في صراع بين الحياة والموت، يهرع الطبيب محمد الخلف، مع عائلته البالغ عددها عشرة أفراد، وهو من سكان قرية بسنيا في ريف حارم شمال غرب إدلب، للهرب من بيته الطابقي إلى العراء خوفاً من تهدّم البناء فوقه. فجر الإثنين في 6 شباط/ فبراير الجاري، لم يكن فجراً طبيعياً، على السوريين. كان مغايراً لما مرّ عليهم في سنوات أزمتهم الطويلة.
يقول محمد، ويعمل طبيب أطفال في أحد مراكز الرعاية الصحية الأولية في إدلب: "استطعنا الهروب من البنايات المتطرفة في قرية بسنيا، لنُصاب بذعر شديد كان أقسى من الزلزال نفسه، إذ لم نجد قريةً أمامنا. القرية بأكملها سوّيت بالأرض، إلى أي نلجأ؟ سريعاً اصطحبت عائلتي إلى مخيم لأقاربنا شيّدوه قبل سنوات على مقربة من الأبنية السكنية".
بحسب فواز العبد، الذي يقطن في مكان قريب من القرية، فإن بسنيا عبارة عن مجمّع سكني بالقرب من مدينة حارم، تحتوي على نحو 150 عائلةً، وفيها مخبز ومحال تجارية، ويسكنها أناس تركوا خيامهم واشتروا شققاً فيها وأغلبهم من الذين هاجروا من ريف حلب. يقول: "كأن المجمع السكني مُسح من الخريطة بفعل الزلزال، فلم يبقَ منزل إلا وسقط على رؤوس ساكنيه".
هو أيضاً، الهارب من الزلزال ومن مبنى كاد أن يسقط عليه وعلى عائلته وعلى كُل من يقطن فيه، لم يجد مكاناً يلجأ إليه إلا المخيم الذي يقطن فيه أقاربه إلى جانب القرية أيضاً، أو القرية سابقاً، بعد أن تحول إلى ركام أو مقبرة جماعية، كحال سوريا بالنسبة له ولكُثر: "لجأنا إلى الأقارب. عدنا إلى الخيم نفسها التي سكنّاها في بداية تغربيتنا-نزوحنا"، يقول.
بدأت عائلات شمال سوريا هروباً عكسياً بعد الزلزال لوم تجد أمامها ملجأ آمناً سوى المخيمات المنتشرة في المنطقة
في مشهد آخر في مدينة الدانا شمال إدلب، ترك فراس تلجي، منزله الواقع في الطابق الثاني في بناية من أربعة طوابق، مع عائلته، بعد إخباره بضرورة إخلاء المنزل بسبب الخوف من انهيار البناية بفعل حصول ميلان فيها جرّاء الزلزال، فلم يجد ملجأً سوى أقاربه الذين يقطنون في مخيم قنسرين، بالقرب من منطقة أطمة، وهو مخيّم لم يتأثر بكُل ما حصل منذ فجر الإثنين من دمار.
المخيمات تفتح ذراعيها
في شمال سوريا اليوم، باتت الحالة عكسيةً في مفارقة عجيبة وكئيبة كحال الناس هنا؛ صارت الخيم أكثر أماناً من المنازل المبنية من الحجر والإسمنت، فبعد سنين القهر التي عاشها سكان المخيمات بفعل التقلبات الجوية من حر وبرد وخيم مهترئة واحتياجات إنسانية وطرقات وعرة، باتت اليوم، هذه الخيمة، هي الملجأ الوحيد الآمن من الزلزال، الذي هدم أحياءً بأكملها على رؤوس ساكنيها.
ويتسابق مديرو مخيمات مناطق إدلب وشمال حلب، وهم متواجدون في مجموعة على تطبيق واتسآب، من أجل التنسيق الإنساني، لعرض المساعدة واستقبال المتضررين (سكان المنازل الإسمنتية)، من الزلزال الذي ضرب شمال سوريا وتركيا وتأثرت به معظم دول الجوار، فبعض المخيمات جهزت لهم خيماً خاصةً، والبعض الآخر قاسمهم المبيت والطعام.
يقول مدير مخيم الراحمين في منطقة حربنوش شمال إدلب، خالد العمر: "عرضنا استقبال المتضررين من الزلزال الذي ضرب منطقة حارم ومحيطها، فاستقبلنا أمس الثلاثاء سبع عوائل من منطقة حارم تهدمت منازلهم وخرجوا بما تيسر من أمتعتهم، فقمنا بإعطاء بعض الخيم لهم والبقية شاركونا السكن".
يضيف: "كانت حالتهم مأساويةً، فقد كانوا تحت المطر في الشارع ودرجات الحرارة متدنية جداً ولم يجدوا مأوى لهم سوى مخيمنا المتواضع، الذي هرع سكانه كي يجمعوا لهم بعض الإسفنجات والأغطية والطعام ووسائل التدفئة ليساعدوهم قدر الإمكان، برغم أن مخيمنا البالغ عدد سكانه 87 عائلةً، يعاني من نقص كبير في الاحتياجات، ولكن هذا واجبنا تجاه أهلنا المنكوبين".
من جهته، تحدث مدير مخيم السوس في منطقة الشيخ بحر شمال غرب إدلب حاتم مطر، عن استقبال عوائل قدِمت من عفرين وشاركت قاطني المخيم السكن في خيمهم، ويقول: "تقطن مخيمنا 90 عائلةً نصفهم لا يتلقون مساعدات، وبرغم الحاجة الماسة ووجود أيتام ومعوّقين، لكن آثرنا على أنفسنا ألا نقف مكتوفي الأيدي تجاه مأساة الزلزال، خاصةً أنه مر علينا أسبوع من البرد القارس وشح الخدمات في المخيم، لكنه يبقى أفضل من العراء والسكن في بنايات متصدعة مهددة بالسقوط".
بسنيا عبارة عن مجمّع سكني بالقرب من مدينة حارم، يسكنها أناس تركوا خيامهم واشتروا شققاً فيها وأغلبهم من الذين هاجروا من ريف حلب، سوّيت بالأرض نتيجة الزلزال، ومن نجا منها، عاد إلى الخيام
كذلك، استقبل مدير مخيم أبو حبة في منطقة كفريحمول شمال إدلب رفعت العصري، عوائل عدة من بلدة زردنا القادمة من ريف إدلب، من الذين تركوا منازلهم التي سُوّيت بالأرض وهربوا خوفاً من الموت.
"أحتفظ بخيمتي"
احتفظ علي المر، وهو نازح من قرية أم جلال جنوب شرق إدلب، ويسكن في مدينة بنش شرق إدلب، بخيمته التي استلمها عندما كان يقطن أحد المخيمات، وبعدها انتقل إلى منزل، ليقوم بنصبها في الأراضي الزراعية ويسكنها مع أهله ريثما يهدأ الزلزال، فيما عرض مدير مخيم النعيمية عمار الهجيج، على بعض أصدقائه الهاربين من هول الزلزال، بعض الخيم الزائدة لديه لبنائها وإسكانهم فيها.
مأساة إنسانية عمّت منطقة شمال غرب سوريا، وسط هلع أصاب سكان الشمال السوري نتيجة استمرار الهزات الارتدادية واستمرار تهدم المنازل المتصدعة، فبحسب مدير مخيم الزيتون في منطقة كللي شمال إدلب محمد الأحمد، فإن المأساة عامة، ومن لم يمت بالزلزال، يعش قهراً وكمداً على ما أصاب أهله وأقاربه وجيرانه.
ويقول: "استقبلنا الناس ونحن أهل حاجة، قاسمناهم الخيمة ورغيف الخبز، برغم ضيق الحال وشح الموارد"، مناشداً هيئات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والدول العربية للمساعدة العاجلة للسوريين في الشمال، فيما تركيا مشغولة بإنقاذ ضحايا الزلزال لديها، مضيفاً أن "الدفاع المدني والفرق التطوعية تعمل بكل طاقتها لكن الكارثة أكبر من الجميع، ونقف عاجزين في أغلب الأحيان ونحن نحاول رفع الأنقاض، ولا نستطيع إخراج الناس من تحتها فيما نسمع أصواتهم ومناشداتهم".
عمل عدد من الفرق التطوعية والمنظمات الإنسانية في شمال سوريا على تجهيز مراكز الإيواء، حيث توزعت في مناطق أدلب وريف حلب
الحاجة والتضامن
عمل عدد من الفرق التطوعية والمنظمات الإنسانية في شمال سوريا على تجهيز مراكز الإيواء، حيث توزعت في كل من مخيم إدلب، مخيم الشيخ بحر، مخيم معرة مصرين، مخيم كوكنايا، مخيم وطن، مخيم الكمونة، ومخيم كللي، كما استقبلت المخيمات التالية عدداً من الهاربين من الزلزال: مركز المحمودية، مخيم كراج السرفيس، مخيم البستان، مخيم تجمع الأمل، مخيم مدخل تل راجو، مخيم معمل البيرين، مخيم مامللي، مخيم تل الطويل، مخيم صلاح الدين راجو، مخيم شيح الدير، مخيم صالة جين، مخيم الخالدية، مخيم السجن، تجمع الزهراء، مخيم الإحسان، مخيم الجسر عفرين، مخيم قطمة1، مخيم خربة علوش، مخيم سنديانكة، مخيم الشط، مخيم الجديدة، مخيم رحمات تل سلور، مخيم صالة سليمان، ومخيم برمايا.
ويعاني قاطنو مخيمات شمال سوريا من نقص حاد في الاحتياجات، وشحّ في الموارد، وسط تردٍ في الأوضاع الاقتصادية في منطقة تعتمد بشكل أساسي على المساعدات الأممية، ويبلغ عددها قرابة 1،400 مخيم، يسكن فيها 1.8 ملايين نازح، وقد تسببت التطورات المطرية وتدني درجات الحرارة في زيادة المأساة، مما سبب أضراراً كبيرةً في المخيمات، وهي بحاجة إلى مشاريع تعافٍ خصوصاً معالجة الأضرار من عمليات عزل وتلخيص الطرقات، كما بحاجة ماسة إلى معدات ومواد التدفئة، كما تشهد المخيمات عجزاً كبيراً من حيث الاستجابة الإنسانية، خصوصاً في قطاعات الغذاء والتدفئة والمياه، بحسب فريق منسقو الاستجابة الإنسانية في سوريا.
وتستمر فرق الدفاع المدني والفرق التطوعية وكافة معدات فصائل المعارضة العسكرية في رفع الأنقاض عن المفقودين تحت الركام عقب الزلزال، وسط نقص في المعدات وعدم وصول مساعدات دولية إلى الشمال السوري، برغم وصولها وبدء عملها في المراكز المتضررة في تركيا.
فبحسب الدفاع المدني السوري ارتفعت حصيلة ضحايا الزلزال في شمال غرب سوريا إلى أكثر من 2،536 حالة وفاة وأكثر من 4،600 مصاب، والعدد مرشح للارتفاع بشكل كبير بسبب وجود مئات العوائل تحت الأنقاض مع تواصل عمليات البحث والإنقاذ، وارتفع عدد الأبنية المنهارة بشكل كلي إلى أكثر من 375 بناءً، والأبنية المنهارة بشكل جزئي إلى أكثر من 1،200 بناء، وتصدعت آلاف الأبنية الأخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يوممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 4 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي