تمتلئ مصر بمئات المقاهي ذات التاريخ الشعبي والثقافي، وفي غرب الإسكندرية، المدينة الساحلية العريقة، المتعددة الثقافات، والشاهدة على عشرات العصور، يقبع مقهى خفاجي الثقافي.
وهو الذي كان شاهداً على ثرثرات العمال ونقاشات المثقفين، وطرب الحاضرين من أغاني زمن الفن الجميل، يقع في حي الورديان، أحد اعرق أحياء الإسكندرية إذ يتسم بطبيعة شعبية وتجارية فريدة.
إذا ركبت الميكروباص، أو "المشروع" كما نطلق عليه باللهجة الإسكندرية، متجهاً الى حي الورديان، فستسمع اسم "محطة مقهى خفاجي"، يتردد على لسان السائق والركاب لما يتسم به من شهرة كبيرة ، يعرفها أبناء المدينة الساحلية، وحي الورديان.
تغيرت الإسكندرية كثيراً عن أيام زمان، ولكن إن بحثتم جيداً ستجدون أحياء ومناطق تحافظ قدر الإمكان على ما تبقى من أصالتها، وأبرزها مقهى خفاجي، هل تعرفونه؟
أسس المقهى السيد عبد الستار خفاجي في خمسينيات القرن الماضي، وكان شاهداً على أحداث سياسية واجتماعية كثيرة، مثل نكسة يونيو عام 1967، ووفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970، ونصر أكتوبر عام 1973.
تجربتي مع المقهى تمتد إلى عشرات الأعوام، أحب أن أجلس هناك، خاصة في الصباح الباكر، حتى أتمكن من الكتابة، والاستمتاع بروعة المكان دون ضجيج، إذ يكون مزدحماً في المساء.
يقدر العاملون بالمقهى دور الكتّاب والمثقفين، واعتادوا مشهد "الكتابيب" والمؤلفين في المقهى أمام أوراقهم، ويلبون طلباتهم في هدوء.
يقع مقهى خفاجي، على شارع "المكس" وهو طريق رئيسي يربط بين غرب الإسكندرية كلها من حي القباري حتى منطقة العجمي الشهيرة، ويقع مباشرةً أمام ميناء الإسكندرية، وتحديداً أمام باب 14، الذي يتم استيراد الأخشاب والغلال منه، ولذلك اشتهرت منطقة الورديان بمصانع الأخشاب والغلال وشركات النقل والاستيراد.
كما تجد سيارات النقل المحملة بالأخشاب والبضائع القادمة من الميناء، وبالطبع كان للمقهى دور كبير في خدمة التجار والعاملين بالميناء حيث كان ولا يزال استراحة جيدة لهم، وفرصة لتجديد النشاط.
ولعب مقهى خفاجي قديماً، دوراً هاماً في ترسيخ العلاقات بين التجار اليونانيين والمصريين من خلال اجتماعهم فيه، وعقد الصفقات التجارية.
تاريخ عريق
أول ما يدهشك في المقهى هو ذلك التصميم العريق والمكون من الخشب والزجاج، والذي احتفظ به الأحفاد حتى الآن. كما احتفظوا بالأثاث العتيق، والكراسي القديمة، المرصوصة بعناية. كل شيء قديم وتراثي في المقهى. هناك ركن للعب الطاولة والشطرنج وهناك ركن للطلبة، وركن للمثقفين والمتقاعدين.
ستلاحظ أيضاً تلك الصور القديمة لبعض فناني الزمن الجميل مثل إسماعيل ياسين، ليلى مراد، فريد الأطرش عبد السلام النابلسي من خلال لوحة جدارية كبيرة، في منتصف المقهى، مكتوب عليها "مقهى خفاجي... المنتدى الثقافي". تجد أيضاً، صوت السيدة ام كلثوم الرائع يصدح في المساء وستستمع أيضاً لأصوات كثيرة من مثل محمد عبد المطلب، ومحمد فوزي وفايزة أحمد وغيرهم الكثير. كما أنك ستستمتع جداً بقهوة العصاري على أنغام إذاعة الأغاني، التي تعرض ألواناً من الطرب الأصيل، وستكون محظوظاً لو زرت المقهى في رمضان حيث ستجد طابعاً فريداً، ومذاقاً مختلفاً لأمسيات رائقة.
ولقد لعب المقهى دوراً ثقافياً هاماً في فترة الستينيات من القرن الماضي إذ حوله صاحبه إلى فصولٍ لمحو الأمية.
واستمر عطاء المقهى حتى ذاع صيته، ووصل الى السيد حمدي عاشور محافظ الإسكندرية وقتها، فزاره عدة مرات، وقدم له الدعم المادي والمعنوي كي يستمر في رسالته، وذاعت شهرته حتى إن الدكتور فؤاد محيى الدين، رئيس الوزراء الأسبق، في عصر حسني مبارك، وعدد كبير من النواب، كانوا يجتمعون فيه لبحث مشاكل المحافظة، واستمر المنتدى الثقافي بمقهى خفاجي في جذب الرواد ونجوم المجتمع حتى وقتنا هذا ولكن بمعدل أقل من الماضي.
أعلام من رواد المقهى
سوف تندهش إذا عرفت أن منزل عائلة الفنان محمود عبد العزيز يبعد عدة شوارع فقط عن المقهى، حيث نشأ وتربى في حي الورديان، لذا كان الفنان محمود عبد العزيز من رواد المقهى القدامى وكذلك وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، والفنان التشكيلي السكندري عصمت داوستاشي، والكاتب الساخر محمود السعدني والكاتب السكندري الكبير ابراهيم عبد المجيد قد ذكر المقهى في روايته "الإسكندرية في غيمة"، إذ كتب جزءاً من الرواية داخل المقهى، وجميعهم كانت تربطهم صداقة بالسيد علي خفاجي الابن الأكبر لمؤسس المقهى، والذي توفي قبل عدة أعوام، وبالتالي قلّت الندوات والزيارات إلى المقهى، كما قلّت مستويات القراءة عند الشباب مقارنة بالأجيال الماضية أيضاً.
ندوات ولوحات شكلتا وجدان الحي
قال السيد عصام عبد المجيد، موظف بالمعاش، وأحد رواد المقهى القدامى، إن المقهى كان يعقد ندوات أدبية وشعرية بشكل دوري في الماضي، كما كانت الكثير من اللوحات التشكيلية لأشهر الفنانين الإسكندريين تُعرض لرواد المقهى مثل لوحات الفنان عصمت داوستاشي، والفنان فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، الذي كان أحد رواد المقهى، مما شكل وجدانهم ورفع ذائقتهم الادبية بشكل كبير، ولذلك يعرف أهل الاسكندرية دوماً بحبهم للفن.
المقهى كان يعقد ندوات أدبية وشعرية بشكل دوري في الماضي، كما كانت الكثير من اللوحات التشكيلية لأشهر الفنانين الإسكندريين تُعرض لرواد المقهى
ويتفق المعلم سيد عبدالله، تاجر أخشاب، مع حكايات السيد عصام، مشدداً على أن المقهى كان دائماً يقدم لهم الفن التشكيلي والموسيقى الراقية بعيداً عن موجة الإسفاف.
واختلف معه بشدة الدكتور إيهاب الصياد، صيدلاني شاب، قائلاً إنه هو وأصدقاؤه يأتون للجلوس، والاستماع الى صوت أم كلثوم، فالتعميم هنا ليس صحيحاً، لأنك سوف تجد شباباً يقرأون ويستمعون الى أم كلثوم رغم كل شيء.
لاحظت بالطبع عدم وجود الكتب في الزيارات الأخيرة، فوفقاً لرواية صاحب المقهى، فإن القراءة تنحسر ليس في المقهى فقط ولكن بين الشباب عموماً، "يجلسون الآن وجههم في الموبايل، لكن أصحاب المقهى من جهة أخرى يحاولون دائماً الحفاظ على هوية المقهى الثقافية من خلال الحفاظ على شكل المقهى التقليدي، والحفاظ على استمرارية جاذبيته لرواده من المثقفين، وصوت الأغنيات "الأصيلة" التي تعتبر علامة "أصيلة" للمقهى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...