شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
السياسي الإيطالي بتينو كراكسي في منفاه التونسي... بين بن علي وأبو عمار

السياسي الإيطالي بتينو كراكسي في منفاه التونسي... بين بن علي وأبو عمار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والمشرّدون

الثلاثاء 7 مارس 202303:02 م

كان البحر هادئاً في منتصف أيار/ مايو 1994. في هذا الوقت من العام، تنتعش رحلات الهجرة غير النظامية عبر القوارب الصغيرة بين تونس وإيطاليا. في الاتجاه المعاكس، كان يخت إيطالي يتجه جنوباً نحو تونس. على متنه ثلاثة رجال. شاب في العشرين يقف أمام المقود وثلاثيني يجلس على حافة اليخت، يتكلم دون توقف في جهاز اللاسلكي مرةً بالإيطالية ومرةً بفرنسية رثة، وفي وسط القارب يجلس كهل على مشارف الستين، لا يفعل شيئاً سوى التأمل في الامتداد اللانهائي للون الأزرق الصافي. كان ذلك الكهل بتينو كراكسي، رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق وزعيم الحزب الاشتراكي.

 في الجهة المقابلة من الضفة، كانت المخابرات التونسية، بإشراف مباشر من الرئيس زين العابدين بن علي، تنتظر وصول القارب الفاخر إلى وجهته في مدينة الحمامات على الساحل الشرقي. استمر الحديث سجالاً بين الطرفين عبر اللاسلكي. كانت الشمس توشك على البزوغ عندما أعلن الشاب الجالس على الحافة للكهل المنهمك في التأمل أنهم اجتازوا بسلام المياه الإقليمية الإيطالية نحو تونس. خلال دقائق، أحاطت قوارب الحرس البحري التونسي باليخت ورافقته إلى مستقره النهائي. كانت تلك آخر رحلة قام بها كراكسي في حياته، وفي ذلك المستقر سيعيش حتى وفاته عام 2000، وستظل رفاته مدفونةً في ذلك المكان حتى اليوم.

قبل أيام من ذلك، توجه كراكسي إلى باريس طمعاً في طلب اللجوء السياسي من صديقه الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، لكنه قفل عائداً إلى بلده خائباً، الأمر الذي دفع الجهات القضائية الإيطالية إلى سحب جواز سفره، فلم يجد بُداً من الاستعانة بصديقه بن علي للهرب بنفس الطريقة التي رتبت بها المخابرات المركزية الأمريكية، بالتعاون مع إيطاليا، هروب سفير العراق في تونس حامد الجبوري عندما انشق عن نظام صدام حسين، قبل عام من وصول كراكسي.

بتينو كراكسي (على اليمن) مع فرانسوا ميتران.

الفتى الذهبي للحزب الاشتراكي

بدأ كل شيء عن طريق الصدفة. في 17 شباط/ فبراير 1992، ألقى القاضي أنطونيو دي بيترو القبض على رئيس مركز بيو تريفولزيو للمسنين في ميلانو ماريو تشيزا، متلبساً أثناء قيامه بتلقي رشوة زهيدة قدرها سبعة ملايين ليرة من رجل أعمال صغير. اعترف تشيزا، ذو الوزن الثقيل في حزب بتينو كراكسي الاشتراكي، بكل شيء.

قاد ذلك إيطاليا إلى ما صار يُعرف بـ"عملية الأيادي البيضاء" لمكافحة ارتباط الطبقة السياسية بالمافيا، والتي أدت إلى اعتقال 3000 شخص في غضون عامين، وصدور أكثر من 1200 إدانة في السنوات التالية، وسلطت الضوء على تواطؤ عميق بين الأحزاب السياسية والدوائر الاقتصادية. كان كراكسي أثقل شخصية سياسية كُشف عنها الغطاء في هذه العملية التي دخلت التاريخ لأنها تسببت أيضاً في ضمور الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي، الحزبين المهيمنين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ارتقى كراكسي إلى قيادة الحزب الاشتراكي عام 1976، في سن الـ42. أعاد تنظيم الحزب بسرعة، وسحق جناحه اليساري، واستبدل شعاره التاريخي المطرقة والمنجل بوردة القرنفل. هزم منافسيه وتخلى عن الأيديولوجيا الماركسية. كان مختلفاً تماماً عن رؤساء الحكومات الاشتراكية الذين وصلوا إلى السلطة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي في فرنسا واليونان وإسبانيا والبرتغال.

وفي العام 1983، صعد كراكسي إلى رئاسة الحكومة بعد أن ألحق خسائر بالديمقراطيين المسيحيين، وجعل الشيوعيين أقل شأناً مما كانوا عليه في السبعينيات. وعندما ترك منصبه في آذار/ مارس 1987، بعد ما يقرب من أربع سنوات فيه، منهيا أطول فترة متواصلة في منصب أي رئيس وزراء إيطالي بعد الحرب، وصفته الصحافة الإيطالية بأنه أحد أكثر الشخصيات ديمومة وتأثيراً في السياسة الإيطالية.

تزامنت سنوات كراكسي الأربع التي قضاها مع نمو اقتصادي قوي، إذ تكيفت الشركات الإيطالية الكبرى مع أزمة النفط التي أثّرت عليها كثيراً في السبعينيات. ولاحتواء التضخم الإيطالي الكبير، أصدر مرسوماً بإنهاء الربط التلقائي بين زيادات الأجور وارتفاع الأسعار، وأكده عن طريق استفتاء عزز صورته كقائد جريء. سحرتّ شخصيته وقدرته الخطابية قطاعاً واسعاً من الإيطاليين، حتى أطلق عليه اسم "الملك بيتينو"، بوصفه مجسداً لمعجزة اقتصادية. وفي عهده، بدأت تبرز طبقة جديدة من أصحاب الأعمال أشهرهم سيلفيو برلسكوني.

كان البحر هادئاً في منتصف أيار/ مايو 1994. في هذا الوقت، تنتعش رحلات الهجرة غير النظامية عبر قوارب صغيرة بين تونس وإيطاليا. في الاتجاه المعاكس، كان يخت إيطالي يتجه جنوباً نحو تونس حاملاً 3 رجال بينهم رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق بتينو كراكسي الهارب من بلاده

في بداية التسعينيات، بدأت أسطورة كراكسي في الانحدار. شرع القضاة في الاقتراب من ملف التمويل السياسي للأحزاب وبدأت الدائرة تضيق حتى وصلنا إلى تموز/ يوليو 1992، عندما ألقى كراكسي خطابه ما قبل الأخير داخل البرلمان واعترف فيه ضمنياً بتلقي حزبه لتمويلات سياسية من جهات اقتصادية. وقف كراكسي أمام أعضاء المجلس في صباح الثالث من تموز قائلاً: "لا أعتقد أن هناك أي شخص في هذه القاعة، رئيس حزب أو مهما يكن، يمكنه أن يقف ويقسم يميناً مخالفاً لما أقول: عاجلاً أم آجلاً، سيكتشف الناس أننا جميعاً نتلقى تمويلاً سياسياً غير قانوني".

في أعقاب ذلك الاعتراف الضمني، تحركت الجهات القضائية عبر عدد من دعوات التحقيق، لكن كراكسي كان ما زال حتى ذلك الوقت يتمتع بحصانته البرلمانية. توجه كراكسي إلى البرلمان للمرة الأخيرة في نيسان/ أبريل 1993، بعد أن أصبح متهماً بشكل رسمي من قبل مكتب المدعي العام في ميلانو بتهم تشكيل عصابة لها علاقة بالمافيا. في 29 نيسان/ أبريل، وقف كراكسي في كامل أناقته أمام المجلس ليقول خطابه الأخير: "ابتعدوا عن النفاق. جميع الأطراف السياسية استخدمت الرشاوى لتمويل نفسها، حتى أولئك الذين يزعمون أنهم أرباب الأخلاق هنا".

كراكسي يلقي خطابه الأخير في البرلمان الإيطالي.

بدلاً من إعلان نفسه بريئاً، جاء كراكسي ليقول إنه ليس المذنب الوحيد، ليمضي بقية العام متجولاً بين المحاكم بوصفه شاهداً ومتهماً، وفي كل مرة كان يتحقق من أن احتمال اعتقاله أصبح وشيكاً، خاصة مع اقتراب الانتخابات التشريعية في نيسان/ أبريل 1994. كان فوزه سيمنحه حصانةً، لكنه هُزم وأصبح عارياً أمام الادعاء العام.

لاحقاً، سيُدان كراكسي بالكسب غير المشروع والفساد في خمس محاكمات منفصلة وسُيبرّأ في العام 1995 في واحدة من قبل محكمة ميلانو التي أصدرت في حقه مذكرة توقيف دولية لن تنفّذ أبداً.

علاقة كراكسي بالمافيا تعود إلى جذوره الصقليّة. ولد بيتينو في ميلانو عام 1934، وهو ابن محام اشتراكي هاجر إلى ميلانو من مسقط رأسه صقلية بحثاً عن عمل. في العام 1948، ترشح والده للبرلمان على لوائح الجبهة الشعبية التي وحدت الشيوعيين والاشتراكيين، وقام بيتينو الشاب بلصق الشعارات الانتخابية على الجدران. وفي العام نفسه، وقع الانقلاب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا وكان الاشتراكيون من ضحاياه. خسر والده الانتخابات، وتركت التجربة في نفس كراكسي عداءً واضحاً للشيوعية، لكنّها رسخت داخله الحسّ السياسي. في سن الـ18 سينضم إلى الحزب الاشتراكي ويلتحق بكلية الحقوق في جامعة ميلانو، وهنالك سيلتقى بزوجته، آنا مانشيني، ابنة عامل سكك حديدية اشتراكي.

عرّاب زين العابدين بن علي

كانت مقامرة من بن علي عندما ساعد كراكسي في الهروب إلى تونس. ثم سيمعن في المغامرة عندما منحه اللجوء السياسي والمستقَر في مدينة الحمامات حتى وفاته. كانت العلاقات الاقتصادية والسياسية بين روما وتونس لا تتحمل مثل هذا السلوك، لكن إصرار بن علي على حماية صديقه وعدم رغبة الطبقة السياسية الإيطالية في وقوع كراكسي في يد القضاء، كي لا يكشف المستور، تظافرتا لمرور هذه الأزمة العابرة بين البلدين.

كان كراكسي بالنسبة إلى بن علي أحد الرجال الذين أوصلوه إلى السلطة عام 1987. وكان علينا أن ننتظر حتى خريف العام 1999 كي نعرف تفاصيل هذه القصة، ونحل لغز المغامرة التي أقدم عليها بن علي لحماية صديقه.

في تشرين الثاني/ أكتوبر 1999 نشرت جريدة "لا ريبوبليكا" الإيطالية مقابلة مع الأدميرال السابق في البحرية ورئيس جهاز الأمن والاستخبارات العسكرية بين 1984 و1991، فولفيو مارتيني. وفيها كشف مارتيني أن بينيتو كراكسي كان أحد العقول المدبرة لانقلاب 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 الذي أطاح فيه بن علي بالرئيس السابق الحبيب بورقيبة، عندما شكل مع وزير خارجيته جوليو أندريوتي، ورئيس شركة "إيني" المتخصصة في استخراج النفط سيسمي مارتيني، صاحبة الاستثمارات النفطية في تونس والجزائر، خليةً لتنفيذ "انقلاب دستوري" في تونس.

يقول مارتيني متحدثاً عن تفاصيل الخطة: "في بداية العام 1985، اتصل بي رئيس الوزراء بتينو كراكسي. قبل وقت قصير من وصوله إلى الجزائر، حيث التقى بالرئيس الشاذلي بن جديد. قال لي عليك أن تذهب إلى الجزائر وتقابل رئيس مخابراتهم. في الجزائر، قال الرئيس بن جديد لكراكسي إنهم على استعداد لغزو جزء من التراب التونسي، حيث يمر أنبوب الغاز الجزائري نحو إيطاليا، فقال كراكسي للشاذلي: ‘انتظر، لا تتحرك’، وبدأ يتحرك مع وزير الخارجية جوليو أندريوتي. في النهاية قررت السفر إلى الجزائر العاصمة. ومنذ ذلك الحين بدأنا حواراً كان له هدف عظيم: منع زعزعة الاستقرار المتزايدة تونس".

حتى الآن، ما زال قبر رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق بتينو كراكسي في مدينة الحمامات التونسية مزاراً للعديد من الإيطاليين الذين تغيرت نظرتهم إلى الرجل بعد ثلاث عقود من الفضيحة التي دفعته إلى الهرب من بلاده واللجوء إلى تونس

في ذلك الوقت، كانت تونس تعاني من اضطرابات اجتماعية وسياسية كبيرة، بدأت منذ عام 1984، في ثورة الخبز التي قُتل فيها مئات المحتجين على قرار الحكومة بزيادة أسعار المواد الأساسية، قبل أن تشرع السلطة في تفكيك المنظمة النقابية وشقها في عهد حكومة محمد مزالي. وفي العام 1986، بدأت السلطة مواجهة مفتوحةً مع حركة الاتجاه الإسلامي (النهضة) تخللتها تظاهرات عارمة وتفجيرات استهدفت فنادق ومؤسسات تابعة للدولة، ما أثار قلق إيطاليا على إمداداتها من الغاز الجزائري عبر تونس.

ويواصل رئيس المخابرات الإيطالية سرد قصة تدبير الانقلاب قائلاً: "منذ تلك اللحظة بدأت عملية طويلة في السياسة الخارجية لعبت فيها المخابرات دوراً مهماً للغاية. وفي النهاية حددنا الجنرال بن علي باعتباره الرجل القادر على ضمان الاستقرار في تونس أفضل من بورقيبة. بوصفه كان رئيساً للأجهزة الأمنية، ثم كوزير للداخلية. وفي ليلة السادس من تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، كان رئيس الوزراء جيوفاني جوريا، ووزير الخارجية جوليو أندريوتي، وزعيم الحزب الاشتراكي بتينو كراكسي (خرج من رئاسة الوزراء في آذار/ مارس 1987) يتابعون مجريات العملية، حتى أصبح زين العابدين بن علي رئيساً لتونس".

صديق منظمة التحرير

كانت علاقة كراكسي بالعرب غريبة. الرجل ذو الجذور الصقلية التي يختلط فيها العرب بالأوروبيين، كان أقرب القادة الأوروبيين إلى الشرق الأوسط في ثمانينيات القرن الماضي، لا سيما إلى دول المغرب العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية. ورغم محافظته على علاقات كبيرة مع صديقه ميتران، لم يكن حذراً في اختراق مواقع النفوذ الفرنسي التاريخي. ورغم علاقاته الوطيدة بالولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما حين دافع بقوة عن قرار حلف شمال الأطلسي في العام 1979 بوضع 112 صاروخ كروز في قاعدة في صقلية، على الرغم من المعارضة الداخلية القوية والتهديدات الغاضبة من القيادة السوفياتية، إلا أنه لم يكن خاضعاً لرؤية واشنطن في ما يتعلق بالصراع في فلسطين.

في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1985، عندما كانت طائرات إسرائيلية في طريقها إلى قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشط، جنوب تونس العاصمة، أبلغ كراكسي السلطات التونسية بوجود طائرات حربية مجهولة الهوية، بصدد التزود بالوقود فوق البحر المتوسط، وتتجه في طريقها إلى السواحل التونسية.

في وثيقة رفعت عنها السرية في العام 2016، يقول تقرير للمخابرات المركزية الأمريكية مؤرخ في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1985 إن "رئيس الوزراء كراكسي ووزير الخارجية أندريوتي حاولا إقامة علاقات جيدة مع العالم العربي بشكل عام ومع منظمة التحرير الفلسطينية بشكل خاص. يقوم نهجهم السياسي على ضرورة إدخال منظمة التحرير الفلسطينية في عملية السلام في الشرق الأوسط، وفي كانون الأول/ ديسمبر 1984، بدأوا حواراً مباشراً، وإنْ كان مثيراً للجدل محلياً، مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية عرفات. كان كراكسي من بين أشد منتقدي الغارة الإسرائيلية الأخيرة على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. لا تشارك الحكومة بأكملها التحيز المؤيد للعرب ولمنظمة التحرير الذي يمثله كراكسي وأندريوتي. وأثارت سياستهما نيراناً كثيفة بشكل خاص من وزير الدفاع سبادوليني وحزبه الجمهوري. في المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة، طالب الجمهوريون بسياسة شرق أوسطية أكثر عدالة. الاشتراكيون الديمقراطيون والليبراليون انتقدوا أيضاً تحيز الحكومة المؤيد لمنظمة التحرير الفلسطينية. يميل كراكسي وأندريوتي إلى تبرير خطهم الثالث من حيث موقع إيطاليا وتعرضها للضغوط الاقتصادية على الاستثمارات والتجارة كإمدادات النفط والغاز من الشرق الأوسط".

ولكن في تشرين الأول/ أكتوبر 1985، كان حادث اختطاف السفينة الإيطالية "أكيلي لاورو" من طرف جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة أبو العباس، المقرب من عرفات، والذي جاء رداً على الغارة الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير في تونس، ربما نقطة نهاية لعلاقة كراكسي الوطيدة بأبي عمار. تقول وثيقة أخرى للمخابرات الأمريكية مؤرخة في 21 تشرين الثاني/ أكتوبر 1985: "كان اختطاف أكيلي لاورو أحد أكثر التحديات الدولية التي واجهتها أي حكومة إيطالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. لقد دفعت الأزمة القادة الإيطاليين والجمهور إلى مزيد من اليقين بأن مصالحهم لن تتطابق دائماً مع المصالح الأمريكية. كانت علاقة إيطاليا بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي حجر الزاوية في السياسة الإيطالية في فترة ما بعد الحرب. رئيس الوزراء كراكسي ووزير الخارجية أندريوتي ووزير الدفاع سبادوليني مصممون جميعاً على الحفاظ على علاقات إيطاليا بحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، وكراكسي وأندريوتي أكثر استعداداً للانفصال عن قضايا الولايات المتحدة المتعلقة بالشرق الأوسط".

لكن لطالما نفى المساعدون الأمنيون لكراكسي هذا الانحياز. من ذلك شهادة نُشرت بعد سنوات، في وثائقي حول خطف السفينة أكيلي لاورو، قال فيها مستشار الأمن القومي الإيطالي في عهد كراكسي، أنطونيو باديني، إن إيطاليا "كانت في اتفاق سري مع الفلسطينيين، أبعدها عن الأعمال ‘الإرهابية’ وفي المقابل طُلب منها ومن مخابراتها أن تتسامح مع عمليات نقل السلاح عبر أراضيها والمساعدة المالية وربما إخفاء بعض المطلوبين على أراضيها. هذه العلاقة الخفية بين إيطاليا والفلسطينيين وصلت إلى نهايتها عندما تولى كراكسي رئاسة الحكومة".

الغروب

وصل يخت كراكسي إلى ميناء الحمامات. كانت بضع سيارات مكللة بالسواد تنتظره على الرصيف. سار موكب الرجل غير بعيد نحو فيلا مشيّدة على الطراز التونسي وسط قطعة أرض مساحتها ثمانية أفدنة من بساتين الزيتون والنخيل ونبات البوغانفيليا، وتقع خارج الحمامات. أصبح بيتينو لاجئاً سياسياً في تونس، وفقاً لمعاهدة إيطالية تونسية موقعة في الستينيات تنظم مسائل الهجرة ومنح اللجوء بأنواعه، وبالتالي أصبح خاضعاً لشروط الإقامة التي تقرها الدولة المضيفة.

في مذكراته "قبس من الذاكرة، مذكرات ضابط أمن"، يروي الضابط المتقاعد من جهاز الأمن الرئاسي النوري بوشعالة ذكرياته عن يوميات كراكسي في منفاه التونسي. يقول بوشعالة، والذي شغل لسنوات وظيفة مرافق أمني للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات: "كان الفريق الأمني المكلف بمرافقة كراكسي يلحظ بجلاء كم كانت علاقته وطيدة مع سكان المدينة (الحمامات)، حتى أنه أصبح لا يتردد في تقديم العون المادي للبعض ممن شعر بخصاصتهم وعوزهم. كان يقوم بذلك من منطلق طوعي لا إكراه فيه ولا تزلف (...) أذكر أنه كان يتصل بإحدى العائلات الفقيرة التي تعيش من صيد الأسماك بمنطقة السلوم والذي لا يدرّ عليهم من الكسب إلا قليلاً لا يفي بالحاجة. وبتعلة رغبته في السمك كان كراكسي كثيراً ما يزورهم ويحرص على شراء ما تحصّله العائلة من صيد وليس له في حقيقة الأمر من هدف غير المساعدة والعون".

كراكسي متجولاً في مدينة الحمامات.

من تونس، واصل كراكسي عبر الفاكسات والرسائل المفتوحة التي كانت يرسلها إلى الصحف الإيطالية التعليق على أحداث السياسة الإيطالية، والدفاع عن نفسه ضد النظام السياسي القائم وقضاة عملية الأيادي البيضاء. كانت قناعته بأن هؤلاء القضاة تلاعب بهم الشيوعيون السابقون ودُفعوا أيضاً من قبل الولايات المتحدة التي أرادت "تغيير النظام السياسي" بعد أزمة قاعدة سيغونيلا العسكرية عام 1985، عندما أوشك الجيش الإيطالي على الدخول في اشتباك مسلح مع القوات الخاصة الأمريكية، إثر محاولة واشنطن اختطاف العناصر الفلسطينية التي خطفت السفينة أكيلي لاورو.

كان كراكسي على يقين من أن سياسته الخارجية، المخالفة للتوجه الأمريكي، كانت سبب اللعنة التي لحقت به، دوناً عن بقية الطبقة السياسية المتورطة في قضايا التمويل السياسي غير القانوني، لأنه، وإنْ اعتراف بتلقي تمويلات سياسية لفائدة حزبه، إلا أنه لم يأخذ أي شيء لنفسه، حسبما كان يردد. وعلى الرغم من حجم تهم الفساد الموجهة إليه، إلا أنه لم يتخلَّ أبداً عن أسلوب حياة متواضع نسبياً. على الرغم من أنه كان لديه منزل صيفي في تونس، إلا أنه كان يعيش في شقة مستأجرة في ميلانو. وعلى عكس معظم السياسيين الإيطاليين، لم تكن لديه شقة في روما ولكنه كان يقيم في جناح فندق أثناء وجوده هناك.

في أواخر التسعينيات، عانى كراكسي من مشاكل صحية، لن تنتهي إلا بوفاته بعد ظهر يوم 19 كانون الثاني/ يناير 2000، قبل شهر تقريباً من عيد ميلاده الـ66، بسبب سكتة قلبية، بين ذراعي ابنته ستيفانيا، وأوصى بأن تُنقش على رخامة قبره عبارة: "حريتي تعادل حياتي".

قبر كراكسي، في مدينة الحمامات.

حتى الآن، ما زال قبر كراكسي مزاراً للعديد من الإيطاليين الذين تغيرت نظرتهم إلى الرجل بعد ثلاث عقود من الفضيحة. عندما تقترب من الضريح لا تخطئ العين الرسائل التي يتركها الزوار. ينقل الكاتب الإيطالي، ألبرتو جيانوني، في مقالة حول كراكسي بعض هذه الرسائل قائلاً: "في المقبرة المسيحية الصغيرة، تهب رياح جديدة عبر دفتر الزوار. إنها تهب من شمال البحر الأبيض المتوسط، من إيطاليا. أي شخص لم يزر قط مدينة الحمامات من قبل لن يتخيل أبداً مكاناً بهذه البساطة والحميمية ومنفتحاً وقريباً جداً من البحر. هنا يرقد كراكسي. يكتب أحدهم ‘لقد دفعت الثمن مقابل الجميع’. ويكتب آخر ‘عاشت الحرية’. يواصل العديد من الإيطاليين التحدث إلى كراكسي من خلال الرسائل. على بعد أمتار قليلة من المقبرة المسيحية توجد مقبرة المسلمين. وبين الاثنين لافتة معرض: ‘غاريبالدي في تونس’. فقد الثوري الإيطالي لفترة قصيرة في المنفى في تونس. كان الزعيم الاشتراكي كراكسي من محبي غاريبالدي ومولعاً بجمع تذكاراته. هناك شيء مؤثر ورومانسي في هذا المنفى، أراد كراكسي أن يضفي عليه طابعاً أبدياً عندما قال: "لن أعود إلى إيطاليا حياً أو ميتاً، بل فقط كرجل حر".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لعلّ تعريفنا شعوباً ناطقةً بالعربية لم يعد يستقيم من دون الانتباه إلى أننا صرنا شعوباً متفلّتةً من الجغرافيا. الحروب الدائرة في منطقتنا والنزاعات الأهلية والقمع، حوّلتنا إلى مشردين، بين لاجئين ونازحين، وأي تفكير في مستقبلنا لم يعد ممكناً من دون متابعة تفاصيل حياة الجميع، أينما كانوا، وهو ما نحرص عليه في رصيف22. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image