بصوت يحمل محاكاة مثيرة للدهشة لسمير غانم، لو قرّر تقديم برنامج إذاعي، وعلى إيقاع موسيقى مسرحية قديمة – هابطة في الأغلب- يأتي صوت آدم مكيوي، معلناً عن بدء بودكاست "ثرثرة فنية تراجيكوميدية... ذاتية وأحيانا موضوعية، مع مكيوي وزرقاني... مع زرقاني ومكيوي"، لتشعر فوراً بمزيج من الألفة والغرابة الممتعة، وأيضاً انشراح القلب واستعداده لكي يضحك ويتسلى ويفهم أيضاً.
الحقيقة أن البحث فيما يميز الفن الهابط وإعادة تدويره، سمة تميز هذا الجيل، في مجالات الفنون البصرية والمكتوبة.
آدم مكيوي مثقف ومعدّ للكثير من برامج التوك شو، وأيمن الزرقاني مثقف ورسام، إلا أنهما يحملان ما يمكن تسميته شغفاً موسوعياً بكل ما ينتمي للثمانينيات والتسعينيات من فنون سينمائية وتليفزيونية تجارية، ضمت كل شيء تقريباً، الجيد والهابط، لا يميزان بينهما إلا على أساس ثقل الدم، ويعيدان معاً اكتشاف بعض كنوزها، ما يجعل منهما مثقفين في هذا المجال، عالمين ربما بأدق تفاصيل إنتاجه، والأهم سياقه العام.
والاثنان مكيوي والزرقاني، من مؤسسي جروب "ليلة الفن الهابط" عام 2011، والذي أثار لدي شغفاً غريباً وقتها، عبر إعادة النظر بأفلام ومسلسلات ومسرحيات من الدرجة الثانية، أنتج أغلبها قبل الألفية الجديدة. إعادة نظر قادمة من الأساس من مشاهدتها بعيني الاثنتين، اللذين استمتعتا بها حقاً، فاستطاعا أن ينقلا تلك الروح الطفولية بالمعنى الإيجابي" لمن يتابعون هذا المجال الغريب للشغف، فجعلا منه مادة ذكية للكلام، يتخطى حتى حدود الفن، ليربط بسياقات تاريخية واجتماعية، عن تلك الفترة.
أدخل الغروب وقتها، معجم التراث المسرحي والسينمائي من الدرجة الثانية أو الثالثة، بإيفيهاته ونجومه، كوحيد سيف، فؤاد خليل، محمود القلعاوي، محمد نجم، إلى السوشال ميديا، وأن يمنحنا نظرة أخرى أكثر تفهماً لجهودهم التي مارسوها بحب من أجل تسلية جمهورهم بأعمال شعبية، مع قدرة على إدراك مكامن الاستمتاع بها، لأنهما استمتعا حقاً بمشاهدتها، وربما حضرا بعض كواليسها.
آدم مكيوي مثقف ومعدّ للكثير من برامج التوك شو، وأيمن الزرقاني مثقف ورسام، إلا أنهما يحملان ما يمكن تسميته شغفاً موسوعياً بكل ما ينتمي للثمانينيات والتسعينيات من فنون سينمائية وتليفزيونية تجارية
الحقيقة أن البحث فيما يميز الفن الهابط وإعادة تدويره، سمة تميز هذا الجيل، في مجالات الفنون البصرية والمكتوبة، ولعل الكيتش أو الكليشيه والتعامل معه فنياً، هو في ظني من أبرز ما قدمه واتكأ عليه الأدب المعاصر، من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، روايتا نائل الطوخي "نساء الكارنتينا" و"الخروج من البلاعة"، وهما الأهم في نظري في استدعاء هذا التراث، وتتسع لما هو أكبر من الإنتاج الفني، بل تضم أيضاً الكيتشات الأخلاقية، الحكم المتوارثة، أساطير المواطن والوطن عن نفسه، في بلاغة مصاغة من قلب الجحيم وهراء المسخ عن نفسه.
ولعل فن الجرافيتي الذي انتشر قبيل ثورة يناير، كان يلعب اللعبة نفسها من منظور مختلف، حيث تم استدعاء أيقونات الثمانينيات والتسعينيات، من خلال ممثلين أو مشاهد لأفلام أو عبارات شهيرة، وإعادة تدويرها داخل سياق مختلف، يحتفي بها من جهة، ويدخلها في حالة أخرى مهمة وسياق مختلف، كأنه يعيد إحياءها.
ولعلنا لا ننسى أن جزءاً كبيراً من تلك اللعبة بدأ في الأساس من الثلاثي هشام ماجد وشيكو وأحمد فهمي، في إعادة تدوير فيلم "الطريق إلى إيلات"، في فيلم أنتج بجهود ذاتية عام 2002، باسم "رجال لا تعرف المستحيل"، وكان يتداول من خلال أجهزة الكومبيوتر ويُعرض في الكافيهات، ومُنع من العرض من قبل أمن الدولة، لكنه مثّل الإرهاصة الأولى التي اعتمدت عليها الكوميديا المصرية "الذكية" في الألفية الجديدة، ككوميديا أحمد مكي أيضاً التي لم تتعامل مع النوستالجيا بخفة واستدعاء لا طائل من ورائه إلا الحنين، بل كان يحمل في طياته، كل الرغبات المتعارضة: الانتقام، التفكيك، التصالح أيضاً بوصفها مرحلة شكلت وعينا، وهو تصالح واع ومنتبه، يبدو كمرحلة أخيرة من التعافي من تغلغل الساذج في ذلك الوعي، كأنما نودع تروما قديمة، شكّلتنا لكنها لم تعد تتحكم في قراراتنا، بل نحن اللذين نقف منها في موقف السيطرة والتأمل.
ما يميز مكيوي وزرقاني أنهما تحت مسمى الفن الهابط، لا يعترفان بوجود مثل هذا المسمى الملتبس، بل يوسعان من مفهوم الفن نفسه، ليعيداه إلى البداهة الأولى: إما أن ما قدم فناً أو ليس بفن على الإطلاق، ومعيارهما في ذلك أيضاً هو معيار البداهة الأولى: هو أن ذلك الفن قد أمتعهما.
لذا يتناقشان بانغماس كامل على مدار ساعة ونصف في أيهما أفضل كممثل: أحمد بدير أم نجاح الموجي، يتناولان أعمالهما بلا استثناء، الجيد منها والمتوسط والرديء، يفعلانها أحياناً بجدية تجبرك على الابتسام، ثم بانفلات كامل من قواعد الجدية واللياقة أحياناً، كأصدقاء على مقهى، فلا يسعك سوى استدعاء مخزون ذاكرتك الشخصية عن اللحظات السعيدة التي منحها لك هذان الفنانان، عبر أعمال صرنا الآن نتنكر لأنها أسعدتنا ذات يوم، فنعود معهما إلى البداهة الأولى حول استقبال الأعمال الفنية.
ما يميز مكيوي وزرقاني أنهما تحت مسمى الفن الهابط، لا يعترفان بوجود مثل هذا المسمى الملتبس، بل يوسعان من مفهوم الفن نفسه، ليعيداه إلى البداهة الأولى: إما أن ما قدم فناً أو ليس بفن على الإطلاق
هذا لا يعني عدم إدراكهما للفارق بين الممتع من خلال ظروف سيئة وغير مكتملة، سواء بسبب ضعف أحد عناصر العمل الفني، سواء التأليف أو الإخراج أو الإنتاج، وبين ثقل الدم، لكن سخريتها المرحة غير المتعالية والبعيدة عن جلافة السخرية من الحماقة التي كنا بالتأكيد جزء منها، تجعلك تتأمل المشهد كله بتفهّم لا بغضب.
في حلقة محمد فؤاد على سبيل المثال، يميّز بوضوح بين كونه فناناً لديه تاريخ طويل من الأغاني المهمة، وبين الجوانب السخيفة في مسيرته، وفي حلقة سعيد صالح وعادل إمام، تنتصر الحلقة بشكل ما لموهبة عادل إمام، ودون أن تهدر موهبة سعيد العريضة، لكنها تردّ مكانة كل منهما إلى أسباب حقيقية موضوعية، كما يقول تتر البرنامج، وتنفي عنهما أساطير رأت في صعود عادل إلى القمة وبقاء سعيد في مكانه مؤامرة ما أو مجرد ذكاء شخصي من عادل إمام.
في التضاد بين شخصيتهما، مكيوي والزرقاني، ثمة مفارقة تضفي هالة من الحيوية والانسجام على البودكاست، كأنهما يذكراننا بثنائيات أحببناها على خشبة المسرح والسينما والتليفزيون، الزرقاني عقلاني، دقيق، يتكلم بحساب، هادئ في طرحه لمعلوماته ووجهة نظره، بينما يأتي مكيوي فوضوياً، متلبساً حالة سمير غانم، كما أشرت في بداية المقال، التي تحيل كل شيء عبر الصوت إلى مسخرة متكاملة الأركان، مسخرة محببة إلى النفس.
في الاثنين ذكاء جوهره اللطف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...