منذ أشهر، أداوم يومياً على تناول دواء مضاد للقلق والاكتئاب. أشتريه دون وصفة طبية، فهو مصنّف من تلك الزمرة التي لا تسبب الإدمان، أو هكذا أحب أن أقنع نفسي، خاصة بعد أن اكتشفت أن معظم السوريين مستمرون بالحياة دون أن يفقدوا عقولهم حتى الآن، بفعل تلك الأدوية وغيرها من مسببات السعادة المؤقتة.
حبة زهرية صغيرة تشبه القلب، أتغزّل بها وبمفعولها السحري، فهي تزيل عن صدري تلك البلاطة التي استيقظ صباح كل يوم تحت ثقلها، وتعيد ضربات قلبي القلقة إلى سرعتها الطبيعية، فأتمكن من إكمال يومي رغم رغبتي اللاشعورية المكبوتة، كل ليلة وقبل أن أنام، بألا استيقظ مطلقاً في اليوم التالي.
فكرة اقتراب موعد النوم تخيفني بحد ذاتها، فهي إيذان بانفتاح بوابة الكوابيس الجهنمية التي أشاهدها كل ليلة منذ اثني عشر عاماً، كمسلسل لا تنتهي مواسمه، أحاول تأجيل هذا الموعد قدر الإمكان إلى أن أذبل تماماً، فاستسلم لكمّ الصور المرعبة والـ "سوريا-لية" التي سأراها بعد قليل.
في تلك الليلة، وأنا ما أزال تحت تأثير الكابوس الاعتيادي الذي أحمل فيه جثة طفل مبتور القدمين، وأتجاوز مجموعة من المسلحين يرتدون الخاكي، استيقظت على صوت تكسّر الزجاج في المطبخ. لم أستوعب بداية ما الذي يحدث، ظننت أن قطي "فلفل بيسة" يقوم بإحدى جولاته الليلية في التخريب المتعمّد، لإيقاظنا كي نطعمه قبل حلول موعد إفطاره، وهي عادة درج عليها فلفل هذا الشتاء بسبب البرد الذي يستدرج حالة من الجوع الدائم لدينا جميعاً على حد سواء.
بدأ السرير بالاهتزاز، وربما كان يهتزّ قبل أن يبدأ الزجاج بالتساقط لكنني لم أدرك الأمر، حاولت إشعال الضوء لأفهم ما يجري فاستنتجت أن الكهرباء مقطوعة، وعلى ضوء الموبايل وجدت الثريا تتراقص يميناً ويساراً بحركة جنونية. نظرت إلى الساعة وكانت الرابعة والثلث صباحاً، شتمت التقنين الكهربائي فقد كان من المفترض أن تكون "فترة النور" الخاصة بنا، وأدركت أنه زلزال.
استعدت أيام القصف المدفعي وقذائف الهاون، تلك الأيام التي كنت استحمّ فيها بأقل من خمس دقائق وهويتي معي، أرتدي ثيابي كاملة في أقل من دقيقة، وأعيد الهوية إلى جيب البيجاما خشية أن يقع البناء وأنا ما أزال أستحم
لم أخف، وهذا ما جعلني أدخل في نوبة خوف أكبر، استعدت أيام القصف المدفعي المتنوع وقذائف الهاون، تلك الأيام التي كنت استحمّ فيها بأقل من خمس دقائق وهويتي معي، أرتدي ثيابي كاملة في أقل من دقيقة، وأعيد الهوية إلى جيب بنطال البيجاما خشية أن يقع البناء وأنا ما أزال أستحم، فأتحول إلى جثة عارية مجهولة الهوية، إلى أن يتم التعرّف علي، فيشاهدني جميع الجيران أو من بقي على قيد الحياة منهم.
بقيت مستلقية أنظر إلى السقف، أفكر أنني إن تركت السرير الآن سأتجمد برداً، وأنا بالكاد دفأته وتخلصت من نوبات البردية التي تهز جسدي ليل نهار، يتشنّج كتفاي باستمرار، وتنمّل أطراف أصابعي دون وجود أية وسيلة للتدفئة سوى الثياب، فحصتنا من الخمسين لتراً احتفظت بها من أجل الحمّام، ولن أهدرها في إشعال المدفأة طالما لدينا ما يكفي من الأغطية الشتوية.
أنظر إلى سواد السقف وأحاول حساب الزمن الذي أحسسته طال وكأنه بلا نهاية، لم أخف، كل ما تمنيته هي نفس تلك الأمنية التي ظللت أتمناها لسنوات، أن أموت ميتة واحدة وفورية، لا أطمح لأكثر من ذلك.
نمت، أجل عدت للنوم في سريري الدافئ بكل بساطة، ولمتابعة ما تبقى من كوابيس ولم أمت، ككل تلك المرات التي نجوت فيها بأعجوبة من سيارات مفخخة، تفجيرات، قذائف هاون أو اشتباكات ورصاصات طائشة، وككل مرة ذهلت لأنني لم أخف بل تركت الأمر يمر كحدث يومي عادي جداً.
حين استفسرت عن حالتي هذه، أخبرني مختصّ نفسي أن التسليم للقدر بكل هذا الاطمئنان يصنّف كأحد أنواع "تروما الحرب"، إذن فهناك تفسير منطقي لما يحصل معي رغم كل هذا الجنون.
أما آن لنا أن نكون واحداً؟ أن نكون أكثر رأفة وأقل أنانية، فكلنا نقف على أرض كالكرتون دون استثناء؟
صباحاً، شربت حبتي الوردية السحرية، نظّفت الزجاج المكسور، أطعمت فلفل بيسة الذي ظل يتابعني بعينين معاتبتين، وأدركت حجم الكارثة من الاتصالات الفائتة ليلاً لأصدقائي البيروتيين ومحاولاتهم الاطمئنان عني، ومن تصفح وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة الخسائر.
اتصلتُ بصديقة من طرطوس لأطمئن، كانت قد قضت ليلتها مع أطفالها في الشارع، حدثتني بهلع عن صوت الأرض الذي ما تزال تسمعه في أذنيها: " كانت الأرض تمشي تحتي وكأنني أقف على كرتون".
انقسمت الآراء كالعادة تماماً كما قسّمتنا الحدود، فهناك من استهجن استجابة الدول بقوافل إغاثية لتركيا، وتجاهل سوريا بشكل كلي بحجّة الحصار، ناسين أن جزءاً كبيراً من متضرّري زلزال تركيا هم من السوريين أيضاً المقيمين على الشريط الحدودي الفاصل بيننا.
وبات "الشمال السوري" يسمى "الجنوب التركي"، في محاولة خجولة لتجنب ذكر أدلب وعفرين وأتارب، وغيرها من المدن السورية التي خرجت عن سيطرة الدولة وباتت تسمى بالمناطق المحرّرة، حتى أرقام الخسائر تحيزّت للجنوب التركي أو للشمال السوري، دون إحصائيات واضحة عن الأرقام الإجمالية لكافة السوريين، شمالها أو جنوبها.
كارثة إنسانية بهذا الحجم استدعت حملة واسعة من الدعاء والاستغفار وقراءة آيات الزلزلة أطلقتها وزارة الأوقاف السورية، بينما المتطوّعون على الأرض يصلون الليل بالنهار لجمع التبرعات للمنكوبين من منكوبين مثلهم، بالكاد يجدون ثمن رغيف أو يقدرون على شرب كأس من الشاي الساخن في مثل هذا البرد لعدم توفر الغاز أو الكهرباء، سيارات إسعاف يناشد أصحابها من يملك إمكانية تزويدها بالبنزين فقط لتستمر بعملها في إسعاف المصابين.
كارثة إنسانية بهذا الحجم استدعت حملة واسعة من الدعاء والاستغفار وقراءة آيات الزلزلة، أطلقتها وزارة الأوقاف السورية، بينما المتطوّعون على الأرض يصلون الليل بالنهار لجمع التبرعات للمنكوبين من منكوبين مثلهم
نقص حاد في الآليات الثقيلة لإزالة أنقاض البيوت التي تكسّرت كالبسكويت على ساكنيها الذين ما يزال بعضهم على قيد الحياة في اليوم الثالث للكارثة رغم كل هذا البرد. نقص في السيارات لتحميل المساعدات ونقل المنكوبين لعدم توفر الوقود، وتأخر في الاستجابة الدولية.
ومع وصول قوافل المساعدات الدولية أخيراً، برز الخلاف مجدداً لمن سيتم توزيعها وهل سيتم توزيعها للمحتاجين فعلاً، بانعدام ثقة تام بين المواطن والدولة نتيجة مؤشرات سابقة كثيرة.
تتبارز الشخصيات العامة بإعلان أرقام المبالغ التي تبرعوا بها لصالح المتضرّرين من الزلزال، في ظاهرة تستدعي القيء، فمبلغ المئة مليون ليرة الذي قد نظنه كبيراً للوهلة الأولى نحن الفقراء، لا يساوي فعلياً أكثر من أربعة عشر ألف دولار أميركي بحسب سعر الصرف، ثمن حفلة واحدة لفنان متوسط الشهرة، وأقل بكثير من أجر ممثل نجم في مسلسل عربي مشترك.
بيوت تركها أصحابها خوفاً من هزة جديدة تتعرّض للسطو والتعفيش، والكهرباء مقطوعة لأيام متتالية دون أي محاولات إسعافيه لتحسين وضع الشبكة المتهالكة في هذا الظرف أو الإعفاء من التقنين ولو لبعض حين، ومع غياب الكهرباء تغيب شبكة الهواتف الخليوية، ما يجعل التواصل الاضطراري أكثر صعوبة.
أما آن لنا أن نكون واحداً؟ أن نكون أكثر رأفة وأقل أنانية، فكلنا نقف على أرض كالكرتون دون استثناء؟
الاستغاثات على مواقع التواصل الاجتماعي تفتت القلب، ورغم ذلك لم تخرج الحكومة السورية بأي تصريح رسمي عن آلياتها المتوقعة في التعامل مع آثر ما حصل، كما لم تعلن الحداد.
حبتي الزهرية لم تعد تعط تأثيرها، فقلبي يهتز كالثريا في ذلك الصباح، وأنا أشاهد من نافذتي الثلج الذي يهطل على دمشق اليوم لتكتمل الكارثة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...