إذا كانت الأدعية والأغاني والأفلام والروايات لم تنفع ببصلة في حَلحلة أزمتي العاطفية أو "تبريد نار قلبي الملتاع"، فلماذا لا أجرب الاستعانة بالفلسفة؟
لم أكن أطلب المستحيل، "عَمَل على بتاع جمل" يجلب الحبيب الشارد مثلاً، أو تعويذة تحلّيني في عين من فضّلت ابن خالتها العائد من الخليج، كنت فقط أبحث عن وسيلة لفهم تلك المشاعر التي تعصف بالروح وتشلّ العقل فينبضن منهما ولهما الجسد، وتطول الليالي أكثر من اللازم، وتصبح الأيام شبه بعضها فتتوهم أن الحياة قد انتهت لمجرد أنها باخت، وفي ظل طول حالة خنيقة كهذه تصورت أنني يمكن أن أجد ضالتي في كتاب (مشكلة الحب) الذي كتبه الفيلسوف الدكتور زكريا إبراهيم، وكنت قد اشتريته قبلها بعامين من مكتبة مصر في حي الفجالة، خلال فترة قصيرة وقعت فيها في هوى الفلسفة، بفضل براعة الدكتور حسن حنفي في تدريسنا لها بكلية الإعلام.
ما زادني كتاب الدكتور زكريا إلا خبالاً، ليس فقط لأنني ألفيته يعتقد أن "التجربة شاهدة مع الأسف بأن معجزة الحب الكبرى قلما تدوم"، وأن الحب في دنيا البشر فضيلة سريعة أو قيمة خاطفة، وأن الإنسان لا يحب حقاً إلا في لمحة خاطفة لا تدوم أكثر من آن، وأن المحب حين تنقضي مرحلة الإغراء التي يرى فيها كل عيوب الحبيب محاسن، يجد نفسه وقد طغت عيوب حبيبه على باقي ما في شخصيته من محاسن فتصير كأنها حقائق يكتشفها لأول مرة وتستأثر العيوب وحدها باهتمامه، وأن العقدة الرئيسية في مشكلة الحب أنه مشروع يراد به التأثير على حرية الآخر في العلاقة، وإنما أيضاً لأن حديثه عن أن "موت الحب الجسدي هو مولد الحب الروحي" لم يأتِ على هواي أنا الشاب المأزوم التوّاق إلى القبلات والأحضان والراغب في "تغطيس الأقرع" بما يرضي الله والمجتمع أو يغضبهما.
لم أجد حلاً مؤقتاً لمشكلتي العاطفية في الفلسفة ولا في غيرها، بل في الحاجة الماسة إلى تجنب مهانة الاستدانة والإسراع بدفع الإيجار قبل أن يرميني صاحب الشقة في الشارع، لأكتشف قبل مرور عام على الأزمة أن قصة حبي كانت أعبط من اللازم، وأنني لم أكن أعرف نفسي أصلاً لكي أدرك أنها كانت تستحق الحب فضلاً عن معرفة من أحببتها حق المعرفة قبل أن آسى على عدم حبها لي.
بعد أكثر من ربع قرن تأكدت من صحة استنتاجي الذي توصلت إليه في تلك الأيام بأن الحب مشكلة أعوص من أن يحلها أحد حتى لو كان فيلسوفاً بعلم الدكتور زكريا إبراهيم وعقليته
بعد أكثر من ربع قرن تأكدت من صحة استنتاجي الذي توصلت إليه في تلك الأيام بأن الحب مشكلة أعوص من أن يحلها أحد حتى لو كان فيلسوفاً بعلم الدكتور زكريا إبراهيم وعقليته، بعد أن قرأت مذكرات زميله وصديقه الفيلسوف والمفكر الأردني/الفلسطيني الدكتور فهمي جدعان التي صدرت عن دار الأهلية في عمّان بعنوان (طائر التمّ: حكايات جنى الخُطى والأيام)، وكان الدكتور زكريا أحد الأبطال الثانويين لتلك السيرة الغنية بالحكايات والأحداث والأفكار.
يحكي فهمي جدعان أنه تعرف على زكريا إبراهيم بعد أن وصل عام 1968 إلى الأردن لتدريس الفلسفة في الجامعة الأردنية، كان زكريا وقتها على مشارف الخامسة والأربعين من عمره، وكان بصحبته ابنتاه وزوجته الفرنسية إيفيت التي يصفها جدعان بأنها كانت على قدر عظيم من البساطة والعفوية والدماثة وخفة الدم وكرم الضيافة، ربما لأنها لم تكن فرنسية بورجوازية، وكان يحلو لزكريا أن يداعبها أمام أصدقائه متفكّهاً حيناً ساخراً أحياناً، لكنه كان يقدرها ويجلها.
اقترب فهمي جدعان من الأسرة وتوطدت صداقته بزكريا إبراهيم بشكل لم تشابهه أية صداقة له، كان زكريا يشكو له من معاملة زملائه الفلاسفة المصريين في جامعة القاهرة عبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا ويحيى هويدي، والذين كان يعتقد أنهم يضعون في طريقه العراقيل، ولذلك تم حرمانه من تقلد منصب جامعي رفيع كان الأحق به، لكن شكواه لجدعان كانت مهذبة وبعيدة عن الكلام النابي، كما أنه لم يذهب إلى حدود الزعم بأن حساسية زملائه منه كانت ترجع "لأرومته القبطية"، طبقاً لتعبير جدعان الغامض الذي يترك تفسيره للقارئ العليم بأحوال مصر الطائفية.
يصف فهمي جدعان الدكتور زكريا إبراهيم بأنه كان كثير المزاح الراقي الذكي الفطن ولذلك كان طلبته يحبونه حباً عميقاً، وكان كثير منهم يلجؤون إليه لحل مشاكلهم الروحية والعاطفية والنفسية، ربما لأنهم تأثروا بكتابه عن (مشكلة الحب) الذي صدر عام 1964، أو كتابه عن (الزواج والاستقرار النفسي) الذي أصدره عام 1957، أو بمجمل سلسلة كتب المشكلات الفلسفية التي لعلها أوحت لهم بقدراته على حل المشكلات أو تفسيرها، مثلما أوحت لي بذلك أنا الذي لم أتتلمذ على يديه، ومع أنه كان كما يصفه جدعان "حلالاً لمشاكل الآخرين، إلا أنه عجز عن حل مشكلته الروحية التي حدثت بسبب أنه كان يُكنّ لإحدى طالباته المتميزات حباً لم يكن قادراً على البوح به، وبسبب مشكلة صديقة للعائلة كانت عملياً كأحد أفراد العائلة".
العاشق المجنون أو "الحقير النذل" كما وصفته ماريزّا، كان شارل لابوري السكرتير الأول في السفارة الفرنسية، الذي رأى ماريزّا خلال ترددها على السفارة الفرنسية لإجراء إداري
يكتفي جدعان بالإشارة العابرة إلى قصة الطالبة التي كتم زكريا إبراهيم حبها في قلبه، ربما لأن بطلتها بحكم السن لا تزال حية ترزق، أو لأن كتمان قصة الحب جعلها غير جديرة بما هو أكثر من الإشارة العابرة، لكنه يفصل قصة صديقة العائلة التي يذكر اسمها الكامل، لكن دعنا نكتفي بالاسم الأول (ماريزّا). يصفها جدعان بأنها "سيدة إيطالية في مقتبل العمر ذات جمال خلّاب، شقراء، زرقاء العينين، معتدلة الطول، أنيقة، خفيفة الظل، تميل إلى المرح، ذات بساطة أرستقراطية، متحدثة جذابة، تتقن الفرنسية والإنجليزية وطبعا لغتها الأصلية الإيطالية وشيئاً من اللغة العربية أتاها من زوجها الأردني الذي كان طبيباً جراحاً ينتمي إلى إحدى العائلات الأردنية العريقة ـ ربما لذلك لم يذكر جدعان اسمه ـ التقت به في لندن أثناء دراسته للطب فيها وأحبته وتزوجته، واقترن زواجها بقدر من سوء الحظ، إذ أصابها عارض أفقدها الرحم والإنجاب".
زكريا إبراهيم
كانت ماريزّا تتردد مع زوجها على منزل زكريا وزوجته في سهرات لطيفة كان يحضرها جدعان العازب ويجد فيها أنساً لروحه، ولم يتوقع أن يفاجئه زكريا ذات يوم في مكتبه بالكلية أنه واقع في حب ماريزّا وأنه يتألم ألماً غير عادي بسبب ذلك الحب، وعرف جدعان بعد تعمق صداقته بماريزّا أنها "تدرك أن زكريا يحبها وأنها بروحها الإيطالية لا تتحرج من الاستمتاع بهذا الحب والابتهاج به في حضرة زوجته إيفيت التي كانت بدورها لا تأبه بذلك وتتفكّه قائلة: أعرفه جيداً، هذه عادة من عاداته، رقيق القلب، سريع الهوى، وضعيف أمام النساء فكيف يكون حاله حين تكون الملكة ماريزّا هي المرأة الغازية! أما ماريزّا فتغرق في الضحك وتقول: وأنا أيضاً أحبه، لكن ليس بيدي شيء! بينما هو يظهر الابتسام لكن غصّة مرة في الحلق وفي القلب كانت تثوي خلف ظاهر الابتسام".
قال لفهمي جدعان إن رحيل ماريزّا قد "فتّ في عضده وأنه لن يطيق بعده البقاء في عمّان، وأنه لن يجدد عقده مع الجامعة، وسيعود إلى القاهرة ويخطط للانتقال إلى جامعة محمد الخامس بالرباط"
يقر فهمي جدعان أنه أيضا وقع في فتنة ماريزّا لكنه كبح جماح مشاعره ولمّ الليلة مؤثراً السلامة، وأدرك أنه حسناً فعل حين تلخبطت الحكاية يوم فوجئ زكريا وزوجته وفهمي بماريزّا تحضر إلى موعد السهر المعتاد في بيت زكريا، وهي في حالة من التعاسة والألم، شاكية من حادث قالت إنه سيتسبب في خراب بيتها الذي اقتحمه في منتصف الليلة الماضية رجل قال لزوجها إنه وقع في هوى ماريزّا وأنه يريد أن يراها وإلا سينتحر.
العاشق المجنون أو "الحقير النذل" كما وصفته ماريزّا، كان شارل لابوري السكرتير الأول في السفارة الفرنسية، الذي رأى ماريزّا خلال ترددها على السفارة الفرنسية لإجراء إداري، وكان جدعان الذي درس في فرنسا يعرفه جيداً، وحين سمع ما قالته ماريزّا تذكر أن شارل كان يسأله دائماً عنها وعن تفاصيل سهراتهم في بيت زكريا إبراهيم، مما اضطر جدعان ذات مرة إلى تذكيره بأن ماريزّا سيدة متزوجة من رجل مرموق من علية القوم وأن عليه أن يكف عن سؤاله عنها، فكف شارل عن السؤال لكنه لم يكف عن التعلق المرضيّ بها.
فهمي جدعان
قبل أن يقتحم شارل بيت ماريزّا في تلك الليلة الليلاء، كان قد قال لها إنه شرع في إجراءات الطلاق من زوجته المقيمة في باريس وأنه سيضحي من أجل حبه لها بكل شيء، فقابلت جنونه بتحفظ مهذب آملة أن يكف عن ملاحقتها، ولم تكن تتوقع أن يقتحم بيتها ليُصعق زوجها بمنظر العاشق الملتاع الذي يهدد بالانتحار لو لم ير زوجته في أنصاص الليالي، ولأن الزوج العاقل الراسي لم يصدق أن تصرفاً كهذا يمكن أن يكون دخاناً بغير نار، فقد غشيه الصمت والسكون وأصبح تواصل ماريزّا معه عصيّاً، وأصابته حالة اكتئاب جعلته يخطئ في أكثر من عملية جراحية، وثقل نفسه وكلامه واعتزل كل من حوله.
هجرت ماريزّا بيتها وأصبحت شبه مقيمة لدى إيفيت وزكريا، تظل فيه حتى موعد خروج زوجها من المستشفى، ووجدت بعض العزاء في صحبة إيفيت التي كانت تشاركها البكاء والانتحاب، حتى فوجئت ذات يوم بزوجها وهو يطرق باب زكريا ويدخل ليلقي في وجهها بمظروف مفتوح فيه ورقة طلاقها، لتقيم ماريزّا لفترة في بيت زكريا على أمل أن تحدث معجزة تعيدها إلى بيتها، لكن الجميع فوجئوا بعد أقل من شهر بأن صفحات الوفيات في صحف عمّان تعلن عن وفاة الزوج المكلوم إثر مرض عضال.
هل مات الدكتور زكريا إبراهيم وفي نفسه شيء من ماريزّا؟ هل عاود الاتصال بها يوماً ما؟ هل أحب غيرها؟ هل كانت تذكره بحب قديم ضائع؟ هل كان يحبها فعلاً أم كان يتصور أن حبه لها سيكون حلاً ما لمشكلة أعمق وأعقد لا يعلم حقيقتها إلا هو؟
كانت ماريزّا تعلم أن زوجها لا يعاني من أي مرض عضال ولذلك حمّلت نفسها مسؤولية ما جرى له، وقررت ترك الأردن لتبدأ فصلاً جديداً من حياتها، وبعد مرور فترة على رحيلها أدرك زكريا إبراهيم عجزه عن طوي صفحة حبها، وقال لفهمي جدعان إن رحيل ماريزّا قد "فتّ في عضده وأنه لن يطيق بعده البقاء في عمّان، وأنه لن يجدد عقده مع الجامعة، وسيعود إلى القاهرة ويخطط للانتقال إلى جامعة محمد الخامس بالرباط"، وبعد سفره انقطعت صلته بفهمي جدعان الذي علم أنه التحق فعلاً بقسم الفلسفة بجامعة محمد الخامس في الرباط وأنه توفي فجأة أثناء عمله في السابع والعشرين من شهر نيسان/ إبريل من العام 1976 عن عمر يناهز الرابعة والخمسين، "مخلفاً مكتبة فلسفية تكاد تكون شاملة، وألماً جارحاً وحزناً شديداً" في نفوس زملائه وتلاميذه.
هل مات الدكتور زكريا إبراهيم وفي نفسه شيء من ماريزّا؟ هل عاود الاتصال بها يوماً ما؟ هل أحب غيرها؟ هل كانت تذكره بحب قديم ضائع؟ هل كان يحبها فعلاً أم كان يتصور أن حبه لها سيكون حلاً ما لمشكلة أعمق وأعقد لا يعلم حقيقتها إلا هو؟ وهل ظلت زوجته صابرة على "ضعفه أمام الهوى" لأنها تعلم أن هواه في نهاية المطاف لن يجاوز الحدود بحكم قيود الديانة أو المكانة الاجتماعية أو الحسابات الأسرية؟ هل عاود الدكتور زكريا زيارة كتابه (مشكلة الحب) في الليالي التي كَبَس فيها الغرام على نَفَسه؟ وهل وجد بعض العزاء في كلامه أو كلام السابقين له بفلسفة؟ أم أنه أدرك أن كل ما قاله واستشهد به عن آنية الحب وزواله واستحالة تحققه، كان خداعاً للنفس لا يساوي في حقيقته نعيم ساعة بقرب الحبيب؟ وإلا لما كان قد أهدى كتابه "إلى كل من استطاع أن يهتف بعد رحلة الحياة المليئة بالتجارب والآلام: أجل لقد تذوقت حلاوة الحياة فقد عشت وأحببت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه