شهدت الأسابيع القليلة الماضية توتراً متصاعداً في العلاقات بين السعودية ومصر، يستعيد ذكرى ما شهدته العلاقات بين البلدين في 2015 من توتر دام أشهراً طويلة، ولم ينته إلا بعد موافقة السلطات المصرية على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح الجانب السعودي، والقضاء على أية محاولات شعبية لعرقلة الاتفاق، واتخذ التوتر وقتها صورة التلاسن الإعلامي بين صحافيين سعوديين ومقدمي برامج وكتّاب في الصحف الحكومية المصرية، لكنه امتد إلى ضربات اقتصادية وجهها الجانب السعودي إلى الجانب المصري في ذلك التوقيت.
هذه المرة، يظهر الخلاف بين الجانبين – كالعادة- في شكل سجال إعلامي وسياسي وانتقادات يوجهها محسوبون على السلطتين لنظام الحكم في البلد الآخر، وسط صمت رسمي من حكومتي الرياض والقاهرة، إلا أن هذا السجال تعدى أحياناً "وجهة النظر"، في الوقت التي بات ينظر إلى هذا السجال كإشارة لتغير أوراق وأدوات القاهرة في التعامل مع حلفائها الإستراتيجيين، ومؤشر على وجهة بوصلة الدبلوماسية المصرية في مدى التأثير على صناعة القرار بالمنطقة.
وبينما كانت الدولتان على خط شبه مباشر من المواجهة، يشوب الشد والجذب العلاقات بين مصر وشركاء إستراتيجيين آخرين، في عدد من الملفات الشائكة، ومن أبرز الحلفاء الذين عوّل عليهم دائماً نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، تأتي الإمارات التي يمثل التوتر في العلاقات معها مثاراً للتساؤلات حول سبب قلق الإدارة المصرية البادي من أهم داعميها الإقليميين، في الوقت الذي تدور التساؤلات حول ما تمتلك القاهرة من أدوات تخولها خوض هذه المناورات السياسية.
بينما تعول القاهرة - بحسب كتابات الأصوات الخليجية الناقدة لها- على القوة الضاربة لجيشها في حماية أمن الخليج، يلقى هذا الجيش نفسه نصيباً غير قليل من هجوم الكتاب الخليجيين
في الماضي، كانت مصر لاعباً رئيسياً في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط، بفضل قوتها الإستراتيجية وحجمها وموقعها واستقرارها الأمني الذي يكفل استقرارها السياسي، ما مكنها من لعب دور أساسي في العديد من التطورات الإقليمية، إلا أنها بدت غائبة في الفترة الأخيرة إلى حد ما عن الملعب الإقليمي، نتيجة عثراتها الاقتصادية وأوضاعها الداخلية المشحونة، فضلاً عن تحركات متسارعة من دول أخرى للعب دورها في المنطقة، واستغلالها لنفوذها المالي والسياسي الصاعد مع تغير الديناميكيات الإقليمية.
القاهرة – الرياض... تلاسن إعلامي ورسائل مبطنة
كتاب ومسؤولون ووسائل إعلامية من الرياض والقاهرة شنوا حملة انتقادات لاذعة للطرف الآخر، وعلى رأسهم الكاتبان السعوديان المقربان من دوائر صنع القرار في المملكة، تركي الحمد وخالد الدخيل، ومستشار رئاسة أمن الدولة السعودي، بسام عطية. وعلى الجانب المصري تصدى كتاب ومذيعون معروفون بقربهم الوثيق من أجهزة سيادية، لكن تصريحات المعبرين عن الجانب السعودي اتخذت صيغة غير مسبوقة في التعليق على الاوضاع في مصر، مركزين على إهدار الطموحات الشعبية المصرية في العدالة والكرامة عقب ثورة 25 يناير، وتراجع الاقتصاد المصري بفعل "سيطرة الجيش" على حد تصريحاتهم، وهذا الجانب تحديداً، ربما يكشف أسباب الخلاف الحقيقية بين "الحليفين الاستراتيجيين".
الكاتب السعودي تركي الحمد، المقرب من الأسرة الحاكمة بالمملكة، انتقد بشكل لاذع الأوضاع المصرية على جميع مستوياتها، اقتصادياً وسياسياً ومجتمعياً، قائلاً إن البلاد تواصل "رحلة الصعود إلى الهاوية"، وعزا سبب هذه الأزمات، في سلسلة تغريدات عبر حسابه على تويتر، إلى "هيمنة الجيش" على جميع مقاليد السلطة والثروة.
وينظر الحمد إلى مصر كنموذجين: "مصر المزدهرة قبل عام 1952، ومصر الطموحة بعد ذلك التاريخ، وينقسم المراقبون إلى مؤيد ومعارض لهذا النموذج أو ذاك. في المقابل، هنالك مصر بواقعها الحالي، أي مصر البطالة، وأزمات الاقتصاد والسياسة ومعضلات المجتمع وتقلباته الجذرية العنيفة التي لا تنتمي لأي نموذج، ملكيا كان أو جمهوريا".
يتساءل الكاتب المقرب من الأسرة السعودية الحاكمة، فيما تبدو رسالة موجهة للسلطة المصرية: "ما الذي حدث لمصر الثرية بثرواتها وإمكانياتها، وهي التي كانت تقرض المال وتساعد المحتاج، وها هي اليوم أسيرة صندوق النقد الدولي، مشرئبة العنق لكل مساعدة من هنا أو هناك، وهي أرض اللبن والعسل؟ حقيقة لا يمكن تفسير الحالة المصرية بعامل واحد، وخاصة بعد سقوط الملكية، وبدايات (الصعود إلى الهاوية)".
تتطلع المملكة إلى توسيع نفوذها داخل مصر، عبر استثمارات مباشرة واستحواذات أخرى على أصول وممتلكات تابعة للدولة، إلا أن تحفظات مصرية بشأن طبيعة هذه الاستحواذات أججت خلافات بين سلطتي البلدين.
ينتقد تركي الحمد "هيمنة الجيش المتصاعدة على الدولة، وخاصة الاقتصاد، بحيث لا يمر شيء في الدولة المصرية إلا عن طريق الجيش، وبإشراف الجيش، ومن خلال مؤسسات خاضعة للجيش، ولصالح متنفذين في الجيش، كما يرى بعض المراقبين مكامن الأزمة وجذورها، وكل ذلك على حساب مؤسسات المجتمع الأخرى، سواء كنا نتحدث عن القطاع الخاص، أو مؤسسات المجتمع المدني، والذي كان في أقوى حالاته في العهد الملكي"، حسب تعبيره.
كما يتطرق إلى ما وصفه بـ"البيروقراطية المصرية الهرمة المقاومة للتغيير"، والتي اعتبرها حجر عثرة في وجه أي استثمار اقتصادي ناجح، سواء داخلي أو خارجي، "رغم أن مصر عبارة عن كنز لا ينضب من الفرص الاستثمارية".
ويستنكر الكاتب السعودي ما أسماه "الثقافة الشعبية المستسلمة والمستكينة والمنتظرة لكل ما يأتي من (فوق)، سواء كان هذا الفوق هو السماء ومفاجآتها وأبطالها المقبلين من الغيب، أو الدولة بجلال قدرها وفرعونها ذي الصولجان، (المالك) لمفاتيح التغيير وخزائن (المن والسلوى)، مع غياب شبه تام لحس المبادرة المجتمعية المستقلة.
قبل شهر تقريباً، شن مستشار رئاسة أمن الدولة السعودي هجوماً على السلطة المصرية، ووصفها بأنها "تستجدي قوت يومها على أبواب دول العالم"، قائلاً: "احمدوا ربنا أننا مش زي مصر"
الانتقادات اللاذعة من الكاتب السعودي لم تكن جديدة، ففي وقت سابق شن هجوماً واسعاً على الإعلامي المصري عماد الدين أديب، معتبراً مقاله "مصر: من يعوض الفاتورة المؤلمة للحرب الروسية الأوكرانية"، محاولة مصرية لابتزاز دول الخليج للحصول على مزيد من الدعم المالي، بدعوى حمايتها من تسلل النفوذ الإيراني التركي، معتبراً أن حديث أديب "يحمل إهانة لمصر ذاتها" حين يجعلها تبحث عن راع خليجي أو إيراني أو تركي، متسائلاً: "لماذا لا تستطيع بلاده حل أزماتها المزمنة بنفسها بدل أن تصبح عالة على هذا وذاك".
كان المفروض على هذا الكاتب أن يتساءل:ولماذا لا تستطيع بلاده (مصر) حل أزماتها المزمنة بنفسها بدل أن تصبح عالة على هذا وذاك؟وهو حقيقة يهين مصر حين يجعلها تبحث عن "راع" خليجي أو إيراني أو تركي،بدل أن تكون هي الراعية،كما كانت في زمن مضى،إذ لا ينقصها شيء مما لدى تركيا وايران والخليج.. https://t.co/K8uKYhEZ2v
— تركي الحمد T. Hamad (@TurkiHAlhamad1) June 18, 2022
كتابتي عن بلد عربي لا يمكن أن تكون تحاملا ضد هذا البلد. عكس ذلك من نوع بعض الظن لا أساس له. بلد كمصر كبيرة بأهلها وتاريخها ونيلها مكانتها في القلب قد تنافس حجمها التاريخي. ونقد سياسات أي حكومة ليس نقدا للدولة وأهلها بل للسياسات تطلعا للأفضل وحسب. نقد يجب أن يكون متاحا للجميع.
— خالد الدخيل (@kdriyadh) January 29, 2023
على الخط ذاته، يرى الكاتب وأستاذ الاجتماع السياسي السعودي خالد الدخيل أن ما يحدث لمصر في السنوات الأخيرة، يعود في جذره الأول إلى “أنها لم تغادر عباءة العسكر منذ 1952"، منتقداً ما وصفه بـ"عدم سماح الجيش لأي بديل آخر بمزاحمته على السياسة أو الاقتصاد"، مشدداً على أن "نقد سياسات أي حكومة ليس نقداً للدولة وأهلها؛ بل للسياسات تطلعاً للأفضل وحسب، وهو ما يجب أن يكون متاحاً للجميع".