المضطرب
عادة جديدة اكتسبتها لم أستسغها من قبل، كان ذلك عندما لاح الشبه الشديد بيني وبين أمي. حلقات متصلة في سلسلة واحدة طالت أم قصرت. أنا أشبه أمي وأمي تشبه أمها وجدتي أيضاً مستنسخة من أمها، وإذا ما تعمّقت في البحث عن حقيقة ملامحي، قد أصل إلى الجدة العاشرة.
كلما تخيلت أننى سألد فيما بعد بنتاً ترث ملامحي المفروضة عليّ انزعجت. فكرت في طريقة أتحايل بها على تفاصيل وجهي، كأن أرفع شعرى فأبدو مثل جدتي في الثلاثين من عمرها، (هكذا قالت)، أو أرميه على ظهري، فأقترب أكثر من أمي ليلة زفافها، (كما تبيّن الصور).
عندما عجزت الحيل عن تغيير ما أرغب، آثرت الهروب.
*****
لم يقف هروبي عند هذا الحد. عندما يلملم الشتاء أوراقه ويلحق به الربيع سريعاً، ظناً منه أن الأرض لا تحتمل صخب البهجة؛ أهرب من شمس الصيف المحرقة والمسببة لي مشاكل عدة. في الليل أهرب إلى مكان خال من الناس. أبتلع في رئتي ما أقوى على حمله من نسمات الصيف الزاهدة. في الصباح أكتشف أن تقلباتي أثناء النوم لم تكن سوى هروب آخر من شبح جارتي الذي يطاردني كل ليلة.
لمحتْ ندبة بحجم حبة الفول في الثدي الأيسر. استأصل الأطباء الثدي. في تحدٍّ، أصرّت على منح الثدي التالف جميع الطقوس اللائقة به. بكبرياء وقفت تتلقى العزاء... مجاز
في أحد الأيام، وهى تستعرض جسدها العاري أمام المرآة، مفتونة بمقاس خصرها، لمحتْ ندبة بحجم حبة الفول في الثدي الأيسر. استأصل الأطباء الثدي. في تحدٍّ، أصرّت على منح الثدي التالف جميع الطقوس اللائقة به. بكبرياء وقفت تتلقى العزاء.
ذات ليلة، ظهر لي شبح الجارة على هيئة كلب مسعور محاولاً قضم ثديي، لكنني راوغته. انقلبت على بطني، على كرتي الإسفنج رحت أضغط وأضغط، فسرت في جسدي نشوة لذيذة، وأنا أسمع صراخه المهزوم في زوايا الحجرة المظلمة. لم يسبب لي الهروب أي حرج يذكر. على العكس تماماً، فهو يفرض عليّ نوعاً من الحماية والوصاية.
هذا ما التمسته في ذلك اليوم بحجرة المدرسات المعبأة برائحة القهوة والشاي التي تفترس بكارة الصباح، حين رنّت إحداهن ضحكة؛ فهمست أخرى: " باين عليك مستحمية". ردّت بدلع:" وحياتك صقّف، وقع القميص في ثانية. أصله موديل شبيك لبيك".
عندما انتبهت لوجودي كفت عن الكلام.
تجاهلت ابتسامتها الصفراء، مسرعة غادرت الحجرة. ليس في حوزتي ورقة "على سنة الله ورسوله" تمنحنى الصلاحيات المطلوبة لاختراق الحديث أو حتى الاستماع إليه. استوقفتني زميلة ناصحة بضرورة التفكير بجدية في الزواج، وأن الحب الذي أقرأ عنه وأنتظره نادراً ما نصادفه، وربما يتسرّب العمر من بين أصابعي وأندم. مرة أخرى أرسلت إشارة عاجلة إلى جميع أجهزتي بتقبل الموقف وابتسمت.
جاء موعد الانصراف، هربت. مشيت في الشوارع الضيقة ومنها إلى الواسعة، ومن الواسعة إلى الضيقة مرة أخرى. أراقب وجوه الناس؛ لمحت عيونهم تدور مثل البلي الذي يلعب به الصغار في الشارع، وأنوفهم تتضخم مثل أنف المهرج وتكتسي باللون الأحمر.
انفجرت بالضحك. افترستني نظراتهم الغاضبة. سحبت ظلي وهربت إلى البيت.
*****
جمعت الغسيل المعلق على الحبل في الشرفة منذ يومين. هذه المرة حرصت على عدم سقوط البعض في الشارع، حتى أتجنب ذلك المتطوّع بابتسامته الصفراء ويده الممدودة لي بقطعة من ملابسي الداخلية. جهّزت وجبة سريعة من البيض والجبن، مع كوب الشاي وشعر نزار. مضى الوقت. غربت الشمس وسكنت العصافير الأعشاش، بعقولها الصغيرة أدركت أن الليل لا يصلح للزقزقة.
ظهر لي شبح الجارة على هيئة كلب مسعور محاولاً قضم ثديي، لكنني راوغته. انقلبت على بطني، على كرتي الإسفنج رحت أضغط وأضغط، فسرت في جسدي نشوة لذيذة، وأنا أسمع صراخه المهزوم في زوايا الحجرة المظلمة... مجاز
أمام المرآة وقفت أمشط شعري. ألّفه على بكر وأتعجّب كيف لي أن أنام ورأسي مثل القنفذ حين يتكور تاركاً شوكه في الخارج! أفكّ شوك القنفذ. أمام المرآة أستعرض مفاتن جسدي، بعد يوم شاق من العمل، ماذا أمنحه سوى حمام بارد. أتذكّر أمي: "جسمك ينحس من الماء البارد".
حاولت النوم لم أستطع. فكرة التصفيق ليترنّح القميص ويسقط بهرتني. وجدتني في اليوم التالي واقفة أمام محل لقمصان النوم. أصفق بيدي، لكن أياً من القمصان المعروضة لم يسقط. اعتقدت أن اللوح الزجاجي حال بين التصفيق والقميص، أو لعل القميص الذى حكت عنه الزميلة الفاضلة مزوّد بقرون استشعار تمكنه من التفريق بين تصفيق ناعم وآخر خشن، وربما أيضاً القميص على بركان أنثوي نشط يختلف تماماً عنه وهو على مجرد تمثال.
ظللت أصفق إلى أن رآني صاحب المحل. أشار إلي بالدخول، أدرت وجهي وهربت.
بعد ذلك صرت أهرب من زيارة أي زميلة متزوجة أو حتى عزباء، وإذا ما وجهت إلي دعوة لحضور عرس أو سبوع أو عيد ميلاد، أكتفي بالتهنئة عبر الهاتف. هرباً من غلاء الفاتورة، علقت قفلاً على الهاتف، فصمت إلى الأبد. في الآونة الأخيرة اتخذ هروبي شكلاً حركياً عنيفاً. في المدرسة أهرب بمقعد إلى بقعة يغمرها الظل والهواء المنعش، بعيداً عن نكات الزميلات الساخنة وحوارات تنتهى دوماً إلى اللاشيء.
أضع السماعة في أذني. ينساب صوت عبد الحليم، يرتجف قلبي رغم أن الشمس تهب الدفء بلا مقابل. في البيت أهرب بالسرير من وسط الحجرة إلى أقصى اليمين ومنه إلى الشمال، ثم العودة إلى الوسط ثانية. ساعات ألتقط فيها أنفاسي وأنتقل إلى حجرة الطعام، في اليوم الثاني أفر بالسرير إلى حجرة الضيوف. في كل مرة أهرب فيها من مكان إلى آخر أضحك ساخرة من شبح جارتي لأنه لن يستدل علي وسط هذه المتاهة.
مر الحال بي على هذا النحو إلى أن أحسست بأشياء غريبة تحدث لي. وقت تمشيط شعري يختفي المشط. أضطر إلى نزول الشارع بشعر منكوش، وبداخلي امتنان مفاجئ لتسريحات هذا العصر. عند الاحتياج لبطاقتي الصحية لا أجدها. أفتش عنها، أعثر على قرط مفقود منذ أسبوع. لا أبالغ إذا ما قلت أنني أحياناً كثيرة أبحث عن علبة الثقاب، وبعد تفتيش مضنٍ أجدني ممسكة بها.
حتى الشمس تفرّ وتمطر السماء وأنا أهب الوسائد والبطاطين ومرتبة السرير حصتهم الضئيلة من الدفء. أيضاً حلت لعنة الهروب على الكهرباء والمياه، وحين أتساءل لماذا تفرّ الشمس والكهرباء والمياه، وقبل أن أفكر في أجوبة، أهرب وما زلت هاربة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع