شواطئ مُتوهجة, وغابات خضراء نهايتها تُلامسُ زرقة البحر والسماء, أجواق من طيور الحساس تُطرب الحقول بزقزقتها, وآثار شامخة مسننة كالحراب تطرح سترا من الظل, إنها مدينة "تيبازة" الجزائرية التي تقعُ على ساحل البحر الأبيض المُتوسط، وتبعد عن مدينة الجزائر العاصمة 75 كم غرباً, أسّسها الفينيقيون كإحدى مُستعمراتهم التجارية العديدة.
وتعني تيبازة في اللغة الفينيقية "الممرّ" الذي كان يُستخدمُ للعُبور بين مدينتي "إيكوزيوم" (الجزائر) وإيول (شرشال), وأصبحت تعرفُ بعدها بـ"قرطاجية". ووفقاً للمعلومات التاريخية فإن التاريخ يتجلى أكثر من أيّ شيء آخر في هذه المنطقة بالنّظر إلى الحضارات التي تعاقبت على "تيباسا" التي تضمّ مستعمرة فينيقية تعود للقرن الخامس قبل الميلاد, وحوّلها الرّومان إلى مُستعمرة تتبع "لاتيوم"، ثمّ تحوّلت إلى مستعمرة تتبع روما في عهد الإمبراطور كلاوديوس.
كانت المرة الأُولى في حياتي التي أذهبُ فيها إلى مدينة تيبازة الجزائرية, في يونيو / حزيران 2012, عند عودتي أنا وزوجي من محافظة تلمسان التي تُلقبُ بعدة ألقاب بينها "لُؤلؤة المغرب العربي", بغرض قضاء أيام في المدينة.
دخول تيبازة في الساعة السادسة مساءً تجربة رائعة, خُصوصاً عندما تلتقط عيوننا خيوط غُروب الشمس وهي تُلقي بظلالها على أمواج البحر ورماله وصخوره وصدفاته. حقيقة لا يُمكنُ وصف ما شعرت به في تلك الأثناء وأنا أتمتع رفقة زوجي برؤية حُمرة الشمس المُعتمة, والليل يُرخي سُدوله السّوداء على مدينة تمتاز بسحرٍ لا متناهْ من الجمال. وما زادها جمالاً وروعة هو الآثار العديدة الشامخة فوق أرضها والذي يعود مُعظمها إلى عصور قديمة أهمها العهد الروماني. كلّ من تطأُ أقدامهم المدنية يُسافرون إلى رحاب الماضي, فهنا يفتح التاريخُ ذراعيه للجميع.
تُعتبر الحديقة الأثرية من أبرز المناطق الأثرية, فهي تضمّ معالم مكشوفة وميناءً ومتحفاً, وتتربع الحديقة على كتلة جبلية, نهايتها تُلامسُ زرقة البحر والسماء في نفس الوقت, وهو ما جعلها موقعاً يستقطب الكثير من السيّاح الأجانب
انتظرنا غُروب الشمس من شاطئ "الأزرق الكبير" الذي يُعتبر من أجمل الشواطئ السّاحلية في المنطقة, والقوارب فيه تودّع يوماً مضى من حياتنا, والشفق الأحمر يودّع حقولها وتلالها وشواطئها ورمالها الذهبية, ثمّ عُدنا أدراجنا.
معابد وحدائق أثرية
بعد انتهاء الليل بسُرعة البرق, كان مُقرراً أن نقضي اليوم في شاطئ "شنوة بلاج" الذي يجمع بين زرقة البحر وخضرة الخليج. سُمّي هكذا نسبة إلى شعب "الشناوة" أو "التشينوا", وهم مجموعة عرقية أمازيغية يتواجدون بكثافة في جبال الشناوة, يُقدر عددهم بمئات الآلاف ويتحدثون اللغة الأمازيغية الشاوية, غير أنه في داخلنا كان ثمة شغفُ البحث عن حقائق التاريخ, فكانت أول محطّة لنا "المُدرجُ الرُوماني" الذي يقعُ بالقرب من الحديقة الأثرية, ويضمّ عدة أقواس تُشكلُ دعامة للمُدرجات، وأبواب عالية تُطلّ على السّاحة التي كانت تُمثّل حلبة مصارعة, وفي المُدرج قبو كبير.
وتُعتبر الحديقة الأثرية التي تقع على المشارف الغربية للمدينة الحديثة من أبرز المناطق الأثرية, فهي تضمّ معالم مكشوفة وميناءً ومتحفاً, وتتربع الحديقة على كتلة جبلية, نهايتها تُلامسُ زرقة البحر والسماء في نفس الوقت, وهو ما جعلها موقعاً يستقطب الكثير من السيّاح الأجانب القادمين من الصّين وإيطاليا وفرنسا وألمانيا, قطاعُ عريض منهم يهتمّون بالمعالم الأثرية, كما أن العائلات الجزائرية تتخذها كأفضل متنفس لها في عطلة نهاية الأسبوع.
وبالحديقة يتواجد معبدان لم يبقَ منهما سوى أعمدة شامخة وصخور متينة يستعملها بعض العشّاق لكتابة الأحرف الأولى لأسمائهم. الأول يتواجد بالقرب من المُدرج، ومجهولةٌ هويةُ صنعه ومرتاديه. أما المعبد الثاني فيتواجد في الجانب الآخر من الحديقة, ولازال يحافظُ، ورُغم مُرور آلاف السنين على بنائه على بلاط أرضيتِه.
"الضريح الملكيّ الموريطاني" عبارة عن قبر ضخم, يتكوّن من صفائح حجرية مُتساوية الحجم. وبحسب ما تداوله مؤرخون فإن هذا الضريح يجمع التاريخ الذي جمع بين الملك الموريتاني يوبا الثاني وسيليني كليوباترا ابنة كليوباترا ملكة مصر الفرعونية
بعد انتهاء الساعتين الأولى من الرحلة بسرعة البرق, سألني زوجي عن شُعُوري, فأجبتهُ بأنها كانت تجُربة رائعة, خاصة وأن جمال الطبيعة في هذه المدينة يُعانق التاريخ. ثمّ ودّعنا المنطقة على أمل تكرار التجربة مرة أخرى.
"قبر الرومية"، كنزٌ تاريخي
قادنا بعدها شغفنا ورغبتنا في اكتشاف المدنية بأكملها إلى "قبر الرومية" أو ما يُعرفُ بـ"الضريح الملكي الموريطاني"؛ فبعد حوالي نصف ساعة من الزّمن وجدنا أنفسنا في مكان مُزدحم بالسيارات, وأشخاص من أجناس مختلفة, يتكلمون لهجة غير لهجتنا الجزائرية, يسيرون ضمن مجموعات.
الوُصولُ إلى هذا المعلم لم يكن صعباً, نراهُ عند قدومنا من مدينة الجزائر العاصمة نحو مُحافظة شرشال إحدى المُدن الجزائرية المُطلة على البحر الأبيض المتوسط, وعلى بُعد عشرة كيلومترات من مدينة تيبازة, يتبين معلم عملاق, لا تظهر ملامحه سوى بالاقتراب منه, لكنهُ كان بارزاً بسبب حجمه العملاق, وعندما اقتربنا منه تبين لنا أنه "الضريح الملكي الموريطاني" أو "قبر الرومية"، كما يحلو للسكّان المحليّين تسميته. يُطلّ الضريحُ على الواجهة البحرية من جهة, وعلى سهل متيجة من جهة أخرى. ويعلو سطح البحر بمقدار 261 متراً, يهتدي به الصيادون والملاحون في تنقلاتهم البحرية.
"الضريح الملكيّ الموريطاني" عبارة عن قبر ضخم, أُسطواني الشكل, يتكوّن من صفائح حجرية مُتساوية الحجم, وينتهي بمخروط المُدرّج، ويضمُّ في خارجه 60 عموداً. وبحسب ما تداوله مؤرخون فإن هذا الضريح يجمع التاريخ الذي جمع بين الملك الموريتاني يوبا الثاني وسيليني كليوباترا ابنة كليوباترا ملكة مصر الفرعونية.
ويُقال إن الملك يوبا الثاني ملك الإمبراطورية الموريتانية كان يحبّ زوجته كليوباترا سيليني، حيث حزن عليها بعد وفاتها حزناً شديداً إلى درجة أنه قرّر أن يخلّد ذكراها بضريح بناه لها على شكل تحفة معمارية خالدة تحاكي أهرامات مصر.
ومن أبرز مميزات هذا الضريح هي الأبواب الوهمية الأربعة التي يصلُ عُلو الواحد منها إلى ما يُقاربُ سبعة أمتار, يُحيطُ بها إطار بنُقُوشٍ بارزة تُشبهُ إلى حدّ كبيرٍ شكلَ الصليب؛ الأمر الذي جعل بعض الباحثين في علم الآثار يُصنفونه في خانة المباني المسيحية, ولذلك أصبح يُطلقُ عليه "قبر الرُومية"، اشتقاقاً من كلمة "الرومي" بمعنى الروماني أو البيزنطي.
من أبرز مميزات هذا الضريح هي الأبواب الوهمية الأربعة التي يصلُ عُلو الواحد منها إلى ما يُقاربُ سبعة أمتار
وصُنّف الموقع عام 1982 ضمن التراث العالمي للإنسانية, كما يوجد هذا المعلم التاريخي والسياحيّ ضمن قائمة التراث العالمي لمنظمة التربية والثقافة والعلم التابعة للأمم المتحدة "يونيسكو" منذ عام 2002، كواحد من الأضرحة الملكية الموريتانية، وكذا المواقع الجنائزية لفترة ما قبل الإسلام.
بقينا نصول ونجولُ حول "الضريح", ووراءنا الكثير من الزوّار الذين كانوا يتأملون طريقة بنائه, بينما كان آخرون جالسون على أكياس بلاستيكية يتظلّلون بظله. وكان آخرون يقفون على حافة الضريح, يتأملون الواجهة البحرية التي يُطلّ عليها, يملؤون رئتهم بالهواء الدافئ النقيّ, بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخبها. كان المنظر عجيباً حقّاً، لا تستطيع عيون الزوّار نسيانه, خاصة وأنهُ يُنسيكم الهُمُوم والأحزان التي تكتم أنفاسكم.
بعد قضاء نصف اليوم في التجوال بين الآثار التاريخية التي تزخر بها المدينة، قضينا بقية اليوم حول شواطئها الساحرة التي تجمع بين زرقة البحر وخضرة الجبال, وتمتدّ شواطئها من شاطئ "تماريس" إلى شاطئ "شنوة". وتمنح هذه الشواطئ عشّاقَها الراحةَ والسّكينة خاصّة إذا حان شروقُ الشّمس، أو رؤيتها وهي تودّع البحر وأمواجه وحبّات الرمل الصغيرة وأصدافه البراقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين