تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، رصيف22.
من العوامل التي ساهمت في نشر الوعي قبيل اندلاع انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ضد النظام الملكي، يلمع دور حسينية إرشاد ومنبرها التوعوي والإصلاحي. المنبر الذي ركز على التجديد الديني خلافاً لما كان سائداً بين الخطباء التقليديين والمحافظين الذين اقتنعوا بفكرة النظام الملكي ودعموه وروجوا له طيلة قرون.
شُيدت حسينية إرشاد برعاية مجموعة من المتدينين عام 1964، أي قبل انتصار الثورة بخمسة عشر عاماً في العاصمة طهران، وعلى الجهة الشمالية منها، وهي اليوم ضمن خارطة المدينة، بينما كانت وقتذاك في طريق سياحي خارج حدود العاصمة.
كان الموقع عبارة عن خيمة واسعة يجتمع فيها الناس لسماع خطب تتعلق بالعالم الإسلامي المعاصر، ومن أبرز خطبائها هو الشيخ مرتضى مطهري، رجل الدين الذي كان أستاذاً بجامعة طهران في مادة الفلسفة الإسلامية، وأصبح في ما بعد منظّر نظام الجمهورية الإسلامية، وقد لاقت محاضراته إقبالاً واسعاً من قبل مؤسسي الحسينية والمثقفين والمتعلمين من الشباب المسلمين.
كانت حسينية إرشاد ومنذ تأسيسها تطرح أفكاراً جديدة، وتنفذ نشاطها بطريقة حديثة، تعتبر بدعة في المجتمع التقليدي، منها تأسيس قاعة بكراسٍ ومنصةٍ داخل الحسينية
تحولت الحسينية من خيمة إلى مبنى حديث، واستمر مطهري بارتقاء المنبر على الدوام، وسُجّلت الحسينية من قبل الحكومة كأول مؤسسة دينية في البلاد، وبعد زيادة أعداد الوافدين عليها تم توسيعها.
ظهور تيار وسطي
في تلك الأحوال، كان النظام الملكي المستبد والمتطلع على الثقافة الغربية، يتلقى ضربات قوية من تيارين فكريين؛ الأول رجال الدين المحافظين الذين لا يرغبون بأي جديد، ولا بالتثقيف الغربي الذي تتابعه الحكومة، والتيار الآخر هو اليساري الشيوعي الماركسي. وبين هذا وذاك نظرت الحكومة إلى وجود تيار ثالث: مثقف إسلامي معتدل، رأته دون خطر، بل لربما يكون درعاً أمام الأفكار التقليدية والشيوعية التي تعصف بالمجتمع المحافظ.
رحب النظام بحسينية إرشاد وبكل فكر وسطي إسلامي مثقف، ومنحتهم فرصة الحضور والتواجد والتأثير في الجامعات والمكتبات والمجلات والصحف وغيرها، وجل هؤلاء الذین كانوا یرفعون صوت الاعتدال الإسلامي هم من الطلاب الذين درسوا في الغرب وتعرفوا على الثقافة الغربية، ثم عادوا إلى بلادهم.
كانت حسينية إرشاد ومنذ تأسيسها، تطرح أفكاراً جديدة ومبتكرة، وتنفذ نشاطها بطريقة حديثة، تعتبر بدعة في المجتمع التقليدي، منها تأسيس قاعة بكراسٍ ومنصة داخل الحسينية، وعلى المحاضر رجل دين كان أم "أفندياً" أن يقف خلف المنصة أو يجلس على كرسي وأمامه طاولة بدل المنبر، والأمر الآخر هو التصفيق لتشجيع الخطيب أو إبراز عواطفهم بدل الصلوات على النبي وآله.
لم يحدث مثل هذا في إيران في أي مجلس ديني من قبل، فقد كان التصفيق بمثابة تجدد ولهو ولعب وإهانة عند القيام به في مكان ديني ينسب إلى الإمام الحسين. ولكن التحديث لم يقف إلى هذا الحد فقد قرر المعنيون بالحسينية ألا يتدخلوا في حجاب المشاركات، ولا يتم عزلهن عن الشباب بصورة رسمية، بل يحدث ذلك وفقاً لثقافة كل واحدة منهم.
توافدت طلبة العلوم الدينية من مدينة قُم، معقل الفكر الشيعي وتربية رجال الدين الشيعة، على الحسينية للمشاركة في محاضراتها، فزاد تأثير حسينية إرشاد داخل صفوف المدارس الدينية التقليدية بشكل غير مباشر.
الموسيقى والقضية الفلسطينية في الحسينية
لم تكتف الحسينية بالمحاضرات التي كانت تعتبر عمودها الفقري للتوعية والإصلاح، بل وظفت الفن لخدمة أفكارها، فاستخدمت الرسم والمسرح والأفلام والموسيقى في هذا السبيل، ودخلت على خط القضية الفلسطينية، وغدت تجمع المساعدات المالية للشعب الفلسطيني، وهنا أثارت حفيظة الشرطة السرية.
ولكن الحدث الذي هز الأوساط المثقفة والتيارات المختلفة في البلاد، هو حضور المفكر الإسلامي الدكتور علي شريعتي في عام 1967 في الحسينية وإلقاء محاضرات ساخنة ومثيرة للجدل بشكل أسبوعي.
لم تكتف الحسينية بالمحاضرات التي تعتبر عمودها الفقري للتوعية والإصلاح، بل وظفت الفن لخدمة أفكارها، فاستخدمت الرسم والمسرح والأفلام والموسيقى في هذا السبيل، ودخلت على خط القضية الفلسطينية.
كان شريعتي أحد أبناء مؤسسي الحسينية، وكان عائداً للتو من بريطانيا بعد إنهاء دراسته، وقام بنشر مقالات وإلقاء محادثات ومناظرات مع رجال الدين، مما أدخل الحسينية فصلاً جديداً بين مرتضى مطهري وعلي شريعتي، اللذين اعتبرا منظري الثورة الإسلامية.
ظن النظام الملكي أن علي شريعتي ينتقد الأفكار التراثية والخرافية الدينية وكذلك الأفكار الماركسية، وإنه لن يهجم مباشرة على الحكومة، بل يتحدث عن نهضة فكرية وثقافية، وهذا سيأتي لصالحها، ولردع الراديكالية والنضال العنيف الذي كان يتشكّل في تلك الفترة.
بعد كل محاضرة للمفكر شريعتي كانت تبدأ المطابع بطباعة حديثه وأقواله، ويباشر أتباعه وأنصار أفكاره بنشرها بين الناس، وتصل بعضها إلى الجالية الإيرانية في الخارج، وخاصة الطلاب منهم.
أول مترجم لأفكار شريعتي
أخذت أفكار شريعتي تتجاوز المحيط الإيراني، وقام رجل الدين الإيراني في لبنان موسى الصدر، بترجمة كراسات شريعتي ونشرها في سوريا ولبنان، ثم وصلت إلى النجف، منفى زعيم الثورة الإيرانية الإمام الخميني. ثم بدأت نهضة ترجمة أفكار شريعتي في العالم العربي برمته.
كانت حسينية إرشاد في شمال طهران، تضم قسمين: قسم الدعاية بإدارة الدكتور علي شريعتي، وقسم الأبحاث بإدارة الشيخ مرتضى مطهري، واللافت أن كليهما كانا من مدينة مشهد شمال شرق البلاد.
لم تكن المحاضرات تقتصر على التنوير الديني، بل كانت هناك نظريات سياسية يؤكد عليها الخطيبان، وتحرج النظام الملكي أحياناً وهذا ما جعل عدد المتلقين المثقفين يزداد يوماً بعد يوم.
زاد قلق النظام من دور الحسينية وسط الشباب، وبالتزامن مع ذلك عارض رجال الذين حضور المناظرات مع شريعتي البارع في خطاباته، ووصل الأمر إلى السعي وراء تكفير أفكار شريعتي من قبل الخميني، بيد أن الأخير لم يُفت ضد شريعتي الشاب.
اعتلى صوت رجال الدين المحافظين ضد نشاط حسينية إرشاد، فوقع الاختلاف بين أعضاء مجلس إدارتها. زعل مرتضى مطهري، وقطع علاقاته بنشاط الحسينية عام 1971، فنقل محاضراته إلى مسجد آخر في طهران، ولحقه أنصاره وأتباعه.
عادت حسينية إرشاد بعد انتصار الثورة الإسلامية في شباط/فبراير 1979، إلى نشاطها السابق، وحضرها أطياف عدة، خاصة رجال الدين المستقلون عن النظام الجديد، حتى أنها احتضنت اجتماعات تدوين مسودة الدستور الجديد بعد الثورة الإسلامية
بقي شريعتي وصفوفه في مادة تاريخ الأديان، المحور الأول والأخير في الحسينية، وهنا جاءت قمة نشاطات المفكر شريعتي، وفي هذا التاريخ برزت حركات مسلحة تنشط ضد النظام الملكي، وكان ممن يؤيد تلك الحركات يطلق شعاراته خلال محاضرات شريعتي، والذي كان الأخير يدعمها بشكل غير مباشر.
تحولت الحسينية إلى معقل تجنيد الشباب في المنظمات المسلحة المعارضة ضد الحكومة المستبدة، فعاماً بعد عام كانت الأجواء الإيرانية تتهيأ لنهضة كبيرة وثورة عارمة ضد النظام الملكي.
نهاية شريعتي وحسينيته
اعتقلت الشرطة السرية المسماة "سافاك" ( SAVAK)، بعض المتهمين، وأقروا أن تعاليم علي شريعتي كان لها تأثير كبير على أفكارهم. فقررت السلطات إغلاق الحسينية في عام 1972، وتم إلقاء القبض على بعض من الطلبة وأساتذة الجامعات الموالين لشريعتي وأفكاره.
هرب علي شريعتي، ولكن الشرطة السرية اعتقلت والده رجل الدين، فاضطر أن يسلم نفسه، بيد أنه لم يسجن سوى 18 يوماً، ثم غادر البلاد متوجهاً إلى بريطانيا، وقبل عامين من انتصار الثورة، مات في لندن بطريقة مشتبهة ودفن في دمشق عام 1977، قيل إن موته جاء إثر نوبة قلبية، بينما يتهم البعض السلطات بقتله.
عادت حسينية إرشاد بعد انتصار الثورة الإسلامية في شباط/فبراير 1979، إلى نشاطها السابق، وحضرها أطياف عدة، خاصة رجال الدين المستقلون عن النظام الجديد، حتى أنها احتضنت اجتماعات تدوين مسودة الدستور الجديد بعد الثورة الإسلامية. ثم خفت تأثيرها بين الأوساط المثقفة لأسباب عدة، وتم تسجيلها ضمن قائمة المعالم الوطنية في عام 2003، واليوم تفتح أبوابها فقط لإقامة مجالس العزاء وفي أيام الانتخابات للتصويت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...