نوستالجيا خفيفة
لدي ساعات طويلة من الانتظار وانا مُنهَك. مُنهَك لا لأمر يمسّ السؤال الذي ينعته الأساتذة والفلاسفة بـ "الخلّاق"، ليس الأمر على هذا النحو، كل ما في الأمر أن رحلتي استغرقت 24 ساعة، وقبلها كنت أرِقاً وبلا نوم أيضاً، كل ما يشغلني هو أنني لم أعد أرغب بما ليس متوقَعاً، ومغادرة المكان الذي يخصّني، قد تسوق أقداري إلى ما ليس متوقعاً.
مغادرة المكان تعني "الاحتمال". مكانك هو يقينك، سيكون هذا حالك أياً كان حجم هذا المكان، وصفته. المكان الذي تعرفه، تصرف وقتك فيه، تكنسه، أو ترتب محتوياته بيدك، لابد وأنه يقينك، ما يعني أنه لا يسمح لحامله بالتهوّر والمغامرة ولا يتطلبها.
في حدود هذا اليقين، أنت تعرف أثاث منزلك، أدوات المطبخ، وكرسي الكتابة، وتلك التفاصيل الصغيرة التي ينشغل بها أرباب البيوت، مثل المؤونة التي تتدحرج دون يد تدفعها إلى مصيرك، بوصفك رجلاً يشتغل على التعافي من الهزال المرير الذي فرضته تلك الأسئلة الكبرى، والتي برهنت الأيام أنها ليست كبرى.
نعم أنا مُنهك من السفر، من الاحتمالات وتبديل الشاشات التي تدلّك على مسار طائرتك وأنت تقف متصلّب الشرايين أمام نبضات أرقامها وحروفها، عاجزاً عن قراءة جدول الطائرات، وأي منها يخصّ رحلتك بعد تبديل طائرتك الأولى في مطار إسطنبول. مطار إسطنبول؟ ياللهول، هو "مدينة" يتقاطع فيه رحّالة العالم ورجال الأعمال والأولاد الذين يهجرون أوطانهم بحثاً عن أوطان بديلة، دون استحضار تلك المفردة التي يطلقون عليها لقب "نوستالجيا" الكلمة المشتقة من اليونانية، والتي تعني الحنين.
مغادرة المكان تعني "الاحتمال". مكانك هو يقينك. المكان الذي تعرفه، تصرف وقتك فيه، تكنسه، أو ترتب محتوياته بيدك، لابد وأنه يقينك، ما يعني أنه لا يسمح لحامله بالتهوّر والمغامرة ولا يتطلبها... مجاز
حنين لماذا؟ للمكان؟ لن يسير الأمر على هذا النحو، أنت لا يملكك الحنين للمكان، ولا يشغلك، كل ما يشغلك فيه ومنه، هو "يقينك به" فهو المكان الذي تعرفه، هو الكائن الذي لا يحمّلك أعباء التوقع... أعباء الاحتمال... أعباء الخيبة أو أعباء السعادة أو المغامرة إن شئت. مغادرته لا تعني الإصابة بالحنين إليه، هي تعني أمراً آخر، من مثل فشلك في التعرّف على تبديل الطائرة بطائرة أخرى، فتتوه في أناقة الصالات الكبرى وعيناك زائغتان، ضيقتان خوفاً من ارتكاب الخطأ. عليك أن تتوخى الدقة، فللدقّة، في مثل هكذا حال، سطوة عظيمة.
ها قد حدث وأضعت "الدقّة"، "الدقّة" هنا هي مجدافك وقد انكسر. ثمة مفارقة قد تركبك، والمفارقة هنا ستكون مبدئياً مفارقة لغوية: ثمة تطابق فظيع ما بين "الدّقة" و"الدّفة"، ولا بأس إن أضيفت نقطة هنا للاشتغال على تماثل المعنى، مادام الحال كذلك، عليك أن تتابع السباحة، فتبديل الرحلة بالنسبة لك قد يعرّضك للغرق، أما ما يطلق عليه "ترانزيت"، فقد أدّى إلى وقوفي فاقد الحيلة بمواجهة الشاشة الممتلئة بأسماء عواصم ومدن وبلدات وأرقام، من مثل "البوابة O 5 A".
هي بوابة، ليس كما بوابة "عوليس" وقد غادر إلى حرب طروادة مثخناً بجراحه. بوابة لا أبواب لها، ولا حرّاس، ولا منجنيقات ترمي بحممها على بشر محاصرين. هي محض بوابة إلكترونية اخترعها بشر اخترعوا الطائرات التي تطلبت بدورها المطارات، لتصبح مطلباً لبشر يغادرون أمكنتهم، وليس منهم من لا يحكي بالحنين. حنين للجدات، أو الأمهات، أو المقاهي، أو سبورة المعلّم الكفيف الذي يلوّح بعصاه مهدداً تلامذته بقصف أعمارهم إذا لم يفلحوا بقراءة "سورة الكرسي"، ومن ثم يندفع طالب مجتهد، ليمد يده بديلاً عن راحة كف الولد الكسول ويأخذ الجزاء كبديل عنه، ليكون "الدوبلير"، وقد استثمر كلاهما "كفاف عيون المعلّم" ما سمح للخدعة بأن تنطلي عليه.
حدث ذلك ولكن ليس دون مقابل، فالمغامرة لابد وتكون طموحة، ربما تحصد ثمارها وربما تحترق بيادرها، غير أن الأكيد أن الولد الكسول لم يبدّد مغامرة ولد "آية الكرسي" ولم يحرمه من الفوز، فمن بعد هراوات المعلم الكفيف، منح التلميذ الكسول زميله المجتهد عضّة طيبة من "راحة سميرة توفيق"، تلك الراحة الممسّكة المطوية بعلب وسم على غلافها صورة مطربة آبائنا. آباؤنا وقد فتنوا بـ "شامة خد سميرة توفيق"، ثم فتنوا بـ "لودي شامية" وبـ "الحرس القومي"، مع أن لا "لودي شامية" ولا "الحرس القومي"، يرسم شامة على خده.
مجمل الحكاية أن "لودي شامية" وقعت مفتونة بالبزة العسكرية لضابط كان قد وعدها بالنجوم، وحكى لها عن الحرب التي ستقع، وما إن وقعت الحرب حتى تساقطت نجومه عن كتفيه، ومع تساقطها أسقط مطربة الجيش، فكانت الهزيمة المدوّية وقد أسميناها "نكسة"، فيما ذهب "العدو البليد" إلى تسميتها بـ"حرب الأيام الستة"، وقد أورثت سنوات من الـ "النكسات" و"الأيام الستة" وقد تدحرجت أيامنا ستة وراء ستة وراء ستة حتى نهاية القرن العشرين.
هو ذا "الحنين"، وباليونانية هي ذي "النوستالجيا"، فالطائرات، وركوب الطائرات، بما فيها الطائرات المدنية، سيحيي بك سؤال الطيران، ومعه ستحضر طائرات "فانتوم"، تلك القنّاصة القاتلة التي وسمت آباءنا بـ "النكسة"، مع أن الأناشيد لم تقل شيئاً من هذا.
كان النشيد يبدأ بـ "دك المدفع فدائي... ولا تهاب الطيارة". لا، لن يحدث هذا، فأنا ممن لا خبرة لهم بـ "دك البواريد"، عداك عن كونهم يهابون الطيران وكل أشكال الطيران وبكل تجلياته. أهاب الأماكن المرتفعة، هي فوبيا، فكيف إذا كانت الطائرات هي هذا التجمع من ناس لا يعرفون بعضهم، ولا يتبادلون الأسماء. مسافرون يقعي كل منهم في مقعده منتظراً وجبة خفيفة من يد مضيفة بلا شك تفتح الشهية على الأكل بالأصابع، بكل الأصابع، باليد كلها حتى المعصم، وقد تعلوه إلى "الكوع"؟
عبد الباسط عبد الصمد الذي طالما افتتحت صباحاتك معه، لا بحثاً عن الله، وإنما إجلالاً لخالق "اخترع" هذا الصوت الفريد. خالق لا تعرف أنت على جه التحديد جنسه ولا جنسيته... مجاز
قد تحدث المفاجأة الكبرى إذا ما وقعت الواقعة وكان رفيق مقعدك المجاور "شيشاني"، يمد لك يده مصافحاً باعتباركما كليكما من سلالة الرسول. سيفتح شاشة مقعده على تسجيل مرتّل للقرآن الكريم، وعلى أسفل الشاشة ترجمات باللغة الإنكليزية، فيما صوت المرتّل أجش، متقطّع، مُنهَك، مُستعجِل، لا يشبه صباحات عبد الباسط عبد الصمد، ذاك المرتّل الذي يمنح اللغة روح التخت الشرقي وكل التخوت واليخوت، وينافس "أم كلثوم" على رباعيات الخيّام.
هو عبد الباسط عبد الصمد الذي طالما افتتحت صباحاتك معه، لا بحثاً عن الله، وإنما إجلالاً لخالق "اخترع" هذا الصوت الفريد. خالق لا تعرف أنت على جه التحديد جنسه ولا جنسيته، مواطنيته ولا وطنه، قومه ولا قوميته، عرقه أو كمّ العرق المهدور من جبينه وهو يثابر على خلق مخلوقات، من بينهم "عبد الباسط" المضاف لأسمهان، وأم كلثوم، وليلى مراد، ولتلك الصعيدية القاتلة التي لا أعرف اسمها وتغويني بكارتها، ذلك أنه ما من مطربة غنّت بغير الحنجرة سواها، تلك الصعيدية ابتكرت من "بكارتها" ملحمة للنيل، لتتداعى معها أساطيل كليوباترا ونفرتيتي، وآباء المصريين الأقدمين، وقد طاردوا الخلود بالترميم، حتى بات التحنيط هو الخط الرفيع ما بين فناء الإنسان وديمومته على وجه هذه الأرض التي طالما سعت إلى السماء فابتكرت الطيران.
قبل سعيد الشيشاني، كان مصطفى الجزائري قد استوقفني، حكى لي عن خراب بلادي، وعن نشيد الجزائر، وإمعاناً في مجاراته وقفت باستعداد جندي يطيع الأوامر، وكررت معه: "قسماً بالنازلات الماحقات" وصولاً إلى "نحن خضناها حياة أو ممات، وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
حسناً أن رحلة مصطفى لم تكن باتجاه رحلتي، ولكن ويا للمصادفة فقد كانت رحلة محمد متوافقة مع رحلتي، ومحمد هو مغربي وهراني، يكنّ الكثير من الضغينة للجزائريين، وكنت أجامله برياء دفين، ومن ثم أدعه يخبرني بأنه ضابط بحّار أحيل إلى التقاعد، دون نسيان التمسيد على شعره اللصيق برأسه كما لو كان خوذة حديدية.
انتهت حكايات مقاعد الانتظار، للسماء شؤون أخرى، فالطائرات تمشي فوق الغيوم لتحجب المدن والأنهار والنساء العرايا، حتى لتظن أنك غارق في الثلج الذي حملته في الدفاتر طفلاً من وإلى قرية أشهر سكّانها حذّاء الخيول ذو الأنف المبتور وجابي باص قريتك بقلمه الرصاص المشكوك على أذنه، كل هذا وبإدارة رجل يكرّر: ـ"لا إله إلاّ الله"، ليمزج الاستحضار بالنفي، بعد أن يجزّأ الحرف ويقوده إلى صياغات صوتية: الـ "لا" و"الهاء" لا تتعديان زفير الرئة.
نحكي عن "النوستالجيا"؟ حسناً. إذن فلنقف امام "شاشة بورد" المطار. تفوتنا الطائرة بلا شك. زمن البوابة O 5 A. هذا الزمن ليس زمن طيراننا. إنه اللازمن. وقت بلا وقت. أيّ انفجار تحمله "النوستالجيا"؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com