شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ثورة 19 هي السبب"... جرائم ارتكبها "غير المجرمين" في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 7 فبراير 202304:14 م

من تاريخ الـ"الجرائم التافهة" ومرتكبي الجرائم غير المجرمين في مصر

خبر بسيط نشره محام على صفحته بفيسبوك عن التحقيق مع سيدة في نيابة الأميرية بالقاهرة بسبب سرقة "كيس هامبورغر"، وخبر آخر نشرته صحيفة الأهرام عن مجموعة من الأشخاص ألقي القبض عليهم لسرقتهم "كاوتش سيارة".

اللافت أن المتهمين لم يرتكبوا أي جريمة من قبل، ولم يكن لهم سابقة جنائية، فضلاً عن كون الجريمة والمسروقات تافهة.

ما أشبه الليلة بالبارحة

في 1927 ألقت الأجهزة الأمنية في أبو تيج بأسيوط القبض على متهم لسرقته "عود من الذرة"، كان ذلك عقب تدهور الحالة الاقتصادية التي عصفت بمحصول مصر الرئيسي آنذاك وهو "القطن" الذي تدهورت أسعاره، ولم تعد الدولة قادرة على توفير النقد الأجنبي الذي تشتري به السلع الضرورية، فارتفعت الأسعار بشكل كبير.

بدأت الأجهزة الأمنية تستقبل "جرائم" تافهة، ومجرمين جددً ليس لهم أي علاقة بالإجرام.

في كتاب "الجريمة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين: الشوارع الخلفية"، يربط المؤرخ عبد الوهاب بكر بين الأزمات الاقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة، خاصة الجرائم "التافهة أو الساذجة للغاية". مثل واقعة السطو على أحد المنازل في حي شبرا الخيمة في القاهرة. كانت تلك المرة الأولى للمتهمين التي يحاولون فيها السرقة، حينها ارتدوا أقنعة واقتحموا المنزل ونجحوا في تقييد أهل المنزل وسرقة الأموال والمشغولات الذهبية، لكنهم بعد السرقة تبادلوا عبارات وجملاً دلت على أسمائهم وأماكن إقامتهم، ما مكن الأجهزة الأمنية من القبض عليهم بسهولة.

ومثل مُتهم يُدعى "سليمان عقاب" من منطقة بولاق في القاهرة، بعدما ألقي القبض عليه لتزييف النقود فئة "العشرة قروش"، وكان التزييف ساذجاً وواضحاً للغاية. كانت الألوان مختلفة والصورة المرسومة على الورقة، فبدلاً من رسم الأهرامات وأبو الهول كما هو في الورقة الأصلية، اكتفى برسم الأهرامات فقط، واستغنى عن أبي الهول.

والمتهم "محمد الدخاخني" أراد السرقة بأسلوب التحايل، غير أنه لم يكن مقنعاً في أسلوبه، لكون تلك المرة الأولى التي يحاول النصب فيها.

الأمر يتكرر مع كل أزمة اقتصادية تمر بها البلاد، بحسب ملاحظة الكاتب، في الأزمة المالية العالمية في 1929 والتي تأثرت بها مصر في 1930 زادت جرائم السرقة بالإكراه بنسب تخطت الـ 16%. ومع الحرب العالمية الثانية تضاعفت أكثر من 100%.

يرى بكر في كتابه الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية عام 2004 أن المشكلة كانت تتضاعف لأسباب أخرى.

طائر مجرم يشعل الحرائق!

في أحد مراكز شرطة الصعيد، كانت حوادث الحريق العمدي أو الجنائية تتكرر بصفة مستمرة، وكان مأمور المركز ينهي المحضر في كل مرة بأنه "عوارض" أي لا يوجد متهم فيها، وأن السبب هو مجرد عقب سيجارة، وتعددت المحاضر المشابهة والتي تحمل صفة "عوارض"، مما لفت انتباه وكيل النيابة في الدائرة، فاستدعى المأمور للسؤال ونبهه إلى ضرورة الانتباه والتركيز.

في المرات التالية، بدأ المأمور بتسجيل سبب آخر في المحاضر، وهو طائر "القرقشند"، فاستدعاه وكيل النيابة ثانيةً لسؤاله عن طائر القرقشند، وكيف يتسبب في إشعال الحرائق!

قدم المأمور لوكيل النيابة معجماً ضخماً، أشار إلى صفحة فيه تقول: "طائر القرقشند، طائر ضخم طويل الجناحين يطير قرب الأرض ويحدث احتكاك جناحيه بالأرض شرراً يمكن أن يتسبب في حريق".

أصاب وكيل النيابة اليأس، وطلب من المأمور العودة إلى سببه الأول "عقب السيجارة".

يذكر بكر في كتابه أن نسبة الأمية بين رجال الشرطة في ذلك الوقت كانت تصل إلى 75%، وكانت قضية التغاضي عن الأسباب الحقيقية للجرائم منتشرة إلى حد كبير، حرصاً منهم على الظهور أمام الجهة الرئيسية بمظهر القائمين بتوطيد دعائم الأمن.

ثورة 19 هي السبب

هذه الغرابة غير المبررة في نسبة الجرائم إلى أعواد ثقاب وطيور لفتت انتباه بريطانيا نفسها، فأصدر المعتمد البريطاني في مصر السير إلدون جورست منشوراً يطالب فيه الأجهزة الأمنية بضرورة الانتباه أكثر في القضايا الجنائية، ومحاولة الوصول للجناة الحقيقيين.

لكن، لم يكن رجال الشرطة وحدهم الذين يعانون من تلك المشكلة.

في ذلك الوقت، شكلت لجنة ضمت كبار المسؤولين في وزارة الداخلية، والنائب العمومي، ونائب قائد الجيش، وبعض أعضاء مجلس الشيوخ لبحث أسباب انتشار الجرائم بشكل كبير، وظهور فئات جديدة من المجرمين. ولم تتوصل اللجنة إلى حل، وحُلت بعد وقت قصير من تشكيلها.

أضاف عنتر أن هناك أناساً لم يسبق لهم ارتكاب مثل تلك الجرائم وباتوا متهمين فيها، خاصة فيما يتعلق بالسرقات والنصب، وأوضح أن هناك فئة إضافية ظهرت، وهي "النصب الأسري"، كأن يتهم شخص صديقه أو ابن عمه أو قريباً له بالسرقة أو النصب

وأرجع مدير إدارة الأمن العام آنذاك حسين صبحي سبب انتشار الجرائم إلى الاضطرابات السياسية التي تمر بها البلاد، مثل ثورة 1919 وارتفاع المد الوطني، واغتيال أعداد غير قليلة من الاحتلال الأجنبي، تماماً مثلما يحدث الآن، فطالما ردد مسؤولون أن ثورة يناير هي سبب الكثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية.

فهل الثورات الوطنية والاجتماعية هي السبب في انتشار الجرائم؟

يرى ضابط الشرطة السابق، والمؤرخ بكر عبد الوهاب مؤلف الكتاب أن هذا السبب غير حقيقي، إذ ساهم المحتل الأجنبي نفسه في تطور مستوى الجريمة.

يكتب بكر: “من أهم أسباب تطور الجريمة حينها هو المحتل الأجنبي نفسه، حيث جندت بريطانيا نحو مليون و170 ألف مصري للخدمة في الجيش البريطاني وقت الحروب، وهؤلاء احتكوا بثقافات وحضارات أخرى، مكنت بعضهم من الارتقاء بمستوى الجريمة، وبعد عودتهم بدأت تظهر الجرائم المستوحاة من الأفلام الأوروبية والأمريكية".

يشار إلى أن بكر عبد الوهاب عمل كضابط شرطة، ثم استقال وانضم إلى سلك القضاء، ثم صار كاتباً يؤرخ لأحوال الأمن، وله مؤلفات في هذا الصدد، أبرزها "أحوال الأمن في مصر المعاصرة"، و"البوليس المصري 1922 - 1955"، و"مجتمع القاهرة السري 1900 - 1950"، و"البلاط الملكي ودوره في الحياة السياسية من إسماعيل إلى فاروق".

تعاون العصابات

في التاسعة من صباح يوم 18 مايو/ آيار 1944 دخل ثلاثة أشخاص يرتدون الملابس الأوروبية إلى فرع البنك الأهلي في مصر الجديدة، وصوبوا أسلحتهم ناحية الموظفين والعملاء، وسرقوا من أدراج المصرف مبلغ 6810 جنيهات، ثم لاذوا بالفرار في سيارة.

انتشرت أثناء الأزمات الاقتصادية في مصر "الجرائم التافهة"، التي يرتكبها أشخاص ليس لهم أي سابقة جريمة، ولكن في هذه الأيام برزت ظاهرة جديدة، الجريمة الأسرية حيث يتهم الأخ أخيه أو ابن عمه بجرائم، وزادت قضايا السرقات والنصب في المحاكم بشكل غير مسبوق

كانت تلك الجريمة الأولى من نوعها في مصر، إذ لم تشهد الدولة جريمة متطورة إلى هذا الحد، وبعد القبض عليهم بمعرفة البوليس الحربي البريطاني والأمريكي، تبين أن أحدهم مصري والآخرين يونانيون.

وفي 31 مارس/ آذار 1925 ألقت الأجهزة الأمنية القبض على مصري يُدعى عبد القادر، كان يترأس عصابة لتزوير الأوراق النقدية من فئة "الجنيه"، وكان التزوير بارعاً، ومن الصعب كشفه، وبعد التحقيق تبين أن العصابة تتبع مجرماً أوروبياً شهيراً يُدعى "كاندولياك"، ويقيم في الإسكندرية، ويحوز مطبعة للأوراق النقدية، وعصابته هي جزء من عصابة كبيرة تعمل بين مصر وأوروبا، في إيطاليا تحديداً، وضمت مصريين بين أفرادها.

لماذا تكثر جرائم السرقات في مصر؟

في 2017 ألقت الأجهزة الأمنية القبض على متهم كان يسرق الشقق السكنية في التجمع، حي راق في القاهرة، بأسلوب ذكي.

كانت لديه القدرة على تغيير "قفل" الشقة في 15 ثانية. فيدخل ويغلق الباب ويسرق بحرية، وإذا حدث وفوجئ بأهل المكان كان يقنعهم بأنها شقته وأنهم أخطأوا في العنوان، ويتحول الجدال في النهاية من السرقة إلى "منزلي أم منزلكم".

وكانت لديه القدرة كذلك على إقناع حراس العقارات بمساعدته على نقل المشغولات التي يسرقها بعد إيهامهم بأن أصحاب الشقة أقاربه، وطلبوا منه ذلك. واستطاع بذلك سرقة أكثر من 80 مليون جنيه قبل أن يقع في قبضة الأمن بسبب خطأ بسيط، إذ التقطته إحدى كاميرات المراقبة.

لم يكن هذا المتهم في حاجة إلى الاحتكاك بثقافات أخرى لينقل الجريمة إلى مستوى آخر. لكن هناك آخرين بحاجة إلى ذلك.

عن أحوال الجريمة هذه الأيام، يقول المحامي أحمد عنتر إن حجم القضايا في الستة أشهر الأخيرة تضاعف، خاصة فيما يتعلق بجنح السرقات والنصب، تحديداً في المناطق ذات الدخول المنخفضة، مثل أحياء بولاق وامبابة في القاهرة، يقول: "قبل كدة الرول في المحكمة كان بيشتغل على 60 قضية بالكتير في اليوم، لكن دلوقتي أكتر من 150 قضية".

وأضاف عنتر أن هناك أناساً لم يسبق لهم ارتكاب مثل تلك الجرائم وباتوا متهمين فيها، خاصة فيما يتعلق بالسرقات والنصب، وأوضح أن هناك فئة إضافية ظهرت، وهي "النصب الأسري"، كأن يتهم شخص صديقه أو ابن عمه أو قريباً له بالسرقة أو النصب، وهو أمر لم تعهده المحاكم من قبل، وكل ذلك بسبب زيادة الفقر.

في آخر تقرير لمؤشر الجريمة العالمي "نمبيو" احتلت مصر المركز الرابع عربياً من حيث معدل الجريمة عام 2022، بعد الصومال وليبيا والجزائر.

وهو مؤشر يعتمد على معايير متعددة كجرائم القتل والسرقة والسطو والاغتصاب، وسجلت جريمة السرقة بالإكراه وحدها زيادة بلغت 350% بنحو 2611 جريمة.

الزيادات في حوادث السرقة بدأت من بعد التعويم الأول في 2016، بحسب المركز القومي للبحوث الجنائية، حيث ارتفعت جرائم السرقة في 2016 بنسبة تزيد على 29% بسبب ارتفاع الأسعار، وبالإضافة إلى وجود 92 ألف بلطجي ومسجل خطر في مصر، فإن فئات جديدة لم يكن لها أي علاقة بالإجرام دخلت على خط الجريمة. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard