"العلاقات المغربية الإسبانية بلغت مرحلةً جديدةً من الثقة والتعاون والبناء"؛ بهذه العبارات وصف الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى بايتاس، الروابط التي تجمع بين الجارتين، بعد الإعلان عن طي صفحة أزمة دبلوماسية، دامت لأشهر طوال، في قمة "اللقاء رفيع المستوى" الذي انعقد يومي 1 و2 شباط/ فبراير. تطرق الحوار خلالها للشراكة بين الرباط ومدريد في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية.
كان ملك إسبانيا فيليبي السادس، قد أكّد قبل أيام من اللقاء، على أن الاجتماع بين البلدين، الذي لم يُعقد منذ سنة 2015، "مكّن من تعميق العلاقات الثنائية واسعة النطاق"، مشيراً إلى أنه "يأتي في سياق خريطة الطريق المتفق عليها خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي"، إثر الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، إلى المغرب بدعوة من الملك محمد السادس.
"الجوار الحذر"
برغم الأزمة الطويلة التي مسّت العلاقة الثنائية بين الرباط ومدريد، إلا أن الجليد ذاب إثر الاصطفاف الإسباني إلى جانب مقترح الحكم الذاتي للصحراء الغربية الذي تقدّمه المملكة كحل للنزاع في الملف، وهو الأمر الذي كان قد أعلن عنه رئيس الحكومة الإسبانية، وعُدّ تحولاً جذرياً في السياسة الإسبانية حيال المغرب ومستعمرته السابقة، وجاء ليعيد الدفء إلى علاقات قوية في المجال الاقتصادي، فإسبانيا تُعدّ الشريك التجاري الأول للمغرب منذ سنة 2012، وكذلك استطاع البلدان على امتداد سنوات طويلة، العمل المشترك على المستوى الأمني، لمُواجهة التنظيمات المتطرفة والجماعات المسلحة وفي مجال ضبط الهجرة.
تفاعلاً مع الموضوع، رأى الخبير في العلاقات المغربية الإسبانية ومؤلف كتاب "الجوار الحذر" الذي يحلل عبره العلاقات المغربية الإسبانية منذ وفاة الملك الحسن الثاني إلى حين تنحّي خوان كارلوس، نبيل دريوش، أن "من يطّلع على البيان المشترك للقمة العليا المشتركة، يستنتج أننا إزاء مرحلة جديدة في العلاقات المغربية الإسبانية، هي بنت الأزمة الدبلوماسية والسياسية الأخيرة والمتغيرات الإقليمية والدولية، التي فرضت على البلدين وضع مقاربة جديدة لعلاقاتهما الثنائية تقوم على الحوار والشفافية والتواصل والاحترام المتبادل للسيادة الوطنية، وعدم اللجوء إلى إجراءات أحادية الجانب تضر بمصالح الدولة الأخرى أو تسبب لها أي حرج".
بعد أزمة دبلوماسية عادت المياه إلى مجاريها بين المغرب وإسبانيا. فهل تتغير العلاقات بين البلدين اللذين طبعت علاقاتهما صيغة "الجوار الحذر"؟
وأضاف: "نحن أمام منطق جديد في تدبير الخلافات يجد مرجعيته الأولى في بنود اتفاقية الصداقة وحسن الجوار والتعاون الموقعة سنة 1991، بين البلدين، وفي خريطة الطريق لـ7 نيسان/ أبريل 2022، في انتظار تحيين اتفاقية الصداقة التي مر على وجودها أكثر من ثلاثة عقود، ولم تعد تواكب التطورات الكبيرة التي شهدتها دينامية هذه العلاقات في العقود الماضية".
ويوضح دريوش، في حديثه إلى رصيف22، أن "بيان القمة المشتركة فتح الباب أمام شراكة جديدة تعتمد الواقعية السياسية في تدبير الملفات الشائكة، وتحاول تعزيز المشترك بين البلدين، ومن هنا نلمس تركيزهما على الثقافة والتعليم، والحديث عن فتح فروع لجامعات إسبانية في المغرب، وتدريس المواد العلمية في بعض الثانويات باللغة الإسبانية، بالإضافة إلى إحداث تقارب علمي وإنساني أكبر مع الجارة الشمالية".
أما في ما يخص المجال الاقتصادي، فأكد المتحدث نفسه، في حديثه إلى رصيف22، على أن "الاقتصاد اليوم بات ركيزةً أساسيةً في تقوية العلاقات، ولبنة لامتصاص الأزمات، فكلما كانت شبكة المصالح متينةً يسهل تدبير الملفات الخلافية التقليدية؛ خاصةً أننا نُعايش ولادة نظام عالمي جديد، بتعددية قطبية جديدة، أمام تراجع الأقطاب القديمة"، مفسراً أن "تداعيات أزمة كوفيد وحرب أوكرانيا بكل مخلفاتها على الاقتصاد والسياسة العالميين، سرّعا من ولادة هذا القُطب الجديد، ومن هنا أدركت إسبانيا أنها أمام خيار واحد، هو التحالف مع المغرب لمواجهة هذه المتغيرات".
"من يطّلع على البيان المشترك للقمة العليا المشتركة، يستنتج أننا إزاء مرحلة جديدة في العلاقات المغربية الإسبانية، هي بنت الأزمة الدبلوماسية والسياسية الأخيرة والمتغيرات الإقليمية والدولية
"يُمكن أن تكون إسبانيا خير محامٍ يدافع عن مصالح المغرب ويرفع عنه الأذى في بعض اللحظات"، يسترسل صاحب كتاب "الجوار الحذر" في حديثة إلى رصيف22، مردفاً أن "إسبانيا هي شريكنا التجاري الأول منذ عشر سنوات، وهناك جهود تُبذل لأجل أن تتقوى الاستثمارات الإسبانية في المغرب، وقد تتحول إسبانيا مع الوقت إلى المستثمر الأول، وكل ذلك يصبّ في مصلحة المغرب وله تأثير على الملفات الخلافية، وهناك قاموس اقتصادي جديد بين البلدين بالحديث عن الاستثمار في مجالات جديدة مثل الطاقات المتجددة والهيدروجين الأخضر وتحلية مياه البحر وصناعات قطاع غيار الطائرات وصناعة السيارات".
ذوبان الجليد بين البلدين
قطعت العلاقات المغربية الإسبانية أشواطاً طويلةً، لتصل في نهاية المطاف إلى مرحلة وُصفت من طرف متتبعي العلاقات بين البلدين بـ"ذوبان جليد الأزمة"؛ الشيء الذي أكدته جُملة تصريحات ومواقف من مسؤولي البلدين، وكان آخرها عدم تصويت تحالف رئيس الوزراء سانشيز، لصالح قرار للبرلمان الأوروبي يدين أوضاع حرية الصحافة وحقوق الإنسان في المغرب، ليشير عقبها في البرلمان الإسباني إلى أنه "من الملائم لمدريد والاتحاد الأوروبي الحفاظ على أفضل العلاقات مع المملكة المغربية، من أجل السيطرة على تدفقات الهجرة"، مردفاً أن هناك "معطيات تدل على أهمية هذه العلاقات".
في هذا السياق، يرى خبير العلاقات الدولية أحمد نور الدين، أن "الرؤية المستقبلية لبناء شراكة حقيقية وتخليصها من الفخاخ والمطبّات، تقتضي ألا نخلط بين ما هو آني في السياسة، وما هو إستراتيجي، وبعيد المدى، إذ إن السياسة فن الممكن، والإستراتيجية فن ما يجب أن يكون، وليس هناك تعارض بين المنطقين، ولكن تكامل في الأهداف، مع اختلاف في المدى الزمني وآليات الاشتغال".
يفرض الواقع الدولي الجديد شراكات وتحالفات لا يستطيع أي بلد التخلي فيها عن محيطه القريب. وهي النقطة التي فرضت التقارب المغربي الإسباني لأنها شراكة رابحة للطرفين
يوضح الخبير في العلاقات الدولية، في حديثه إلى رصيف22، أنه قد تمت "سياسياً، مراجعة تاريخية للموقف الإسباني من الصحراء في آذار/ مارس 2022، فأصبح علينا واجب تعزيز الرصيد المشترك سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً وغيرها من الجوانب التي تحقق فيها عدد من المكتسبات، من دون أن نقدم تنازلات تهم قضايا السيادة والمصالح الحيوية للمغرب"، مشيراً إلى أنه على "المفاوض المغربي أن يمتلك تصوراً شاملاً لما يريد أن تصل إليه الشراكة بين البلدين مستقبلاً من دون إغفال ماضي تلك العلاقات وحاضرها، بما فيها من صفحات مشرقة وصفحات معتمة".
"على ضوء هذا التصور الشامل يجب أن يتحلى المُفاوض المغربي بالشجاعة الكاملة لطرح كل القضايا الخلافية على طاولة العلاقات بين الرباط ومدريد، ومنها تحرير سبتة ومليلية والجزر الـ11 المحتلة، والاعتذار عن جرائم القصف الكيماوي في شمال المغرب وتعويض الضحايا، والهجرة والحدود البحرية وغيرها"، يؤكد نور الدين في حديثه إلى رصيف22، مشيراً إلى أنه بالرغم من أن "منطق السياسة يقتضي أحياناً غضّ الطرف عن بعض المطالب، وإن كانت إستراتيجيةً وحضاريةً، بسبب إكراهات اقتصادية أو سياسية أو لتقديرات جيوسياسية إقليمية أو دولية قد نتفق معها وقد لا نتفق، ولكن ليس من حقنا أبداً أن نقدّم تنازلات في قضايانا الأساسية والسيادية".
تجدر الإشارة إلى أن الدورة الثانية عشرة للاجتماع رفيع المستوى المغربي-الإسباني، اختتم أشغاله بإصدار إعلان مشترك أعرب فيه الطرفان عن التزامهما باستدامة العلاقات الثنائية العريقة، مؤكدَين على رغبتهما في إثرائها المستمر، بناءً على الثقة والاحترام المتبادل في التعامل مع كل القضايا ذات الاهتمام المشترك. فيما وقّعا عدة اتفاقيات تعاون شملت مُجمل المجالات، منها: السياحة، وتدبير الهجرة، والتكوين المهني، والبحث والتنمية، والموارد المائية، والبيئة، والفلاحة، والبنيات التحتية، والنقل، والحماية الصحية، والضمان الاجتماعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...