تسأل ابنة أخي ذات السنوات الست، أمّها ببراءة: "ماما... الله شو بيكون صار فيه؟"، وتردف: "هوي بيحسّ بالزلزال؟". الفتاة التي قضت اليوم التالي من الكارثة تردد بحماسة طفولية، أخبار الزلزال مما تسمعه من أحاديث والديها، لا تعي القسوة التي عشناها، والخوف الذي اختبرناه بثوانيه الطويلة. نضحك بقلق من أسئلتها، نحسدها في داخلنا على طفولتها التي لا تدرك تماماً الخطر الذي مرّ علينا. ربما نحن أيضاً، نحلم بأن نعود صغاراً مجدداً، أو الأصح أننا نتمنّى لو لم نكبر أبداً.
حتى اللحظة، لا زلت أشعر بالذعر، بالصدمة، صدمة الخوف من الموت السريع غير المتوقع، على نفسي وعلى من أحبهم. أن تُدفن تحت ركام منزلك، أن تهوي كتلته الإسمنتية التي ظننها متماسكةً، ثم تكتشف أنها قائمة على نوابض أرضية متأرجحة. تسخر منك الطبيعة في ثوانٍ، تصفعك بعنف، وتعلّمك درساً في التواضع. للأسف، سرعان ما تنساه.
لطالما كان لدي رهاب الأماكن المرتفعة. مع كل تجربة صعود قد تبدو مصدر سخرية للبعض، لم أكن لأطمأن بعدها، حتى أضع قدمي على الأرض، ويذهب ذلك الدوار وضيق النفس الذي يصيبني جرّاء تلك الفوبيا اللعينة. أعتقد أني بعد تجربة الأمس، التي عشتها بثوانيها المميتة كغيري من السوريين، بدأت أفقد جزءاً كبيراً من إيماني بصلابة ما أقف عليه من أرض، وجدار تعودت بما تلقنته من مجتمع مرعوب بأن السير إلى جانبه، لا يبعث على الأمان مُطلقاً، لأصاب مؤقتاً، بفوبيا الاهتزاز -إن صح التعبير- والتوهم بحركة ما تحت قدمي.
بعد التجربة التي عشتها بثوانيها المميتة كغيري من السوريين، بدأت أفقد إيماني بصلابة ما أقف عليه من أرض، وجدار تعودت بما تلقنته من مجتمع مرعوب بأن السير إلى جانبه، لا يبعث على الأمان مُطلقاً
ربما عندما زلزلت الأرض من تحتي، لم أكن أحسب حساب الثواني، تلك الهنيهات السريعة التي قد تقضيها في لف سيجارة، أو قضاء حاجة ما، أو تبادل تحية سريعة مع أحد، أو حديث عابر لا تُقيم له وزناً. ثوانٍ جاوزت الثلاثين لكنها كانت طويلةً للغاية، كنت متكدساً فيها تحت أغطية ثقيلة لاتقاء البرد والزمهرير الساكن خارج منزلنا، حتى بدأ المنزل بالاهتزاز كقشة في مهب ريح عاتية، أو كعلبة كرتونية هشة، برغم أن جدرانه وأساساته مبنية بطريقة "الدك" الصلبة، لكنها سرعان ما بدأت تتمايل على طريقة لعبة الكراسي الموسيقية المتحركة، لكن الفارق هنا أن إيقاعاتها قاتلة.
كنت أرى شفرات المروحة المعلقة تضرب بالسقف، والخزانة التي بدأت تتأرجح بسرعة، وكأنها سوف تسقط على السرير الذي بدأ يتخاطفني يميناً ويساراً. في تلك الهنيهات المتسارعة الخاطفة، بقيت مستلقياً، لا أعي تماماً ما يدور حولي. شعرت بأن ذلك يحدث في حلم أراه. أليس الحلم أو الكابوس صوراً تأتي إلى عقولنا في غضون ثوانٍ؟ لكني هذه المرة كنت أراه بعيون شاخصة إلى دوار الأرض من حولي، مشدوهاً، مرتعباً، وغير قادر على التفسير أو الفهم والتصرف، أو حتى التفكير في والدتي النائمة في الغرفة المجاورة.
كنت كالمشلول الذي لا يقوى على الحراك. كان كل شيء من حولي يتحرك وأنا الساكن العاجز أمام صدمة الاهتزاز العنيف، فمن يستطيع السيطرة على حبل تلك الأرجوحة الأرضية المميتة، ويجبرها على التوقف عن العبث بحياتنا التي غدت أشبه بكومة قش؟ وكيف يمكننا أن نتحدى هذا النوع من الموت؟
مضت تلك اللحظات من دون أن أعرف كيف وجدت والدتي تفتح باب غرفتي مذعورة، وتسألني بقلبها وعيونها قبل لسانها عما حدث. قلت لها من دون وعي: "يبدو أنها هزة أرضية". ردت قائلةً بذعر: "الله يجيرنا ويجملها بالستر"، ثم مضت مسرعةً نحو قن الدجاجات وأصواتها العالية، إذ كانت قد اكتشفت أن إحداها قد هربت خارجه، حتى عقلها لم يستوعب أنها ذُعرت بسبب الهزة الأرضية العنيفة، وكل ظنها أن "الجقل" (الواوي) كان يحوم حول القنّ، لكن "الجقل" هذه المرة كان "زلزالاً مدمراً".
ربما من العدل القول إننا كسوريين مطاردون بالموت. واليوم جاء الدور على الطبيعة الغاضبة لتختبر "صمودنا الأسطوري"، وصبرنا اللا محدود، كأن لغتنا الوحيدة التي نتقنها هي الدموع، وقدرنا الفجيعة الدائمة
الدقائق اللاحقة للزلزال لم تكن أقل رعباً من سابقاتها. عدت في محاولة مضنية إلى النوم، مستلقياً قرب زاوية الغرفة حيث العامود الذي منحني بعض الشعور بالاطمئنان. حاولت الانشغال عما حدث بالتفكير في أي شيء آخر، كمعرفة نتيجة المباراة التي غلبني النعاس في أثناء متابعتي شوطها الثاني، أو مشاهدة بعض مقاطع الفيديو الفكاهية. ولأن الخوف هو "قتّال صاحبه"، ولا "حذر ينجي من قدر"، قلت لنفسي إن كنت سأموت فلأمت وأنا غارق في نعيم النوم، بلا ألم أو إحساس بأي هزة لاحقة.
صحونا بعدها بساعات على كارثة كبيرة جديدة أصابت هذه الجغرافيا الحزينة التي تُسمى سوريا، الصور والفيديوهات التي انتشرت كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، تُبيّن حجم الكارثة التي نجونا منها. أبنية منهارة، جثث نيام دفنوا على غفلة من أعمارهم تحت رُكامها. أحياء محظوظون نجوا بـ"قدرة قادر"، بمعجزة أو أعجوبة، يتم انتشالهم من تحتها. آباءٌ يبكون من فقدوا، أناس يفرون إلى برد الشوارع للاحتماء بالخلاء من تماوج جدران أبنيتهم، يرفعون أيديهم إلى السماء، إلى الله، لكي "يتلطف بهم"، فيما عدّه البعض "عقاباً إلهياً"، وجزءاً ندفعه عن "كفرنا بنعمه".
سوريون لم يبقَ لهم سوى الله ينتظرون أن ينظر إليهم بعيون رأفته، فالصدوع التي اهتزت في جوف الأرض لا تعني شيئاً أمام نزيف صدوع أرواحهم التي مزقتها المآسي المتلاحقة، أو كما قال أحد أصدقائي الساخرين من شقائنا المستمر: "كأنه ما كان ناقصنا غير زلزال لتكمل محاسننا".
بعد الذي حدث بالأمس، ربما من العدل القول إننا كسوريين مطاردون بالموت حرباً، وبرداً، وجوعاً، وغرقاً. واليوم جاء الدور على الطبيعة الغاضبة لتختبر بدورها "صمودنا الأسطوري"، وصبرنا اللا محدود، كأن لغتنا الوحيدة التي نتقنها هي الدموع، وقدرنا الفجيعة الدائمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...