شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لا تقولوا

لا تقولوا "طبقة وسطى" بل "طبقة الأسماك الصغيرة"… مانفيستو صلاح عيسى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 17 أكتوبر 202202:35 م

في التاسع والعشرين من آب/أغسطس 1987 وفي أحد شوارع مدينة لندن، أُطلق الرصاص على المناضل ورسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. في ذلك الوقت بالقاهرة، كان الكاتب الصحافي صلاح عيسى على وشك إصدار كتابه "تباريح جريح"، الذي ضم مجموعة من أروع مقالاته في جريدة "الأهالي" المصرية في فترة الثمانينيات.

عندما قرأ عيسى خبر وفاة ناجي العلي ما كان منه إلا أن استرد مخطوطَ الكتاب قبل طباعته، ليقرأه ويكتشف أنه "أحد بيانات الحناظلة العرب"، نسبة إلى "حنظلة"، أشهر شخصيات ناجي العلي، وأن ناجي هو أولى الناس بأن يُهدي كتابه إليه، مرثياً بذلك الإهداء ليس ناجي العلي وحده، ولكن جيل الستينيات بأكمله.

الحلم

ما يميز كتابة عيسى في هذه المقالات، ليست موهبته الفذة ككاتب صحافي، وسعة اطلاعه، وآراؤه المتعلقة بشيء من السياسة والأدب والفن الجديرة حقاً بالقراءة والاشتباك معها، ولكن أيضاً طابع الشجن والأسى، وإن مزج في أحيان عديدة بين ذلك الشجن والسخرية، وفقاً لما يخبرنا به تكملة عنوان الكتاب "شرّ البلية ما يضحك وأوجع الضحكات ما ينتهي بالدموع".

ربما تنبع مسحة الشجن تلك من انتماء صلاح عيسى نفسه لجيل الستينيات، الذي ولد ما بين منتصف الثلاثينيات، حيث شبح النازية يحلق في سماء أوروبا، ومنتصف الأربعينيات، حيث وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.

حسن سبانخ بطل "الأفوكاتو" مثله مثل عيسى ينتمي إلى هذه الطبقة الوسطى أو التي أسماها "طبقة الأسماك الصغيرة"، التي تعج بها البلاد، وتجاهد بالأظافر والأنياب لتجد موضعاً لها في بحر الحيتان الكبيرة، طبقة الأغنياء الجدد، وشخصيات مراكز القوى

إن كنتم ممن شاهدوا ملحمة "ليالي الحلمية" التي كتبها أسامة أنور عكاشة، فأنتم بالتأكيد تتذكرون شخصية علي البدري. من بين جيل الأبناء تميز علي البدري برومانسيته الحالمة، وحماسه الكبير للتجربة الناصرية، على عكس أخيه عادل البدري، ابن ناظك السلحدار، سليلة العائلة الأرستقراطية، وصديقه ناجي السماحي، الذي كان لديه تحفظاته على الحكم الناصري.

يقول عكاشة في أحد حواراته: "كلنا هذا العلي البدري"، فهذه الشخصية قد كتبها رثاءً لجيل الستينيات الذي ينتمي إليه عكاشة نفسه. جيل عاش ذروة الحلم الناصري بعد أن تفتح وعيه، ما كان يحلم به الجيل السابق حققه، ربما منذ أن استمع في مراهقته إلى عبد الناصر وهو يلقي خطبة التأميم في 1956، حتى ظن، كما يقول صلاح عيسى، أنه الجيل الذي سيشهد نهاية النكبة التي بدأت في 1948، ولكن بدلًا من ذلك شهد هذا الجيل تحطم أحلامه في 1967، وخاض هذا "التحول من معانقة الحلم إلى مكابدة الواقع".

هنا يكمن الشجن في هذه المقالات التي كتبها صلاح عيسى، بعد مرور أكثر من عشرين عاماً على أحلام الصبا والشباب، فنفس ذلك الجيل الذي ترنم في شبابه بأهازيج القومية العربية، وعايش التوجه الاشتراكي في الستينيات، سيشهد انهيار أحلامه في 1967، وفي سنوات انفتاح السبعينيات.

من رحم هذه التجربة خرج جيل الستينيات، كما ينعكس ذلك جلياً في كتاباته، ومنها هذه التباريح.

السجن

كانت تجربة المعتقل، الذي دخله صلاح عيسى عدة مرات في حياته، مليئة بالحكايات والسرديات المهمة التي ضمنها في كتاباته، بل إنه عندما اعتقل في 1968 بسبب مشاركته في مظاهرات الطلبة الشهيرة، كان قد بدأ في كتابة مؤلفه الشهير "الثورة العرابية" من داخل زنزانته.

وبعد اعتقاله أثناء حملة أيلول/سبتمبر الشهيرة 1981، لقي نفسه وسط أبناء جيل الأربعينيات والثلاثينيات، الذين شهدوا إضرابات العمال، ومظاهرات الطلبة في العقدين العاصفين.

في أكثر من موضع من الكتاب، تحدث عيسى عن هؤلاء الرجال الذين أسماهم "مناضلي الحرس القديم"، من أمثال فؤاد سراج الدين، وعبد السلام الزيات. كانت أحاديث صلاح عيسى مع هؤلاء الرجال، وتقربه منهم -خصوصاً في حملة أيلول/سبتمبر- ربما لها أثرها في كتابه "شخصيات لها العجب"، الذي احتوى على بورتريهات شخصية لسياسيين ذوي مشارب وتوجهات مختلفة.

خرج عيسى من المعتقل في 1967، ودخله مرة أخرى بعد أقل من سنة في 1968، وجُرح النكسة لم يلتئم بعد. وبينما يحاول أن يبحث له عن منفذ بين القضبان يمرّ منه بصيص ضوء من الخارج ليخفف من وطأة وحشته، يُفيق على مطلع قصيدة يدندنها أحدُ أصدقائه، كانت الجنائزية التي كتبها أحمد فؤاد نجم في رثاء "جيفارا"، وكانت هذه المرة الأولى التي يسمع فيها صلاح عيسى عن أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وبداية صداقته بالرجلين التي امتدت لسنوات.

العجز

من المعروف عن كتابات صلاح عيسى في التاريخ، وما يجعل كتاباته حتى في الموضوعات التي قُتلت بحثاً، سواءً في السينما أو الأدب، هو بحثه الدؤوب عما تعكسه هذه الحكايات على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو حتى الثقافي، تماماً كما يليق بصحافي أخذ يبحث عن حمامات القاهرة العمومية، ويسجل ما كتب على جدران هذه الحمامات ليلتقط هواجس المصريين ما بين 1967 حتى 1973.

لم يتخلّ عيسى عن عادته حتى في هذه المقالات، التي لا ترتكز على أساس واحد، فهي شذرات من التاريخ، وصفحات من الذكريات الشخصية أقرب إلى السيرة الذاتية. كل تلك الخطوط ترتبط ببعضها لتكون لوحةً يملؤها شجن، زخرت به نفسُ مثقفٍ مهموم ببلده، لم يحبس نفسه في برجه العاجي وشرنقةِ ذاته.

مثلاً، يفرد عيسى مقالاً كاملاً عن "الأيام"، درة أعمال طه حسين، ولأن عيسى كما عوّد قراءه في "رجال ريا وسكينة" و "أفيون وبنادق" لا ينظر إلى سيرة الشخصيات، أمثال ريا وسكينة، وخُط الصعيد نظرة جامدة مجردة، ولكنه يكتب عنها كأديب، يصنع روايته من شخصيات ذات لحم ودم، تنبض بالحياة.

يقول عن "الأيام" إنها ليست سيرة ذاتية فحسب، ولكنها وثيقة اجتماعية، حيث "أننا لا نستطيع أن نفهم الربع الأول من هذا القرن فهماً متكاملاً، في ظواهره السياسية والاجتماعية، وحياته الفكرية والأدبية إذا لم نقرأ الأيام".

وكما كان مقدراً لطه حسين الصبي الكفيف أن يعيش ويموت في قريته وسط الفقر والخرافة، كان أيضاً مقدراً للوطن أن يظل تابعاً منذ دكت مدافع بريطانيا حصون البلاد في يوم مقارب لليوم الذي ولد به طه حسين.

لكن بعد أربع سنوات من حصول طه حسين على أول دكتوراه من الجامعة المصرية، رُزق موظف بالبريد بمولود سماه "جمال عبد الناصر"، وبعد ذلك بشهور كان سعد زغلول يقود ثورة في سن الستين بدلاً من أن يبني مقبرة.

لذلك يرى عيسى أن حياة طه حسين ليست حياةَ شخصٍ تمرّد على عجزه، وفرض اسمه على العالم كله، ولكنه رمزٌ لتمرّد شعب بأكمله ضد "العجز" الذي فرضه عليه غزاته.

نهاية الطبقة الوسطى

لم يكن الانفتاح الذي حدث في السبعينيات على المستوى الاقتصادي فقط، ولكن على المستوى الثقافي أيضاً حدثت هزةٌ عنيفة، فبعد أن تآكلت الطبقة المتوسطة منذ منتصف السبعينيات، والتي كانت المستهلك الأول للفنون والآداب في الخمسينيات والستينيات، صعدت طبقة جديدة ذات ذائقة ثقافية أدنى، ربما بسبب تدني المستوى التعليمي والثقافي الذي حصلت عليه.

تروي درية شرف الدين في كتابها "السياسة والسينما في مصر" أن تلك الطبقة الآخذة في الصعود حديثاً بفعل الحراك الاجتماعي وبسطوتها المادية، استطاعت أن تزيح الطبقة المتوسطة الآخذة في الانحدار، والتي كانت المستهلك الأول للثقافة، فأصبحت السينما منذ منتصف السبعينيات استهلاكية، ذات أغراض تجارية في الأساس، لتفيد وتستفيد من طبقة الأغنياء الجدد.

لذلك، بعد موجة الأفلام ذات الطابع التجاري في السبعينيات، لم يكن غريباً على عيسى أن يحتفي في كتابه بفيلم الأفوكاتو (1983) لرأفت الميهي، أحد أهم مخرجي الواقعية الجديدة، فحسن سبانخ بطل العمل مثله مثل عيسى ينتمي إلى هذه الطبقة الوسطى أو التي أسماها عيسى في مقاله عن الفيلم "طبقة الأسماك الصغيرة"، التي تعج بها البلاد، وتجاهد بالأظافر والأنياب لتجد موضعاً لها في بحر الحيتان الكبيرة، من أمثال حسونة محرم، الذي ينتمي لطبقة الأغنياء الجدد، وسليم أبو زيد، أحد مراكز القوى.

ولأن عيسى مثقف الطبقة الوسطى، ينتمي إلى نفس طبقة حسن سبانخ (الأسماك الصغيرة)، فإعجابه بـ"الأفوكاتو" وصناعِه نابعٌ من تفكيرهم في السمك الصغير في سينما لا تهتم إلا بالحيتان.

عارضوه ولم يكرهوه

ظلت العلاقة بين جيل الستينيات وعبد الناصر علاقةً مركبة ومعقدة؛ كان عبد الناصر بالنسبة لأبناء ذلك الجيلِ الحالمِ بمثابة الأب، الذي يسقطون عليه أحلامهم وتحدياتهم، ولكن لأن حلمهم كان أعمق من حبهم كما يقول عيسى، فإنهم عارضوه، وكان معظمهم على يسار النظام، ولكنهم لم يكرهوه يوماً.

يقول صلاح عيسى إن خالد محيي الدين عندما توسط عند ناصر للإفراج عنه، قال له: "لن يخرج من المعتقل وأنا حي". هذا الموقف ظل يعذب عيسى لسنوات، وحين مات عبد الناصر بكاه بدموع لم يشعر بطعمها مرة أخرى إلا حين ماتت أمه... العلاقة الغريبة بين مثقفي الستينيات وعبد الناصر

بين السرديات المختلفة التي يرويها عيسى عن عبد الناصر في كتابه، يحكى عن تلك الليلة التي حدثه فيها أحمد فؤاد نجم، وألقى عليه قصيدته "زيارة إلى ضريح عبد الناصر". حينها أدرك عيسى أنه بعد مرور خمسة عشر عاماً من وفاة عبد الناصر لم يبق منه إلا ما يستحق الحب، لأنه كما يصفه نجم "فاجومي من جنسنا".

وفي موضع آخر، يقول إن خالد محيي الدين عندما توسط عند ناصر للإفراج عن عيسى، قال له: "لن يخرج من المعتقل وأنا حي". وهذا الموقف ظل يعذب عيسى لسنوات لأن عواطفه تجاه ناصر رغم كل شيء لم تفتر، وحين مات عبد الناصر بكاه بدموع لم يشعر بطعمها مرة أخرى إلا حين ماتت أمه.

ولعل أبرز ما يجسد هذه العلاقة بين جيل الستينيات وناصر، هي قصيدة "مرثية للعمر الجميل"، التي كتبها أحمد عبد المعطي حجازي بعد وفاة ناصر، واستعار عيسى كلماتها في صياغة مشاعره تجاه ناصر في ما بعد 1967:

من ترى يحمل الآن عبء الهزيمة فينا

المغني الذي طاف يبحث للحلم عن جسد يرتديه

أم هو الملك المدعي أن حلم المغني تجسد فيه...

هل خدعت بملكك حتى حسبتك صاحبي المنتظر

أم خدعت بأغنيتي...

وانتظرت الذي وعدتك به، ثم لم تنتصر

أم خدعنا معاً بسراب الزمان الجميل؟!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image