شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
متى سأقابل نسختي الثانية في العالم الآخر؟

متى سأقابل نسختي الثانية في العالم الآخر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 4 فبراير 202311:34 ص

النائم


 

أراها بجانبي طوال الوقت، نسخة أخرى مني، أكثر جمالاً، تمتلك تلك العيون البنية الفاتحة التي حلمت بامتلاكها ولكن لديها نفس ملامحي الأخرى. تفعل ما كنت أتمنى فعله، ترقص وتغني، يصدح صوتها في كل مكان مثلما أفعل أحياناً عندما أكون بمفردي، ولكنها تفعل ذلك وسط الجميع. لا تخشى أحداً، في أحيان أخرى أظنها لا ترى شخصاً غيري، وفي أغلب الأحيان لا أريد أن أرى شخصاً سواها.

طفلة صغيرة تترك شعرها الطويل حراً دون أن تقيده ضفيرة أو كعكة مملة، تضع في فمها مصاصة لونها وردي، تحول لون شفتيها لنفس اللون. تنتعل صندلاً عالياً وتصفق بيديها وهي تدور بفستانها لتصنع منه دوائر تحيط بها من كل اتجاه. تنظر نحوي، تضحك عالياً وتخرج لسانها، أعاتبها وأنا أضحك. تضع يديها على شعري، وتفك ضفيرتي عقدة تلو الأخرى. أبتعد عنها رافضة، فتغضب وتتركني وتعود لتدور مع فستانها مجدداً دون أن تعبأ ببقية عقدي.

مرحها الزائد جعلني للمرة الأولى أغار منها. لم أهتم بحبي لها، كانت الغيرة في هذه اللحظة هي الطاغية. عادت إلي مجدداً، أمسكت بيدي ووجهتني ناحية المرآة وقالت: "انظري". لم أترك يدها هذه المرة، ونظرت ووجدت أننا نسخة واحدة. نعم. نحن نملك نفس الملامح، وعندما عبرت عما يجول في خاطري بصوت مرتفع، سمعتها ترد: "لا... نحن لسنا واحداً. أنا أعيش بينما أنت لا".

*****

هكذا يكون اللقاء دائماً بيني وبين نسختي الطفلة. جامحاً، لقاء أستعد له كثيراً ولكنه في النهاية ينتهي بخسارتي، في كل مرة أجهّز تلك الردود التي سأقولها تنهار إراداتي وأنصهر أمام ابتسامتها الدافئة، ويبتلع زهو روحها خفوت روحي، فلا أقدر على الكلام، وينتهي اللقاء مثل كل مرة، بدموع تملأ عيني وضحكة ترسم وجهها.

*****

في لقائنا اللاحق كانت تركب دراجة، انبهرت بشعرها الذي تطيّره الريح وراء ظهرها، كانت تقود الدراجة بسهولة أثارت دهشتي. شيء ما انطفأ داخلي عندما تذكرت رغبتي الكبيرة في ركوب الدراجة وأنا صغيرة عندما لم يسمح لي أهلي. حسدتها، راقبتها من بعيد لفترة طويلة. حتى جاءت إليّ تمسك بأصابعي لتجعلني أصعد وراءها. كانت قدماي الصغيرتان ملتصقتين بالأرض، مهما حاولت لم تتزحزح واحدة منهما، في هذه اللحظة فقط رأيتها تطير بعيداً واختفت.

أمسكت الطفلة بيدي ووجهتني ناحية المرآة وقالت: "انظري". ونظرت ووجدت أننا نسخة واحدة، ونملك نفس الملامح، وعندما عبرت عما يجول في خاطري بصوت مرتفع، سمعتها تردّ: "لا... نحن لسنا واحداً. أنا أعيش بينما أنت لا"... مجاز

سخرت مني صديقتي عندما أخبرتها بلقائنا وربما ظنّت أنني مجنونة. لا تصدق أن هناك نسخة مني في هذا العالم، تدور في سعادة في كل مكان، بل تستطيع الطيران بينما أنا أميل بشكل دائم لهذه الأجواء الكئيبة والالتصاق بكل ما هو قديم وممل. سألتني عن طفولتي. سكت، فطفولتي تحمل الكثير من الذكريات الحلوة والعديد من الأحلام التي لم تحدث والآلام التي لا تنسى.

عندما رأيتها مجدداً كانت بالفعل قد نفضت عنها ثوب الطفولة. فتاة ودعت سن المراهقة، قريباً تحمل كل سمات الأنوثة على جسدها الحار المنمق، لم تحمل كيلو جراماً زائداً – كما كنت أنا – مازال شعرها كما هو يرفض التقييد، لا يخلو وجهها من المساحيق، والثوب الذي ترتديه كان يصل فقط لركبتيها.

أغمضت عيني وفتحتها أكثر من مرة. هذه الفتاة من المستحيل أن تكون أنا، فلو كانت أنا بدلاً من هذا الشعر المتطاير لكنت رأيت الحجاب الذي يقبض على شعرها، وكان البنطلون سيحل محل هذا الفستان الزهري، بينما بالتأكيد كانت لتبدو بدون قطرة تجميل واحدة. وأكثر ما أعجبني فيها هذا الحذاء ذو الكعب العالي الذي أظهر جمال ساقيها.

اقتربت مني بثقة، بادلتني النظرات، سألتني: "هل أنت سعيدة؟"، ترددت ثم أجبتها بـ"نعم"، فقالت: "ولكنني أكثر سعادة منك. أفعل ما لم تستطيعي فعله، أراقبك في بعض الأحيان وأسخر من كل تزمتك وغليانك غير المجدي، ما الذي وصلت إليه بينما أضعت عليك الكثير من الفرص والسعادة؟". لم أستطع أن أرد عليها، بينما كانت في رأسي الكثير من كلمات الخطب التي اعتدت عليها وأرددها باستمرار أمام زميلاتي اللائي يرفض الكثير مما أقوم به. الكلمات تبخرت أمام جرأتها. حاولت أن ألمسها فدفعت بي بعيداً عنها، فسقطتُ أرضاً.

هذه المرة لم تكن وحدها، كانت تمسك بيد شاب وسيم، ظننت لوهلة أنني رأيته من قبل، ولكن لم أستطع التذكر. نظرت إليّ من بعيد وتركت الشاب لتأتي إليّ. هذه المرة كنت مستعدة لأرد على كل كلمة، أو هكذا ظننت. أول ما رأيته في عينيها كان الغضب، لم أفهم سر هذا الغضب المسيطر على ملامحها، نظرت إلى وكأنها تمتصّ الحياة من روحي.

طلبت مني أن أتركها، أجبتها: "لا أفهم"، كرّرت طلبها ثانية وثالثة ورابعة، وفي الأخير قلت لها: "بل أنت اتركيني"، لكمتني في صدري بقوة وقالت: "من غير الممكن أن يحدث، فيجب أن تموت واحدة منا". لم أفهم، والحقيقة أنني ارتعبت من كلامها هذه المرة، فهربت منها دون أن أسمح لها باللحاق بي.

*****

لم أرها لفترات طويلة. ورغم النفور الذي شعرنا به تجاه بعضنا إلا أنني افتقدت وجودها. في مساء أحد الأيام لم أطق احتمالاً ووجدتني أبكي. جاءتني وقتها امرأة عجوز وضعت يدها على رأسي. نظرت إليها لأسأل: "من أنت؟". لم ترد. لم تحاول تهدئتي، بل طلبت مني أن أكثر من البكاء. قالت لي: "اغسلي قلبك وابكي". التجاعيد كانت تملأ وجهها ولكنها لم تخف عينيها البنيتين. لم أعرف لماذا شعرت أنني أنظر إلى نفسي.

*****

المرأة لم تختف من حياتي. كانت تظهر من وقت إلى آخر. مرة أسمعها تبكي في زاوية بعيدة وعندما أحاول الذهاب إليها لتهدئتها تمنعني بإشارة منها. أجدها طوال الوقت تبكي. لم أرها تضحك إلا مرة واحدة عندما أخبرتها أنني أحزن بسبب بكائها المستمر. والحقيقة أنها لم تكن ضحكة من القلب بقدر ما كانت تسخر مني ومن جملتي غير المقنعة.

كنت أنظر إلى المرآة في الصباح فوجدتني أنظر إلى ثلاث نسخ غيري. الطفلة تحتضن عروستها بأسى، والشابة تسنّ أسنانها غضباً، والعجوز تبكي صامتة... مجاز

بعد ذلك بأسابيع رأيتها للمرة الأخيرة، كانت تمسك في يدها مقصاً. لم أفهم تحديداً ما الذي ستفعله به. حينها اقتربت مني، خلعت غطاء رأسها، وفكّت ضفيرتها الطويلة ثم قصتها رغم محاولتي لمنعها. نظرت لضفيرة شعرها لثوان، ثم ألقت بها تحت قدمي واختفت.

*****

كنت أنظر إلى المرآة في الصباح فوجدتني أنظر إلى ثلاث نسخ غيري. الطفلة والشابة والمرأة العجوز. سمعت دقات قلبي ترعد في أذني. الصور لا تتلاشى مهما أغمضت عيني وفتحتها مجدداً. الحركات لا تتكرّر. كل منا تقوم بفعل آخر أمام المرآة. الطفلة تحتضن عروستها بأسى، والشابة تسنّ أسنانها غضباً، والعجوز تبكي صامتة.

رفعت يدي لأتحسس السطح العاكس أمامي فوجدت يداً بجانبي تمنعني. يد الشابة الغاضبة، نفضت يدي سريعاً. حاولت الصراخ فكممتني يد العجوز المهترئة. لم تحاول الطفلة الدفاع عني. كانت تبكي بصمت، لم تضحك هذه المرة كما رأيتها سابقاً. كدت أختنق، حاولت أن أبعد قبضتها عن فمي، صرخت مجدداً. كانت الصرخة مدوية. بعدها نظرت فلم أر أي واحدة منا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard