شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
عالم جميل ينهار ببطء

عالم جميل ينهار ببطء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 28 يناير 202312:46 م

حياكة الكلام


 

"اطلع بقى ينعل أبو اللي جابك"

قالها سائق أوبر بعصبية شديدة وبلكنة لا تتماشى مع قميصه الشيك والإير بود الهاي كوبي التي يحملها. فتحت عيني بصعوبة بالغة وواضعاً يدي حماية من الشمس، نظرت بعدها لأجد حولي سيارات تضرب كلاكسات شديدة، أعدت النظر إلى السائق:

"هو في إيه؟"

"مش عارف، بس حد قالي سفير النمسا بيزور المتحف المصري "

كتمت الضحكة في سري ولم أعقب. أخرجت هاتفي لأجد الساعة قد اقتربت من الثانية عشرة، ووجدت أن شاهندا قد اتصلت بي إحدى عشرة مرة. اتصلت بها لأستمع إلى ما لا يحمد عقباه:

"أنت فين يانيلة "

"شاهندا، فيه خرا وزير ولا سفير بيزور المتحف. الكوبري مقفول "

"انجز طيب. خرم بالعربية على أي جنب. الراجل بتاع شركة الشحن هنا "

"العربية مش معايا. بايظة. راكب أوبر أهو. حاولي تعطليه شوية".

أغلقت الهاتف بعد الكذبة التي قلتها تلك، فالسيارة ليس بها أي شيء، إنما أنا لا أقود في القاهرة نهاراً، وخصوصاً أيام الثلاثاء. أخرجت خمسين جنيهاً وأعطيتها للسائق. كانت أكثر من المبلغ الذى سيطلبه التطبيق. نزلت على قدمي، أحاول المرور بين السيارات لأصل لنهاية الكوبري.

وصلت الى الشركة. كانت شركة تسويق تطلق على نفسها "وكالة إعلانات" رغم أن كل ما تمتلكه للتصوير هو كاميرا واحدة ومصور يعمل بدوام جزئي. كانت شاهندا تقف أمام غرفة الاجتماعات، تمشى أمامها ذهاباً واياباً:

"كل ده"... بادرتني بدون أن ترفع صوتها.

"الطريق بقلك الطريق أنا جاي مشي".

دخلنا الى المكتب، وكان بالداخل حاتم وعصام صبري، رئيس أكبر شركات الشحن في البلد.

"عصام إزيك. آسف على التأخير. الطريق أنت عارف". كان عصام يكره كلمة أستاذ ويريد أن تناديه باسمه فقط.

"لا، لا ولا يهمك. بصراحة كان معادنا بكره وفى الشركة، بس كنت قريب وكان لازم أجي علشان موضوع مهم".

هززت رأسى لكي يكمل كلامه.

" طيب أنا هخش في الموضوع. أنتو بصراحة شغلكو عاجبني وعاجب أغلب الأعضاء يعني".

ظهرت ابتسامة على وجه حاتم وشاهندا، أما أنا فكنت أستمع.

" أنا موافق إننا نعمل الشغل، بس لازم نمضى النهاردة ونبدا شغل من بكره. الإعلانات في الشوارع وعلى السوشال ميديا. أنا للأسف مسافر لمدة 3 شهور، ومش عايز أسيب التسويق بتاع الشركة كده من غير أي حاجة. إحنا شركة لينا وزننا".

عقدت حاجبي لعدم رضاي عن كلامه، فتدخل حاتم حينها:

"طبعاً يافندم. إحنا هنعمل اللي نقدر عليه علشان نخلى حضرتك راضي أكيد".

وقتها نظرت لحاتم في استغراب وسخط، ثم استأذنت عصام للخروج والعودة مرة أخرى، وتركته مع حاتم وشاهندا يشرحان خطة التسويق، ثم ذهبت إلى مكتبي. في المكتب جلست لمدة ربع ساعة أقلب في فيسبوك. وقتها دخل حاتم بدون أن يطرق الباب وعلى وجه غضب عارم:

"أنت اتجننت "

"إيه "

"ردّ عليا. أنا بقلك أنت اتجننت "

"في إيه ياحاتم "

"تسيب كلاينت مهم زى ده هيمضي عقد لمدة سنة معنا وهيدفع 600 ألف جنيه وتقولي في إيه "

"ياعم ده واحد عايز يحقق أحلامه، إحنا مش فاضيين "

"لا ياحبيبي إحنا فاضيين. الباقي بيدفع ملاليم إذا دفع. ده الكلام اللي كنا بنعمل في الشركة القديمة وبعديه انساه. ديه شركتي ياهشام ومش هسمح إني أقفلها وادور أشحت".

فتحت ستارة الشباك لأرى القاهرة وهي حزينة وكئيبة كأنها فقدت عزيزاً. جلست على الكرسي وأنا أشرب البيرة وأنظر إلى كورنيش المعادي لعله ينهار وينهار العالم ورائه... مجاز 

كنت أنظر له وعلى وجهى استغراب من لهجته:

" عايزين نبدا شغل من بكره الصبح، وعايزين على بكره بليل نشوف الأماكن اللي هنعمل فيها إعلانات الشوارع ".

خرج حاتم بعدما تحدث معي للمرة الأولى منذ 4 سنوات بهذا الشكل. كانت علاقتنا تعود إلى أول شركة عملت فيها في حياتي، وهو بصفته مدير التسويق كان يجرى معي المقابلة التي كانت تمرّ بشكل عادي، وتذهب ناحية إلى أنني سوف أُرفض، ولكني انتهزت الفرصة التي أتيحت حينما دخل أحد الموظفين يسأله عن مشكلة ما، فأخبرته عن حلها. نظر لي وقطب حاجبيه مستغرباً عن كيفية معرفتي لها، فقلت له وأنا اشير للأبلكيشن: "كورسات يامان ".

ابتسم لي وكانت بادرة أمل. أشار للشخص ليفعل ما قلته، ووافق بعدها على تعييني لتبدأ فترة صداقة وطيدة معه، فحاتم كان شخصاً لطيفاً، تحب أن تتعامل معه، لكن ليس اليوم بالتأكيد. ظللنا نعمل في تلك الشركة حتى تركتها قبله لانشغالي بكتابة مجموعة قصصية من 26 قصة تحدث في كل محافظات مصر، قمت بإرسالها إلى أصدقائي في النهاية، ولكن بعدما تبدّدت أموالي في الطباعة والتاكسي ووجبات كنتاكي التي تؤلم معدتي، وجدت اتصالاً من حاتم يخبرني أنه بصدد فتح شركة جديدة ويريدني معه كمسؤول عن التسويق وتنسيق المحتوى الإبداعي بحكم خبرتي، وافقت لرغبتي في جنى المال.

بقيت في الشركة أنتقل من مكتب لآخر، أحاول أن أنتهى من خطة الحرب التي سنجتاح بها روما وننهى حكم الرومان. ظللت في المكتب حتى العاشرة مساء. شعرت بألم في معدتي من قلة الأكل. طلبت بيتزا سي فود وجلست في مكتبي، وقتها ظهر حاتم وهو يقول: "أنا ماشي ها". هززت رأسي موافقاً وأنا آكل البيتزا. حاول وقتها أن يغلق الباب، ولكنه فتحه مرة أخرى ليعتذر عن طريقته بحجّة أنه كان مضغوطاً. هززت رأسي له وأخبرته أنه لا توجد أي مشكلة. ابتسم حاتم وقال: "لو نفسك هفتك على بيرة أو رجعت تشرب، المكتب عندي فيه بس متقلش لحد"، ورحل.

*****

الساعة كانت تقترب من الثانية عشرة، وأنا أخرج من الشركة بحثاً عن تاكسي يقلني للعجوزة حيث شقتي الجديدة التي غيّرتها منذ 9 أشهر، بعدما كنت أسكن في المعادي، في شارع 9 تحديداً، لمدة 5 سنوات، ولكن عاصفتي المادية جعلتني أختار بين الشقة أو السيارة، فاخترت السيارة وتنازلت عن الشقة. وجدت تاكسي أخيراً يقوده رجل عجوز، يشغل الكاسيت على أم كلثوم. وصل العجوزة قبل أن تبدأ أم كلثوم بالغناء.

اليوم التالي أنجزت العمل، وذهبت وأول مخطط لي كان أن أضع بنزين في السيارة. ذهبت إلى أقرب محطة. في البنزينة كان المشهد المعتاد لشخص يشعل سيجارة وينهره عامل البنزينة. وضعت البنزين وفي طريقي للخروج رأيت آخر شيء أتوقعه... هدى!

أخرجت رأسها من السيارة ونظرت تتأكد مني، هل أنا أنا أم واحد من الأربعين. نزلت من السيارة وسلمنا على بعض. مددت يدي فمدت يدها. كان تلامس سريع لحظي ولكنه كان مطمئناً جداً. شعور لم أجربه منذ سنتين.

" أنت بتعمل إيه هنا"

" في بنزينة، هكون بعمل إيه؟ "

"ياخفيف لا في المعادي "

"شغلي الجديد بقى هنا، وانتي؟ "

"كنت راجعة من الشغل بقيت بشتغل في التجمع دلوقتي "

" طيب حلو، عايز أبقى أشوفك تاني "

" بقلك إيه أنا هدخل العربية تتغسل وتتنضف، تعالى نشرب قهوة جوه "

لا أستطع أن أقول "لا" لها، كنت أريد أن أبادر لذلك الأمر ولكنها سبقتني. في الداخل جلسنا نشرب قهوة تصاعد منها البخار، كنت أنظر للكوب وأحاول ألا تتلاقى أعيننا.

" لسه بتخاف تبص في عيني "

ابتسمت

"شكلك متغيرش على فكرة "

"وانتى كمان بس بقيتي أحلى "

"آه صح، سهير سألتني عليك من فترة، وكل كام يوم تقولي عايزة تشوفك "

السيارات تضرب كلاكسات شديدة، أعدت النظر إلى السائق: "هو في إيه؟". "مش عارف، بس حد قالي سفير النمسا بيزور المتحف المصري ". كتمت الضحكة في سرّي ولم أعقب... مجاز

كان وقع الكلمة صادماً. نظرت لها والدموع كادت تنهمر من عيني: سهير! كم كان الاسم سهلاً ولكن أثره لا يزول. هل تعرف تلك السيدة التي تأتي اليك في عزاء والدك أو والدتك لتخبرك انها قريبتك من بعيد؟ هذا ما فعلته سهير. أتت لتشرح لي علاقة طويلة جداً وقرابة معقدة مع والدي. أخذت رقمي لتطمئن على من وقت للآخر. اتصلت بعد شهرين لتخبرني انها انتقلت مع ابنتها هدى من المنصورة إلى القاهرة لأن هدى وجدت عملاً في إحدى المجلات التي في المعادي. في البداية كنت أقبل اتصالاتها على مضض ولكن عندما دعتني لشقتها القابعة في حدائق المعادي، أخبرتني أنها كانت تحب أبي بشدة، وأنه حينما كان يتشاجر مع أمي كان يذهب لها المنصورة، خصوصا أن زوجها مات بعد سنتين من الزواج، وقبل أن تساورني الشكوك عن علاقتهما، أخبرتني أنها علاقة بريئة كأخت وأخ.

 كانت تعطيه حناناً فقط، ولم تكن لترضى أن يخرب بيته على حد تعبيرها. زاد تواصلي مع سهير في ذلك الوقت، وبالتالي تواصلي مع هدى. كنت أسبوعياً آكل عندهم. علاقتي بهدى كانت تشبه العلاقات التقليدية... كره جمّ ثم حب. بدأت النيران بيننا تهدأ حينما بدأنا في الحديث عن الأفلام والموسيقا. بدأت تقنعني أن أقرأ في علم النفس، ذلك التخصص الذي تحبه هدى بشدة. في الكتب بدأت أسوار برلين بيننا تهدأ. قررنا أن نقوم بالخطبة بعد تفكير عميق.

ولكن ما بدأ جيداً لا يستمر في النهاية. جدار برلين بيننا الذي هدم مسبقاً كان مع هدى كحائط خرساني أوصلنا إلى خط النهاية. عشرة أشهر كانت حصيلة خطبتنا، وانتهى معها كل شيء، ولكن علاقتي بسهير لم تنته. كانت تقول لي إني ابنها ومهما حدث يجب أن آتي. ظللت مواظباً على الزيارات كل أسبوع كشاب يصلّي الجمعة، ولكن سرعان ما قلّت تدريجياً كأعراض انسحاب المخدر من الجسم:

" إيه روحت فين "

كل ذلك الوقت قد سرحت في الماضي وما حدث:

" لا لا مفيش "

"تصدق ده شبه نظرية في علم النفس "

بدأت أضحك.

"لسه برضه لما الموضوع مش بيعجبك بتضحك "

"وانتي لسه بتحبي علم النفس "

" بقولك إيه، تعالى قابلها واعملها مفاجأة "

" هشوف ظروفي "

" مفيش ظروف، هستناك بكره وإلا هقولها إنك مرضتش تيجي "

كانت آخر جملة بمثابة انتهاء للحديث. قام كل منا وخرجنا من البنزينة بدون أن نقول أي كلمة.

 ذهبت إلى العمل ولكن عقلي كان مع سهير. كنت أتوقع وابلاً من الأسئلة والاستعطافات حتى أعود أنا وهدى سوياً. لم تكن لي رغبة في مقابلة بشر، إنما كل ماكنت أريد فعله هو مشاهدة فيلم سخيف في التلفاز والتفكير في لقاء الغد.

في اليوم التالي، فكرت في البداية أن أحضر جاتوه من ايتوال شارع 9 الذي تحبه. ذهبت إلى هناك، جلبت دستة، وفي تلك الأثناء وجدت هدى تتصل عدة مرات. في البداية ظننت أنها تسأل أين أنا، فلم أرد، ولكني وجدتها ترسل فويس نوت على الواتساب. ضغطت زر التشغيل لاستمع:" هشام أنا آسفة بس ماما ماتت امبارح بليل، وانا عارفة إن كان لازم أقلك واكلمك بس ماما كان عندها كانسر في مرحلة متأخرة. أنا آسفة. أنا هروح المنصورة علشان الدفن وكل ده "

توقف الزمن لدقائق. لم أدر ماذا أفعل، هل أذهب أم أنتظر؟ هل أعيد الجاتوه أم أوزعه في الشارع؟ هل أبكي أم ألقى بنفسي أمام مترو الثكنات؟ لم أدر ماذا أفعل، ولكني تذكرت أني مرة قرأت جملة: "أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي". سأعكسها ولن أفعل أي شيء. قدت إلى الشركة. صعدت وأنا أشعر أن العالم في رأسي ينهار، كل شيء يتداعى. صعدت لأجد شاهندا تخبرني:

"أنت مش إجازة يابنى "

"لا لا لغيت اللي كان ورايا. حاتم جوه؟"

"لا راح ميتنج "

اتجهت إلى مكتب حاتم. فتحت المكتب واتجهت إلى الثلاجة، أخرجت زجاجة بيرة ثم اتجهت إلى مكتبي. أغلقت الباب بالمفتاح، ثم فتحت ستارة الشباك لأرى القاهرة وهي حزينة وكئيبة كأنها فقدت عزيزاً. جلست على الكرسي وأنا أشرب البيرة وأنظر إلى كورنيش المعادي لعله ينهار وينهار العالم ورائه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image