يحكي الروائي المغربي كمال الخمليشي، في روايته "المعصوم"، حول محمد بن تومرت المُلقّب بالمهدي، أنه عندما استوعب ما جاء في كتاب "الجفر" (علم يُعلم وسرّ يُكتم)، من إشارات في أثناء رحلته إلى بغداد، "عاد إلى حياته الدنيا مثقلاً بمشروعه الكبير".
رحلة "أَسَفو" (أي المشعل)، كما لُقّب أيضاً بين أبناء قبيلته الأمازيغية مصمودة، شكلت مع زمن العودة من بغداد إلى مراكش تجربةً جديدةً في حياة بن تومرت، خصوصاً في منطقة "تينمل" مُنطلق حركته المُوَحّديّة (جنوب شرق مدينة مراكش)، حيث أمر الخليفة المُوَحّدي عبد المومن بن علي الكومي بتشييد مسجد تينمل الأعظم تخليداً لذكرى زعيمه الروحي ابن تومرت.
اليوم يشهد هذا المسجد على تاريخ حركة دينية وسياسية، انتشرت في شمال إفريقيا إلى حدود ليبيا شرقاً، وإلى الأندلس شمالاً (بسطت سيطرتها بين 1121 و1269)، ما استدعى إنجاز مشروع لترميم وتثمين هذا الصرح التراثي الذي بناه الخليفة عبد المومن بن علي، "في عام 1156 ميلادي"، وفق ما جاء في بيان مشترك لوزارتي الثقافة والشؤون الإسلامية، توصل رصيف22 بنسخة منه.
ترميم مسجد تينمل في المغرب إعادة اعتبار للدولة الموحدية التي حكمت أطرافا واسعة من غرب إفريقيا والأندلس
غير أن الخبير في علم الآثار والأستاذ في جامعة شعب الدكالي في الجديدة، عبد الله فيلي، اعترض على هذا التاريخ الذي كشفت عنه الوزارتان وتناقلته الصحف على نطاق واسع، مؤكداً أن تينمل يُعد "من أقدم المساجد المُوَحِّدِية بعد الكتبية في مراكش".
قال فيلي لرصيف22: "مسجد الكتبية الأولى أُسّس عام 1147، أي السنة التي فتح فيها المُوَحِّدون العاصمة مراكش ودخولهم إليها، وفي السنة الموالية 1148، أُسّس مسجد تينمل احتفاءً بمؤسس الحركة المُوَحِّدِية المهدي بن تومرت".
ترميم معلم حضاري وسط الجبال
على ارتفاع 1230 متراً وسط جبال الأطلس الكبير، شُيّد هذا المعلم التراثي المغربي، الذي "يعكس حضارة المُوَحِّدين، (...) إذ إن غايات الترميم تتجلى في التعريف بحضارة الدولة المُوَحِّدِية والأدوار التي لعبتها تاريخياً، لا سيما في غرب إفريقيا والأندلس"، يبرز وزير الثقافة، محمد المهدي بنسعيد، في تصريح للصحافة، على إثر وقوفه إلى جانب زميله في الأوقاف والشؤون الإسلامية عند مدى تقدّم الأشغال المتصلة بترميم المسجد وتثمينه.
عمليات ترميم مسجد تينمل، التي بدأت منذ شهر أيلول/ سبتمبر 2022، ويُرتقب أن تستمر في المجمل لمدة 18 شهراً، "تعتمد على الجوانب الأركيولوجية، وتُعزز الصناعة الثقافية، وتثمن عوائدها السياحية"، وفق بنسعيد الذي أعلن أن "العمل ينكبّ، أيضاً، على تشييد متحف بجانب مسجد تينمل، بغرض التعريف بالدور الذي لعبته المنطقة، وتسليط المزيد من الضوء عليه".
في هذا الإطار، يرى أستاذ التاريخ وعلم الآثار في الكلية متعددة التخصصات في تازة، منير أقصبي، أن "اهتمام المغرب بمساجده التاريخية الحضرية والقروية على حد سواء وترميمها، إنما يؤكد تلك الرغبة المتزايدة في رد الاعتبار للموروث المعماري الديني كونه أحد الرموز التي تعكس جوانب من الحضارة المغربية".
لهذا "يعكس المشروع بداية التعاون بين وزارة الثقافة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، من أجل تدبير أحسن للتراث الديني؛ ومنه مسجد تينمل الفضاء الديني الأول لنشأة الحركة المُوَحِّدِية، وأقدم نماذج العمارة الدينية المُوَحِّدِية، التي تُشكّل تصاميمه وأشكاله طفرةً في تطوّر الفن المعماري في الغرب الإسلامي"، يردف أقصبي في حديثه إلى رصيف22.
جهود لإضفاء إشعاع أكبر لتينمل
اليوم تتكاثف الجهود لإضفاء إشعاع أكبر للموقع التاريخي ككل، من خلال أشغال الترميم وتشجيع البحث العلمي الأثري والأركيولوجي في هذه المنطقة التي ترمز إلى مرحلة مهمة من التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي في المغرب.
تقول محافظة مَوقِعي أغمات وتينمل، نادية البورقادي: "هناك مشروع مغربي فرنسي، انطلق في أيلول/ سبتمبر الماضي، وسيُستأنف هذه السنة، ويتمثل في مُسوحات طبوغرافية وتحريات وحفريات أثرية في الموقع لتحديد مواقع البنيات الأثرية ودراستها وربطها بالمعطيات التاريخية".
في تصريحها لرصيف22، لفتت البورقادي، إلى أنه "بالإضافة إلى هذا المشروع العلمي، أُجريت بالموازاة مع أشغال ترميم المسجد، استبارات (عمليات سبر) أثرية في محيط المسجد من طرف فريق من الأثريين المغاربة بهدف قراءة أثرية لهذا المجال وتوجيه مستقبل الأبحاث فيه".
"اهتمام المغرب بمساجده التاريخية الحضرية والقروية على حد سواء وترميمها، إنما يؤكد تلك الرغبة المتزايدة في رد الاعتبار للموروث المعماري الديني كونه أحد الرموز التي تعكس جوانب من الحضارة المغربية"
لذلك "لا تقتصر أهمية تينمل على المسجد فحسب، وإنما تشمل الموقع ككل؛ لأنه بالرجوع إلى المصادر التاريخية، وبالنظر إلى المساحة التي يغطيها الموقع، وحسب المعطيات الأثرية، كانت مدينة تينمل ذات أهمية بالنسبة إلى تاريخ الدولة المُوَحِّدِية، وكانت محصنةً شمالاً بالجبل وجنوباً بالوادي وغرباً بسور فقدت آثاره وشرقاً بسور ما زالت آثاره شاهدةً عليه"، تشدد محافظة موقعي أغمات وتينمل.
وأوضحت المسؤولة في وزارة الثقافة، أن السّور المشار إليه "يُعدّ مَعلَمةً معماريةً تمتدّ على مسافة أزيد من 700 متر، وبُني بالحجر أو الطابية (تقنية محلية خليط التراب ومواد أخرى) أو منهما معاً، وتتخلّلته أبواب وأبراج"، كاشفةً أن أشغال ترميمه ستنطلق في غضون السنة الجارية.
المتحدثة نفسها أفادت كذلك بأن تينمل، بالإضافة إلى أنه "النموذج والمجال الذي أثّر على تصاميم المساجد المغربية ابتداءً من الفترة المُوَحِّدِية سواء في المغرب أو الأندلس (...) فهو حالة خاصة في المساجد السلطانية في جبال الأطلس المغربية حيث أُسس تخليداً لذكرى مُؤسّس الحركة المُوَحِّدِية المهدي بن تومرت".
الحركة من إيجيليز هرغة إلى تينمل
لقد كانت القبائل التي أيّدت المُوَحِّدين من الأمازيغ الذين استقروا في جبال الأطلس الصغير والكبير، إذ ينتمي بن تومرت إلى قبيلة "هرغة" في الجنوب الشرقي للأطلس الصغير، وموطِنه الأصلي هي منطقة "إيجيليز هرغة"، التي توجه إليها عام 1121 ميلادي، ليعتمد على أهله أولاً ثم على قبائل مصمودة، خاصةً قبائل هنتانة في الأطلس الكبير، لتقوية حركته عسكرياً، وفق ما جاء في كتاب "مساجد المغرب"، لمجموعة من المُؤَلِّفين أصدرته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
يُسجل الخبير في علم الآثار والأستاذ في جامعة شعيب الدكالي في الجديدة، عبد الله فيلي، في اتصاله برصيف22، أن "تينمل كما نعلم هي المحطة الثانية لانطلاق الحركة المُوَحّدية بعد إيجيليز هرغة الموجودة في منطقة سوس بالقرب من مدينة تارودانت".
يقصد المتحدث بالمحطة الثانية، "مقرّ استقرار الحركة المُوَحِّدِية عندما انتصرت على المرابطين، أي أنه بعد تحقيق بن تومرت بعض الانتصارات العسكرية على المربطين في إيجيليز هرغة تم نقل هذه الحركة إلى تينمل، من أجل تقريب تلك الثورة المُوَحِّدِية من مراكش العاصمة آنذاك تحت حكم المرابطين".
كما أن "استقرار بن تومرت في تينمل كان بسبب مكانتها الرمزية عند قبائل جبال الأطلس الكبير حالياً، خاصةً القبيلة الأساس هَزميرة المعروفة بصلاحها. فمصطلح تينمل في حد ذاته يحيلنا على الرّباط ومَجمَع القبائل، نظراً إلى مكانته الدينية عند الأهالي"، يقول المصدر نفسه.
المهدوية وبناء شرعية الدولة
بعدما حقق المهدي انتصارين عسكريين أساسيين في 1122 و1123 ميلادي، على المرابطين الذين حكموا المغرب في الفترة بين 1055 و1147 ميلادي، قام بتنظيم حركته في تينمل حسب التقاليد الأمازيغية، إذ وضع نظاماً تراتبياً صارماً للشروع في غزو البلاد، ولكي يقوي مشروعيته أمام مناوئيه تلقَّب بالمهدي.
هذه المهدوية ارتبطت أساساً بالفكرة الدينية التي جاء بها بن تومرت لبناء الدولة، إلى جانب فكرة "كلامية" (من علم الكلام) قامت عليها الدولة المُوَحِّدِية أيضاً، بدعوتها إلى تخليص العقيدة الإسلامية في المغرب من كل ما يشوبها من مظاهر التجسيم الذي كان المهدي وأنصاره يرمون به المرابطين من قبلهم.
هي الأفكار الدينية نفسها التي توارثها عبد المومن بن علي الكومي، الذي أعلن نفسه خليفةً مباشرةً بعد وفاة بن تومرت، الزعيم الذي يُجهل قبره إلى يومنا هذا، ونَظّم المُوَحِّدِين في حركة عسكرية فعالة مكنته من فتح مراكش عام 1151، واستولى بذلك على المغرب الأوسط.
يذهب فيلي، إلى أن "خلق مركز تينمل وجعله مهداً للحركة المُوَحِّدِية، كان مشروعاً سياسياً لعبد المومن بن علي الكومي وهو الخليفة الأول للدولة المُوَحّدية، من أجل أن تنسى هذه الدولة، لأسباب سياسية، مركز إيجيليز هرغة الأول للحركة".
لقد "أضيفت إلى مسجد تينمل والمدينة صفة القداسة، إذ كانت تُشدّ إليها الرحال من قبل الخلفاء المتعاقبين على الدولة المُوَحِّدِية؛ لأنه في المنظور السياسي الموحدي، كان هدفهم عدّ تينمل منطلقاً ومهداً لحركتهم، محيلين على الهامش محطة إيجيليز هرغة برغم أنها المنطلق الحقيقي للمُوَحِّدِين وفق مجموعة من المصادر المختلفة"، يوضح المصدر ذاته.
على هذا الأساس، يُعدّ مسجد تينمل، وفق الخبير في الآثار، نموذجاً "حاولت الدولة المُوَحِّدية أن تخلق له مسارات الانتشار سواء من ناحية الأبعاد المعمارية، وكذلك البعد الزخرفي. وهي الزخرفة الصارمة والجميلة بخصوصيات في هياكلها وفي رسوماتها المتميزة، نجدها في مناطق عديدة سواء في المغرب أو في منطقة الغرب الإسلامي بصفة عامة، خاصةً في الأندلس وإلى حدود إفريقيا أي تونس الحالية، وهي مستقر الإمبراطورية المُوَحِّدِية (سقطت عام 1269 ميلادي على يد المرينيين) وهي أكبر إمبراطورية عرفها تاريخ الغرب الإسلامي".
طبعاً، هذه الخصوصيات المعمارية والفنية والتراثية التي تضمنها مسجد تينمل الأعظم، هناك وراء الجبال، امتدت إلى المراحل اللاحقة بعد المُوَحِّدِين (المرينيين، والسعديين، والعلويين)، لكن مع "تطورها على مستوى الزخارف، متماشيةً مع العصور التي ترجع إليها"، يستطرد الأستاذ فيلي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...