاستعداد للطوارئ رمزي أبو زيد، الجريمة بأنها "القيام بفعل يتنافى مع المعايير القانونية والاجمتاعية أيضاً، وتتمثل في التعدي والانتهاك الجسدي أو المعنوي على حقوق الآخرين، وينتج عنها ضرر، كما يعاقب عليها القانون نظراً إلى تحريم هذا الفعل في القانون".
ويشير إلى أنه وفقاً للتعريف، "يمكن تقسيم الجرائم إلى ثلاثة أصناف، وهي: جرائم ذاتية التوجيه، جرائم شخصية، وجرائم جماعية (جرائم الحرب الكوارث والفوضى...)"، ويشرح: "الجرائم الجماعية كما باقي الجرائم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمعدل الجرائم، إذ إن الإنسان يكون تحت ضغوط نفسية وجسدية هائلة، قد تكون الحافز الأساسي للأشخاص لتحويل سلوكهم المسالم إلى سلوك عنيف قد يصل إلى الإجرام".
وبحسب أبو زيذ، يمكن للكوارث الطبيعية مثل الفيضانات، الزلازل، الأعاصير، أن تكون محفزاً لزيادة معدل الجريمة على المدى القصير كما متوسط الأجل، ويقول: "عندما يشعر الإنسان بتهديد على حياته، حياة أهله والمقرّبين منه، ممتلكاته وانهيار نظام الأمن الاجتماعي، قد يقوم بتغيير سلوكه بدافع البقاء والدفاع عن النفس بشكل أولي. كما يحتمل أن يتطور هذا السلوك خلال التفلت الأمني من سلوك دفاعي إلى سلوك هجومي، فيقترف الجريمة إما لنقص نفسي أو لاقتناص الفرص في خضم الفوضى".
"أكثر من ذلك، قد تكون السلوكيات الجرمية قد أتت نتيجةً لندرة المنتجات والموارد خلال الأزمة، انهيار الأنظمة، انحلال السلطات أو تعسفها باستعمال القوة، كذلك فإن آثار الكارثة قد تختلف، كما وقعها، من فئة إلى أخرى حسب نسبة الاستضعاف، مثلاً: النساء الوحيدات، الأطفال، العجزة، أفراد العائلات الذين فرّقتهم الكارثة، هم أكثر عرضةً للجرائم من الأشخاص المنتمين إلى مجموعات كبيرة"، والكلام لأبو زيد.
إذاً وبحسب خبير إدارة الكوارث، فإن الزيادة في معدل الجريمة في أثناء الكوارث الطبيعية مرتبطة بالكثير من العوامل مجتمعة كي تصبح قاعدةً عامةً، فالبيئة الحاضنة للكوارث قد تكون إما سبباً للتكافل والتضامن والوعي بين المجتمع المدني والدولة، وإما سبباً للانهيار والفوضى وتفلّت الجريمة، وعليه تبقى الجهوزية والتخطيط لتخفيف المخاطر مفتاحاً لتفادي الأزمات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...