حياكة الكلام
في ذاك الخريف "السماوي" كنت على يقين أني قد ألِفَتُ تناسل الأسئلة من بَداهة كوني، كعادتي دائماً، مستجداً، ومتسلحاً بدُّرْبةُ مجربة باشرت يومي التعليمي الأول في إعدادية السماوة للبنين.
في نهاية اليوم أجبت دفعة واحدة: تلميذ مصري، قضيت عامين دراسيين في "مدرسة الأرمن المتحدة"، في ساحة "الطيران" القريبة من ساحة "الحرية"، حيث يدير نصب جواد سليم الشهير، ظهره لـ"حديقة الأمة"، في بغداد، قبلها كنت قد أمضيت ثلاثة في الفيوم، أشهراً في دمنهور، خمسة في الجيزة بين مدرسة "بين السريات" الإبتدائية، التي ولدت في الشارع الملاصق لها، وبين "وراق العرب" الابتدائية.
النُبَهَاءُ من زملائي الجدد، التقطوا تبرمي من مثل هذه اللحظات الرتيبة. مضطر دائماً لتحديث التعريف بمساري التعليمي وتاريخي الأسري. ترحيب واضح، وطلب توضيحات إضافية، ففصّلت أكثر واستفضت.
وهكذا، فمع نهاية يومي التعليمي الأول كان عدد معتبر من زملائي قد عرف جيداً وضعي الوجودي، كغريب ألِف حاله.
في الأيام القليلة التالية عَنَّ لأحدهم (النُبَهَاءُ) أن يستخلص: سنوات تعليمك الإحدى عشرة كانت بين ست مدارس وأربع محافظات ودولتين وقارتين، لماذا تُظهر نفسك كضحية؟
عَنَّ لثان: محصورون في هذا الحيز، الخانق، لم نفارقه، فكم كان حظك رائعاً.
تأتي في غير أوقاتها
كنت جديداً دائماً. لهذا مزايا، بالطبع، وله مضار: تلهف إلى "حرق" مراحل طبيعية: التعرف، الانتقاء، الثقة، فلا ضمان أنه سيأتي وقت كي تثبت، إذا ما طلب منك ذلك، للانتقام أو المسامحة، أو طلب العفو والمغفرة، إذ ما كانت هناك حاجة لذلك. يحدث دائماً ترتيب غير منطقي، تأتي الأشياء في غير أوقاتها، مبكرة كثيراً أو متأخرة للغاية.
حين نقلت إلى "وراق العرب" ظل زملائي، حتى رحلت إلى دمنهور، لا يصدقون أني، وقد كنت دون العاشرة، أذهب عصر كل يوم خميس إلى بيت جدتي لأمي في الدقي، حيث أرتاد سينما "سمارة" أو "مرمر" لأشاهد ثلاثة أفلام، وأعود إلى بيتنا بعد مغرب الجمعة. أبناء "بين السريات" كانوا يصدقون بالقطع، فعدد منهم يفعل مثلي: تسحبه رجلاه إلى الدقي، وربما إلى "مرمر" أو"سمارة".
أشهر دمنهور كانت خاطفة، وفوق المستوى الطفولي، بمراحل هائلة، ففيها حدث النصر.
في الفيوم كان مخزون حكاياتي يستعصي على النفاذ، ودون مبالغة، بدوت "خرافياً"؛ إذ ذكرت لزملائي أني شاركت في جنازة عبد الناصر، كنت قريباً من ميدان التحرير، محمولاً فوق كتفي أمي الناحبة، أو أني صافحت عادل إمام وحسن يوسف، وهما يصوران مشهداً من فيلم في مشتل للزهور، مجاور لمسجد "أسد بن الفرات"، في الدقي.
كنت وجاري محمد نتبادل الحكايات، بينما نطوف أشواطاً، ذهاباً وعودة، بين بيتينا في حي "الحيدرية"، الحي البادي حداثته، البعيد نسبياً عن "قلب" السماوة، حيث السوق "المسقوف" و"عكَد اليهود" و"حمام النساء". كان تبادلاً أشبه بـ "المقايضة".
محمد: سمح، بشوش، كريم، هادئ، سحرتني حكاياته عن جده، بدأها كأنه يذكر ما لا يليق الجهل به، فكأنه يقول: تمتاز السماوة بنخيلها، وصفحة الفرات العريضة، والصحراء اللانهائية، وبحيرتها (ساوة) الأسطورية، قال: جدي هو صاحب "أنا أدري".
كنت قد حكيت لمحمد أني حين كنت أعبر من دمنهور للفيوم، ظننت أنه الحِلِّ، وأنه لا ترحال بعده. لكنني أمضيت سنوات دراسية ثلاثاً متنقلاً بين ثلاثة مساكن، أحدها لم نتمكن فيه من إفراغ بعض الحقائب وترتيب المتاع.
كان مخزون حكاياتي يستعصي على النفاذ؛ إذ ذكرت لزملائي أني شاركت في جنازة عبد الناصر، كنت قريباً من ميدان التحرير، محمولاً فوق كتفي أمي الناحبة، أو أني صافحت عادل إمام وحسن يوسف، وهما يصوران مشهداً من فيلم في مشتل للزهور، مجاور لمسجد "أسد بن الفرات"، في الدقي... مجاز في رصيف22
وقلت له أيضاً :فاتني الكثير في كل محطة، ومع كل انتقال، لم أتقبل بسهولة العلاقات المبتورة، فيما بعد أصبحت لا أطيق سواها، والاستثناءات نادرة، تدربت على رعاية الانطباعات الأولى، فقد لا أجد التالية. كنت ألبى الدعوات حالما يُنطق بها، دون أدنى تردد، واستعداد تام لتقبل المفاجأت، والخسارات الناتجة عن التعجّل، لكن مصادفات لا أقدر كيف وقعت، أنتجت من هذه المقدمات، تجارب وخبرة مدهشة في بغداد.
بعد أسابيع، وبينما نغمس، في ساحة منزله، خبزاً في مرق لحم ونلتقط هبراً، قال: سأريك ديوان جدي. مع الشاي أتي بديوان "حلّ الطلاسم بين مشكّكٍ وعالم"، وراح يقرأ منه:
"لما رأيت قصيدة الطلاسم للشاعر اللبناني المجدد إيليا أبي ماضي مشتملة على التشكيكات حول العقائد الدينية، بادرت إلى معارضتها بأسلوبها الشعري على أسس المنطق والمحاكمات العقلية، مع شرح يحل المشكلة ويوضح المعضلة خدمة للعلم وللحقيقة الدينية وسميتها (حل الطلاسم) راجيا من الله تعالى أن يوفقني وآياه لهدايته". ثم ناولني الكتاب.
كان الشيخ محمد جواد بن علي بن كاظم الجزائري (1881- 1959)، جد جاري محمد، قد عارض قصيدة إيليا بن ضاهر أبي ماضي (1889-1957)، التي مطلعها "جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ"، وقد ذاعت شهرتها حين غنى محمد عبد الوهاب بعض أبياتها (1944). وقتها كنت، بالطبع، أعرف الأغنية. أعرفها، بالأساس، من غناء عبد الحليم حافظ لها في ذلك المشهد الشهير في فيلم "الخطايا"، الذي يعقب، مباشرة الصفعة والإعلان: "انت مش ابني... انت لقيط".
قال محمد: دعك من "العبدين" وضحك، دعك من حليم وعبده، القصيدة طويلة عنوانها "الطلاسم"، ومعارضة جدي جاءت على نفس الأسلوب: رباعيات (أربع أبيات بينها وحدة قصد ومعنى) تنتهي عند شاعر المهجر بـ "لست أدري"، وينهيها الشيخ بـ "أنا أدري".
قلت: لا يمكن الحكم على المعارضة إلا بقراءة الأصل. فذهب إلى المكتبة وأخرج كتاباً، وناولني أياه.
فتحته على هذه الأبيات، وقرأت بصوت مسموع:
إِن أَكُن أُبعَثُ بَعدَ المَوتِ جُثمانا وَعَقلاً
أَتَرى أُبعَثُ بَعضاً أَم تُرى أُبعَثُ كُلّاً
أَتُرى أُبعَثُ طِفلاً أَم تُرى أُبعَثُ كَهلاً
ثُمَّ هَل أَعرِفُ بَعدَ المَوتِ ذاتي لَستُ أَدري
وكان محمد يقلب في ديوان جده، محاولاً أن يهتدي للرباعية المعارضة. طلبت منه استعارة الديوانين، فقال: فأما الطلاسم، فنعم، أما حلها فلا يغادر البيت.
عالم آخر
كان محمد ومالك، جارنا الثالث، شغوفين بحكاياتي "البغدادية" أكثر من حكايات "بين السريات" و"وراق العرب" والدقي والفيوم.
مراهق لم أبلغ عامي الرابع عشر جئت بغداد، برفقة والدتي وأختي الصغيرة وأخي الرضيع، ملتحقين بأبي الذي سبقنا إليها بنحو عام. في "الأرمن المتحدة" تعرفت على زميلين، أصبحا صديقين: عمار توفيق، اللبناني الشيعي، الذي طاف والده أولاً بشبه القارة الهندية لسنوات في شبابه الباكر، ثم استقر في بغداد وتزوج قريبة له من بلدته، النبطية، وولد عمار في شقة في عمارة سكنية حديثة، تلاصق "الأرمن المتحدة".
قال محمد: دعك من "العبدين" وضحك، دعك من عبد الحليم وعبد الوهاب، القصيدة طويلة عنوانها "الطلاسم"، ومعارضة جدي جاءت على نفس الأسلوب: رباعيات تنتهي عند إيليا أبي ماضي بـ "لست أدري"، وينهيها الشيخ بـ "أنا أدري"... مجاز في رصيف22
حين تعرفت عليه لم يكن عمار يعرف من بغداد إلا الشارع المفضى إلى "الحرية" حيث يعمل والده، كانت الأسرة، وعمار بكرها، ملتزمة دينياً، وسمعت منه الحكايات الأولى عن "معاناة" شيعة لبنان: الفقر، والتهميش، والالحاق بالطوائف الأخرى بحسب تقلبات القوى. عمار توفيق كان النموذج الفذ الذي عرفته في مراهقتي، للوعي الباكر بالذات: انضباط عن اقتناع، جدية في الدرس، أفق مفتوح للمعرفة، وتدقيق صارم في التوائم مع مقتضيات الأسرة.
انفتحت مع هشام عبد الرحمن على عالم آخر، مغاير كثيراً. حكي لي عم أبو وجيه (والد هشام) عن سحر بحر يافا، ومأساة التهجير القسري، والتطواف في قبرص ولبنان وسوريا والاستقرار في بغداد، حيث نعمت في ذلك البيت العائدة ملكيته لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بكرم الصحبة ورحابة حكايات لا تفتعل السخرية من المأساة، بل تستبطن أملاً لا يخمد.
التوأم برزان ونضال قذفا بي إلى معارف لا أظن أنه كان يمكنني تحصيلها إلا عبر تلك النوافذ التي فتحاها لي. كانا يدرسان في المدرسة الأعرق في بغداد "الإعدادية المركزية" وكان مسكنانا متقابلين. عائلة كردية يسارية المزاج، ماركسية الثقافة، كان بكرها، مهدي، غائباً دائماً، التالي له، يوسف، يلامس المثال من كل شيء. في شتاء بغداد الثاني كان العم أبو مهدي يمسك بـ "طريق الشعب"، صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، ويقول لأولاده وهو يقرأ: "كفوا عن شرائها، الدم بدأ يجري"، ويقلب الصفحات مكملاً القراءة.
توازن عالمي قليلاً بوجود شامل، جار بعيد في البتاوين، وكان مثل التوأم، يكبرني بعامين: بعثي، مخلص الولاء، صادقه، لكنه بتأثير أبيه ناصري الهوى، وكان هواه مبالغاً فيه، يحفظ مقاطع من خُطب عبد الناصر، ويردد تلك الكلمات من "المنشية"، محاولاً التماهي مع لكنة ناصر: "فليبق كل في مكانه...".
عاما بغداد الدراسيان (1976- 1978) كانا زاخرين بالأحداث الجلل، وكانت البتاوين والأرمن المتحدة محتشدتين بما لا حصر له من تنوع: أرمن وكلدان وآشور وصابئة، سنة وشيعة، وفلسطينيين ولبنانيين ومصريين وعراقيين، بالطبع (من زخم التنوع أنسى أحياناً، لغفلتي، أنني في العراق)، عرب وكرد، كرد سنة، وكرد فيلية، مراهقات فائقات الجمال والعذوبة، ومراهقون ينضح شبقهم. تنوع غريب: كان بيت عم أبو وجيه يواجه مباشرة الكنيس اليهودي الوحيد في العراق، الذي كان يفتحه صباحاً ويغلقه مساء، عجوز يحرص، دائماً على تحية العم الذي يبادله نفس الحرص.
في ظهيرة يوم وجدت نفسي أسير في جنازة عابرة، كان الراحل هو وديع حداد (الأسطوري)، ثم من دون قصد وجدتني بجوار جورج حبش، ثم تجرأت على الركوب معه في السيارة المرافقة للسيارة التي حملت الجثمان.
ثم كان أن طوحت تنقلات أبي بأسرتنا إلى السماوة، بعيداً عن كل هذا، لكن كل هذا كان قد أصبح في قبضة الأب القائد صدام حسين، الذي بدأ ظله يخيم على الجميع.
تقرير طوعي
في منتصف ذاك الخريف "السماوي"، كان عبد علي، مدرس الرياضيات، قد شرع للتو في درسه، طُرق باب الفصل، وفُتح على شخص يتبعه آخر حاملاً صفاً عالياً من الأوراق، ثم دون أن يكلما مدرسنا أو يستأذناه، راح الأول يأخذ أوراقاً من الصف الذي يحمله الثاني، ويوزعها علينا، وكان عبد علي يرنو عبر الشباك إلى النخيل والفرات.
وقال الأول: خمس دقائق، الكل يملأ الأوراق، سأعود لجمعها. وغادرا، وظل عبد علي يرنو قليلاً، ثم غادر، بدوره، صامتاً.
بعض الزملاء بدا عليه أنه كان يتوقع هذه الأوراق، فشرع فورا في الملء. آخرون قلبوا الأوراق، وفعلت بدوري، كانت أسئلة مسرفة في التفاصيل: كل أفراد الأسرة، كل العائلة، الأقارب حتى الدرجة الثالثة، الاسم، السن، المهنة، الوظيفة، محل الإقامة، الديانة، الانتماء السياسي.
هل أنا أيضاً؟ سألت، ولم يجب أحد. انتظرت. جاء الاثنان، سألتهما: أنا أيضاً؟ أجابني الذي لا يحمل الأوراق: انزل للمدير، فنزلت، فقال: انتظر، وغادر مكتبه، وعاد، وقال: وأنت، قلت: مصري؟ رد: وإن يكن. طلبت مهلة للغد لأني لا أعرف، سأسأل والدي، قال: انتظر، وخرج وعاد، وقال: غداً.
أمضى أبي وأمي فترة ما بين الغداء إلى ما بعد العشاء يصحح أحدهما للآخر أسماء الأخوال والخالات والعمات وأماكن الأقامة والوظائف، ثم جرى حصر نسبة الخطأ، وكان المخرج أن يُجمع الجميع في مكان نثق من صدق معرفتنا به، وهكذا جمعنا عائلة أبي كلها في 6 شارع سلطان بهنس بالفيوم، وكل عائلة أمي في 46 شارع الوابور بالدقي- الجيزة. بقت مسألة دقة الأعمار والوظائف، وتم ملء الأوراق على التقدير.
في ظهيرة يوم وجدت نفسي أسير في جنازة عابرة، كان الراحل هو وديع حداد، ثم من دون قصد وجدتني بجوار جورج حبش، ثم تجرأت على الركوب معه في السيارة المرافقة للسيارة التي حملت الجثمان ثم أصبح الجميع في قبضة الأب القائد صدام حسين، الذي بدأ ظله يخيم على الجميع... مجاز في رصيف22
بعد أسابيع، وكان الشتاء قد أشتد، طُرق الباب، وفُتح، وإذ هو بمفرده، خطا خطوتين، ونظر إلينا كأنه ينظر إلى عيني كل واحد منا، وقال: اللي مو بعثي يخرج من الصف (من لا ينتمي لحزب البعث...)، وقف ثلاثة زملاء، ووقفت، وقلت: أنا أيضاً، قال: برا (إلى الخارج)، خرجت، وأنا أقول: أنا مصري!
كان المدير يقف خارج مكتبه، وخلفه يقف شخصان، وأمامه بضع زملاء، انتظرت حتى انصرفوا، وقلت: أنا مصري، ماذا على أن أفعل؟ قال أحد الواقفين خلفه: انتظر، ودخل إلى غرفة المدير، وخرج، وقال: الكلام واضح كل الطلاب اللي مو بعثيين يتركون المدرسة ولا يعودون إليها إلا بعد أن يمضون على طلب انتماء للحزب القائد، حزب البعث العربي الاشتراكي، مفهوم، قلت: لكني مصري، ثم أردفت، متفذلكاً: الرئيس القائد قال: "كل عراقي جيد هو بعثي وإن لم ينتم، وكل بعثي جيد هو عراقي وإن لم ينتم"، فضحك وقال: وأنت شنو (ماذا) دخلك بهذا، أأنت عراقي جيد؟ قلت: مصري، قال: أأنت بعثي جيد؟ قلت: أنا تلميذ مصري، قال: إيـــ.... بك وبالمصريين.
علمت بعد ذلك أن هذا الشخص تمت معاقبته لأنه شتم المصريين. حاول والدي إقناعي ورفضت، وتسامح مع رفضي، ثم تحايلت، بحيلة بلهاء، لكنها مررتني إلى الجامعة، وإلى أكاديمية الفنون الجميلة، حيث لم يكن مسموحاً لعراقي غير بعثي أن يدخل إليها، وكان الطلاب العرب مستثنين من هذا القيد.
حيلة بلهاء
كانت الحيلة بلهاء، مركبة من كذبتين، استنفذت الأولى أغراضها، لكنها قبل ذلك ولدت الثانية: قلت أنا عضو في حزب سياسي معارض للسادات، فطُلب مني أن أكتب تقريراً عن ذلك كي أعود للمدرسة، وكان في مكتبتي كتيب صغير، أصدرته دار الفارابي في بيروت، متضمنا البرنامج السياسي لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، فنقشت منه ما مررني إلى الجامعة، وما جعلني أشعر بعار أن يطرد أبناء البلد من مدارسهم وأظل أنا الغريب، الوافد الكاذب، المحتال.
كذبة "التجمع" لم تصمد في تفكيري خلال الصيف وأنا أتجهز للعودة إلى بغداد، بمفردي، بينما ظلت الأسرة في السماوة. كانت محطتى الأولى في الوزيرية، حيث يقع مبنى مقر الاتحاد العام لطلاب جمهورية مصر العربية، فرع العراق، ومع الأيام الأولى أيقنت أن تلك الكذبة أشد وطأة، فكانت الثانية: أنا عضو في حزب البعث العربي الاشتراكي، تنظيم قطر العراق، وقد مررتني، لثلاث سنوات جامعية، وجعلت العار يتضاعف مع كل سؤال: لماذا لم تطلب نقلك إلى التنظيم القومي، مكتب مصر، أو مكتب الطلبة والشباب القومي؟ فأتعلل بعلل خيالية، وتنسرب الأيام، فيعود السؤال، ويعود الخوف من انكشاف الكذبة.
في شتاء الحرب الثالث لم أعد قادرا على تحمل شعور العار والخوف، وكانا لا يقارنان بالشعور بهول الجريمة التي ترتكب في حق العراقيين، فأقنعت أبي بضرورة أن أعود خلال الإجازة الصيفية إلى مصر كي استخرج أوراقي الشخصية (البطاقة الشخصية، جواز السفر) وأن أنهي أوراق تأجيل التجنيد، وأعود لاستكمال دراستي في بغداد، فوافق على مضض، بينما كنت في الواقع، كاذباً، وأنوي المكوث في مصر، واستكمال دراستي في المعهد العالي للسينما، وعدم العودة للعراق.
بحوزتي ورقة رسمية واحدة، عليها تصديق وزارة الخارجية المصرية، على صحة ختم السفارة المصرية في بغداد، التي تصدق بدورها على الأختام والتواقيع العراقية، كنت طالباً في الصف الثاني بقسم الفنون المسرحية باكاديمية الفنون الجميلة- جامعة بغداد، ذهبت بها كي استخرج بطاقة تحقيق الشخصية، وأمام الموظف المختص حكيت ملخص قصة حياتي، منذ أن تزوج أبي، وهو طالب بالصف الثاني في كلية التجارة- جامعة القاهرة، بأمي، التي لم تكن قد بلغت السن القانوني للزواج (كان المأذون حصيفاً، ورأى أن عمرها بالأشهر الهجرية قد أتم الشرط القانوني، الذي يجد غضاضة في الالتزام به)، حتى اللحظة التي وقفت فيها أمامه. سمع القصة بكل أريحية وقال: القانون واضح: شهادة الميلاد وقيد دراسي، مفهوم.
قلت متفذلكاً: الرئيس القائد قال "كل عراقي جيد هو بعثي وإن لم ينتم، وكل بعثي جيد هو عراقي وإن لم ينتم"، فضحك وقال: وأنت شنو دخلك بهذا، أأنت عراقي جيد؟ أأنت بعثي جيد؟ قلت: أنا تلميذ مصري، قال: إيـــ.... بك وبالمصريين... مجاز في رصيف22
من الصيف حتى الشتاء جرى سؤالي مئات المرات أسئلة عجيبة غريبة: مصري، أين أبوك، ماذا يفعل هناك، كيف نكتب جامعة بغداد، أنت مصري، من أم مصرية أم عراقية، ماذا تفعل هناك؟، تدرس مسرح؟، "طب اعملنا حاجة تضحك"، مسخرة لا وصف لها.
أخيراً، وقفت أمام موظف، بعد توصيات من كبار، تساهل كثيراً حسبما قال لي، لكنه تعنت في مسألة محل الإقامة، كيف يكتب محل السكن العراق، محافظة صلاح الدين (كان أبي قد نُقل من السماوة إلى الناصرية، ثم إلى هذه الأخيرة)؟، قلت: أكتب 46 شارع الوابور بالدقي، هذا بيت جدتي لأمي، سأل باسماً معك ما يثبت؟ قلت: ماتت جدتي، قال: إعلان وراثة به اسم أمك، ولم يكن أحد من أخوالي أو خالاتي معنياً بهذا، قلت: خالي يسكن هناك، قال: قيد عائلي يثبت أن هذا الشخص خالك، ثم أنت تقيم في الدقي أم في عماد الدين، قلت: صلاح الدين، وأنصرفت، وقد يئست من الوابور.
ولم يبق أمامي إلا سلطان بهنس، كنت أريد الوابور لأني عزمت على البقاء في القاهرة، حيث معهد السينما، وتصادف أن لفظني المعهد في نفس الأسبوع الذي لفظني فيه الوابور، وكان سلطان بهنس سهلاً إلى حد معجز.
في اليوم التالي وضعت البطاقة الشخصية في جيب القميص الأبيض، ونزلت إلى مكتب التجنيد، ليس أكثر من ربع الساعة، ومضيت ظافراً بتأجيل أداء الخدمة العسكرية إلى إتمام الدراسة الجامعية أو بلوغ الثامنة والعشرين من العمر، أيهما يأتي أولاً، وبقى من يوم العمل ساعتان كاملتان، فذهبت استخرج بطاقتي الانتخابية؛ كي يكتمل تأهيلي كمواطن صالح.
أمام البوابة الحديدية استوقفني عسكري وسأل: بندر ولا مركز، قلت: بطاقة انتخابية، فسألني: هو في انتخابات؟ أجبت: لا أعرف، فسألني: أومال عايزها ليه؟ قلت: هذا واجبي بحسب القانون، فسكت، ثم تراجع خطوتين وجلس على مقعد خشبي، فدخلت. ثم سألت: فين بيطلعوا البطاقات الانتخابية، فجاء السؤالان نفسهما، وظلا يتكرّران، بينما يسلمني شخص إلى آخر، حتى وصلت إلى ضابط، قال: فين بطاقتك؟
أخرجتها ووضعتها بين يديه، قلبها، وقرأ ما فيها من بيانات، ثم سألني: أنت مصري ولا عراقي؟ أخرسني السؤال، فقبل، وقرأ وأعاده، في ذهول أجبت: كما هو واضح، أنا مصري، كيف يمكنني أن أستخرج بطاقة تحقيق شخصية إذا كنت عراقياً؟ وهذا تأجيل التجنيد، وهذا ما يفيد أني طالب بجامعة بغداد، أبي وأمي مصريان، تزوجا وأنجباني، ثم خطر ببال أبي أن يسافر للعمل في العراق، ولحقنا به، ثم جُننت وأردت أن أعود. أوقفني الضابط عند ثم الأخيرة، سائلاً: عايز أيه دلوقت؟ أجبته: بطاقة انتخابية، فسألني مندهشاً: هو في انتخابات قريب؟ ضحكت: وقلت: نعم، الانتخابات قريبة، سأل: جد، عرفت منين؟
في مكتب المأمور، ظللنا، الضابط وأنا، نتبادل الاعتذارات لدقائق، ذلك أن ما أعقب "عرفت منين" كان يستدعي تدخلاً خارجياً على أعلى مستوى، فقد أمسكت بالبطاقة وتأجيل التجنيد وقيدي الدراسي ومزقتها جميعاً، فأمر الضابط عساكره بتقيدي وحبسي، ودخلت في هذيان عارم. وجاء أقارب عقلاء، أصحاب نفوذ، وتراضى الجميع.
عند المغادرة، في الليل، كانت بطاقة تحقيق الشخصية الجديدة والتأجيل الجديد، ومعهما البطاقة الانتخابية، في ظرف من الأظرف الرسمية.
وفي يوم من بواكير الصيف عدت إلى بغداد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت