شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"رحيق عطلة الصيف" وأسئلة الحزن والسلام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 21 فبراير 202305:39 م

هناك نوعان من البشر، نوع يعاني من الاكتئاب ونوع لا يعاني. بهذه البساطة يمكننا تقسيم البشر بناء على عامل الاكتئاب. فالاكتئاب، كمرض وليس كحالة مزاجية حزينة يظن بها الفرد أنه مكتئب، عبارة عن خليط مرير للغاية، تتشابه أعراضه لدى كل من يعاني منه. فمن الألقاب المعروفة عن الاكتئاب إنه "كلب أسود"، ويختلف حجم ذلك الكلب وقوة سيطرته على الفرد ويومه بناء على الحالة المزاجية والصحية التي تتغير بشكل يومي بالتأكيد إن كان الشخص يعاني من الاكتئاب. وفي الأيام التي يكون بها الكلب هو المهيمن، قد يصل الأمر حتى للانتحار. فمؤخراً، وفي مصر بالتحديد، هناك العديد من حالات الانتحار التي يكون السبب بها قسوة الأباء. فقبيل انتحار شاب من أعلى قلعة صلاح الدين في القاهرة، تكون كلماته الأخيرة هي: "أبويا اللي وصلني لكدا".

فيلم Aftersun- رحيق عطلة الصيف

دائماً ما ينقسم المجتمع العلمي في المجال النفسي حول نسبة تأثير العوامل الوراثية في مقابل أحداث الحياة على الإصابة بالاكتئاب وتطوره لمحاولات انتحار. وفي الأغلب ترجح كفة العوامل الوراثية، حيث ينتشر وجود حالات اكتئاب سريرية في التاريخ المرضي لعائلة واحدة بشكل متكرر. وهو أمر في حد ذاته يؤرق مرضى الاكتئاب، فيلازمهم خوف مستمر من توريث معاناتهم لأبنائهم، و أن يكونوا مجرد حلقة في سلسلة المعاناة الكبرى، وبالتالي يعزف جزء كبير منهم عن الزواج والإنجاب.

هناك نوعان من البشر، نوع يعاني من الاكتئاب ونوع لا يعاني

لا شك أن الاكتئاب من أكثر الأمراض النفسية إلهاماً للمبدعين، وقد يعود ذلك لكثرة انتشاره في محيط الفرد، أو قد يكون السبب هو كثرة ما يمكن تقديمه حول الاكتئاب والمكتئبين ومعاناتهم. عرض لنا في بانوراما الفيلم الأوروبي في دورته الخامسة عشرة في سينما زاوية بالقاهرة فيلم "Aftersun" (رحيق عطلة الصيف)، جانباً من الاكتئاب، يختلف تلقيه من فرد للآخر بناء على التجربة الشخصية مع الاكتئاب.

إنه بالتأكيد ليس رحيق عطلة الصيف

فيلم Aftersun تم عرضه تحت عنوان "رحيق عطلة الصيف". يتناول الفيلم استرجاع صوفي (فرانكي كوريو كطفلة وسيليا رولسون هول كراشدة) لرحلتها مع والدها عندما كانت في الحادية عشرة من عمرها إلى تركيا بعد عشرين عاماً من الزيارة. تكتشف "صوفي" أثناء إعادة مشاهدة المقاطع التي تجمعها بوالدها أن ذلك الرجل الذي شاهدته تواً يختلف تماماً عن الرجل الذي أدركته أثناء الرحلة نفسها، وأنها لم تفهمه قط قدر ما فهمته الآن وهي في نفس عمره وتمر بنفس رحلته وظروفه. في نفس الوقت يكتشف المشاهد -الذي في الأغلب يمر بنفس ظروف كولم- أن الفيلم الذي أوشك على نهايته كان يناقش بسلاسه مبالغ فيها "الاختناق" المصاحب للاكتئاب.

بوستر فيلم aftersun

فيلم رحيق عطلة الصيف من كتابة وإخراج شارلوت ويلز، ومن بطولة بول ميسكال في دور كولم والد صوفي، وبشكل أساسي يتمحور الفيلم حول الأثنين فقط. حيث يعاني كولم من اكتئاب تظهر أعراضه بالتدريج مع تصاعد الأحداث حتى تصل لذروتها عندما ينفجر الكلب الأسود في وجه ابنته التي تحاول الاحتفال بعيد ميلاده، ذلك أن الغرض الأساسي من الرحلة هو الاحتفال بعيد ميلاد الأب والأبنة معاً.

يرفض كولم مشاركة ابنته الغناء مثل عادتهما السنوية في العطلات ويحتدم النقاش بينهما حتى يفترقا، فتظهر أعراض "اكتئاب عيد الميلاد- Birthday Blues" التي يعاني منها كولم الذي يعني الشعور بالحزن والإحباط مع حلول عيد مولد الفرد، الأمر الذي عانت منهما صوف نفسها في يوم ميلادها، وصارحت والدها بذلك ليكتشف أن محبوبته الصغيرة ستعاني طوال عمرها من الاكتئاب وأعراضه كما عانى هو، تلك اللحظة التي يكره كولم نفسه بها جزء أكبر مما يكرهه بالفعل.

يتناول فيلم "رحيق عطلة الصيف" تجارب مختلفة مع الاكتئاب، ذاك المرض الذي يختلف تلقيه من فرد للآخر، فتختلف التجارب وتتنوع أوجه المعاناة

 عبرت صوفي عما تشعر بوصف انعدام الطاقة بعد يوم طويل، وهو بالضبط ما يمر به المكتئب، إذ تأفل شمسك فجأة، تبدد كل طاقتك بدون مقدمات بعد أن كنت ممتلئاً بالوقود، الأمر بالتأكيد يشبه غروب مفاجئ للشمس، بالتالي مصطلح "بعد الشمس" دقيق في وصف الفيلم أكثر من رحيق عطلة الصيف.

عندما تشعر بالذنب لأن أحدهم يشعر بالذنب بسببك

"أعتقد أنه من الجميل أن نتشارك نفس السماء. أحيانًا أثناء اللعب أنظر إلى السماء، وإذا كان بإمكاني رؤية الشمس، أفكر في حقيقة أن كلينا يمكنه رؤية الشمس. لذلك على الرغم من أننا لسنا في الواقع في نفس المكان، ولسنا معاً في الحقيقة، فهناك ما يجمعنا بطريقة ما، أعني أن كلينا في الأسفل تحت نفس السماء، لذلك نحن بطريقة ما معاً".

فيلم Aftersun- رحيق عطلة الصيف

بالرغم من معاناة كولم، وبالرغم من أنه شخصيا لم يحظَ بطفولة سعيدة، لم يغدق عليه بالحب والاهتمام بعيد ميلاده، كما أنه لم يحصل على دعم في أن يكون ما يحب أن يكون، إلا أنه يسعى دوماً أن يوفر تلك الأمور لصوفي باستمرار، حتى لو سيتطلب منه ذلك التخلي عن جزء من راحته، وإجبار نفسه على الانخراط في مجتمع وهو يشعر أنه يغرق أكثر وأكثر في بئر حزن لم يفجره شيء سوى اقتراب يوم ميلاده. هذا الغرق عبرت عنه المخرجة بلغات سينمائية متعددة؛ بدءاً من الألوان التي ظلت طوال الفيلم تراوح بين الأصفر والأزرق، وهما في عداد ألوان لا تتناسب مع أجواء العطلات الصيفية والبحر والشمس التي يدور بها الفيلم، لكنهما بالتأكيد يناسبان روح الاكتئاب المسيطرة على الفيلم.

من رصيف22... رحمة ونور وحب وسلام لمحاربي الاكتئاب في كل بقاع الأرض

كذلك استخدمت شارلوت كادرات تكوينها البصري الذي يوضح الحالة العامة التي يمر بها كولم وصوفي، وعلى سبيل المثال يظهر ذلك في انقلاب الكادر رأساً على عقب اثناء حديث صوفي ووالدها عن مشاعرها بعد يوم سعيد، كذلك في استخدام البحر ليلاً للتعبير عن حالة الابتلاع داخل الحزن الذي تلازم الاكتئاب. وأخيراً في مشاهد ضبابية متكرره يظهر كولم طفلاً وشاباً وكذلك صوفي وهما يصرخان بلا صوت، لينتهي الفيلم باحتضان كولم الأب لصوفي الشابة بعد أن أدركت كم المعاناة اليومية التي عانى منها والدها، بعد أن اختبرت بنفسها، وبعد أن كان حب والدها ودعمه سلاحاً مفيداً في مواجهة النوبات.

إذاً، كولم لم يكن أباً سليماً نفسياً مئة بالمئة، لكنه كان بالتأكيد أباً سوياً، يحاول أن يوفر لأبنته الأشياء التي لم يحصل عليها هو من حب وأمان ودفء وتفهم وتقبل وحماية، تفهم حجم المأساة التي ورثها لها وهي مرض لعين ينهش روح المرء. لذلك دعم لديها إحساس الانتماء لـ"منزل" و"وطن" بالرغم من حرمانه الشخصي من هذا الشعور بالانتماء، وأخيراً كان المعلم الأول لها في محاربة نوبات الاكتئاب، لتكوّن في النهاية أسرة متحابة من أمين وطفل، تشعر صوفي فيها أنها في مكانها السليم ليكون كولم هو الأب الذي يحلم به كل مصابي الاكتئاب، الأب الذي لو كان موجوداً في حياة الشاب المصري المنتحر لكان من الممكن أن تكون حياته أسهل وأرحم.

رحمة ونور وحب وسلام لمحاربي الاكتئاب في كل بقاع الأرض.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image