شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كابوس المرأة الفاجرة

كابوس المرأة الفاجرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 14 يناير 202301:01 م

يعيش أهل بلدي


 

البنت التي تتبع صبيّاً تسمى فاجرة

كنت في السابعة من عمري تقريباً، عندما طرق باب بيتنا الواقع في آخر الحارة الشرقية صبي "شحّاد" في مثل سني أو أكبر بقليل. ناولته أمي بكرم الزيت الذي طلب وبعض النقود، وقطعة من الفطائر التي كانت تعدها، بينما كنت أنظر بفضول طفولي إلى ملابسه مقبولة الاتساخ، وأصنع في نفسي قراراً بقيت أتحمل تبعاته حتى وقت قليل مضى.

لم يلزمني وقت طويل لاتخاذ القرار، كل ما أذكره هو نفسي التي تسير على الطريق الزراعي الذي يصل قريتنا بالقرية المجاورة. فكّرت بالطعام، وعزمت بحبور أن أطرق أول باب أصل إليه لأطلبه. ولم أكن قد ابتعدت كثيراً عندما بدأت تظهر عليّ علامات التعب، فقررت الجلوس لأخذ استراحة، فلماذا أنهك نفسي في بداية رحلتي الطويلة إلى عوالم المغامرة والتشرّد. دقيقتان مرتا حتى لاح طيفا أخويّ القادمين. استعذت بالله من التطفل والحشرية، وما إن وصلا إليّ حتى أمسك كل منهما بيد من يدي وجرّاني إلى البيت، أنا التي كنت أظن أنهما قد أعجبا بفكرتي التي لم أبح لأحد بها.

صفعة وركلة وشدّ شعر وصراخ كثير، هكذا استقبلتني أمي، ثم اشتكتني إلى جدتي وراحتا تستحلفانني وتهدداني لأخبرهما بما قاله لي الصبي لأتبعه. لم تصدقانني بأنني لم أحادثه. خفت أن أحكي لهما عن سندباد وماوكلي اللذين ذكرني مروره بحبيّ أن أكونهما فأُضرب أكثر، لذا صمتُّ وأنا أسمع جدتي تقول: "البنت التي تتبع صبياً تسمّى فاجرة"، ومنذ ذلك اليوم صرت أستبعد الطرق التي أقتفي فيها دعسات الصبية.

البنت التي يسمع الجيران ضحكتها وصراخها تسمى فاجرة

في الخامسة عشر تقريباً، كنت أرفع صوت المذياع وأنا أؤدي المهام المنزلية. كنت أشعر بالخفة وأنا أتراقص على الأنغام المعاصرة التي كانوا يدعونها هابطة، وكنت أشعر أن أعمال المنزل تنتهي بسرعة وأنا أغنّي. كانت لدى أخي عادة الدخول من الأرض الزراعية إلى الأرضية الرطبة، وكنت شرسة جداً في الصراخ عندما أرى بقع الوحل.

صمتُّ وأنا أسمع جدتي تقول: "البنت التي تتبع صبياً تسمّى فاجرة"، ومنذ ذلك اليوم صرت أستبعد الطرق التي أقتفي فيها دعسات الصبية... مجاز

في كل مرة تقريباً كانت الملاسنات تفضي إلى عراك بالأيدي، أخرج منه مهزومة بسبب قوة بنيته الجسدية، فأصرخ بصوت مرتفع يستثير حفيظة جدتي التي تأتي مسرعة لإسكاتي لا لحلّه، وتذكرني بأن البنت التي يسمع الجيران صوت غنائها وصراخها فاجرة، ثم تحكي لي في لحظات الوعظ والهدوء عن فتيات من القرية لم يتزوجن لأن الخطّابة كانوا يسألون الجيران عنهن، فتفضح الجيرة قصص غضبهن وصراخهن ومجونهن، وتنمّ عن أصوات ضحكهنّ إذا ما ارتفعت يوماً في سهرة عائلية.

منذ ذلك الحين وأنا أحرص على ترويض غضبي بالكزّ على أسناني وضرب أي شيء، وكبح جماح ضحكتي حتى صار صوتها العفوي كتردّدات مبتورة، أما مذياعي فاستبدلته بسماعتي أذن.

المرأة التي ترد الشتيمة لزوجها فاجرة

كنت في الحادية والعشرين حينها، منهية دراستي في المعهد وموظّفة في قطاع حكومي، وفي أعرافنا، فإن خطوة الزواج هي الخطوة اللاحقة لهذه المراحل. كانت جدتي، التي تملك حضوراً طاغياً في حياتنا بسبب عمل أمي الليلي في مشفى خاص، تتحدث إليّ بحنوّ وابتزاز، وتسرد لي الإرشادات التي تجعلني زوجة صالحة، والتي كان من بينها أن أسكت إذا ما شتمني زوجي أو شتم أهلي أو ضربني، فهو رجل يتعب ويغضب.

قلت لها والحنق يفور من رأسي بأني لا أستطيع، وأقسمت أنني سأرد الضربات والشتائم أضعافاً إذا ما تجرّء على البدء بها، وأكّدت لي على أنه، هو وأهله وجيرانه، سينعتونني بالفاجرة، أذكر وقتها أني فضّلت عدم الزواج على التورط في زيجة كهذه.

على الرغم من كون سمة "الفاجرة" بمعناها اللغوي تهمة كبيرة تحتاج الكثير من الأدلة لإثباتها، إلا أن المجتمع الأبله لم يكن ليتردّد في وسم النساء بها ببساطة بالغة، لذا فقد عشت كابوس المرأة الفاجرة في كل مراحل عمري، ورغم ادعائي بأن رأي الآخرين لا يعنيني، كنت جبانة في قرارة نفسي، أتجنّب، بحجّة اللطف، المواقف الصدامية، حتى اعتدت أن تُهضم حقوقي.

أنا المرأة التي وقفت دهراً على ساق واحدة خشية أن تطأ قدمها خطأ لغم الفجور، لكنها اليوم قرّرت الجري إلى اللانهاية، غير آبهة بالبتر والشظايا... مجاز

لقد سكتّ حين أهانتني المعلمة أمام زملائي في الثانوية، ولقد صمتّ عندما وبخني مديري في العمل أمام مديره على خطأ قام هو به، ولقد دفعت للسائق ضعف الأجرة لأنني كنت أحمل الكثير من الأغراض عندما أحرجني أمام بقية الركاب، لأنني إذا ما جادلت سائقاً أو مديراً أو معلماً أو حتى ضفدعاً سأصير، بلا شكّ، فاجرة.

أنا لست فاجرة

احتاج الأمر معالجاً نفسياً ومدرب حياة يحملان كلبشات لتقييد أيدي الأفكار التي تجلدني وتكبح جماحي، وشتول معتقدات حقيقية لغرسها في تربة رأسي، لكنها لم تنجح في التجذّر داخله حتى بلغت الثلاثين. كانت باكورة القطاف حين نظرت بغضب مباشرة في عيني سيدة في مثل عمر أمي، أنا التي خفت من رفع بصري دائماً، والتي راحت تنهال عليّ بأحكام قلة الاحترام والذوق لمجرد رفضي منحها دوري عنوة على طابور ما، ومن ثم ضربي مؤخرة سيارة الأجرة التي صدمتني في الكراج، وتقدمي لمواجهة سائقها الذي صرخ: "ضربة خفيفة كنت راجع على مهلي".

عفاريت تقافزت في وجهي وأنا أسمعه يقول بأنه صدمني متعمّداً، ويسخر قائلاً: "بتحبي أنزل من السيارة كرمال قلك بعدي؟"، وقتها لم آبه للعشرات الذين كانوا ينظرون إليّ، والذين كانوا بالتأكيد يقولون في سرهم "فاجرة"، لقد انتشيت حتى الثمالة بكلمة "لا تواخذينا"، وتبخترت لأول مرة أخطو فيها خارج سجون الخوف بورك مصاب.

أنا المرأة التي وقفت دهراً على ساق واحدة خشية أن تطأ قدمها خطأً لغم الفجور، لكنها اليوم قررت الجري إلى اللانهاية، غير آبهة بالبتر والشظايا.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard