"نحن لم نرَ – ولا زلنا لا نرى حتى الآن – كيف سيساعدنا هذا البرنامج في عملية بحثنا عن ابنتنا" جملة قصيرة ولكنها بالتأكيد تحمل الكثير من المعاني، وهي إجابة متكررة يستخدمها والداي الطفلة مادلين ماكان، في معرض حديثهما عن إنتاج "نتفليكس" الجديد والذي يحمل اسم طفلتهما، والهادف إلى تسليط الضوء على نواحٍ عديدة منذ لحظة اختفاء مادلين في البرتغال عام 2007 حتى اليوم. ويضيف الوالدان خشيتهما أن "يعيق" الوثائقي مجريات التحقيق المستمر.
الوالدان لا يخشيان على الإطلاق إظهار عدم موافقتهما على نشر الوثائقي الذي أدرجته "نتفليكس" ضمن برامجها يوم الجمعة الفائت، فالعائلة رفضت الظهور فيه، أو مشاركة أي معلومات تملكها، رغم امتداده على ثماني حلقات تتضمن تفاصيل من مجريات التحقيق مع مقابلات مع محققين عملوا بشكل مباشر على القضية.
الوثائقي المذكور يبقى مثالاً بسيطاً – غير مرتبط بالجرائم بشكل مباشر بسبب عدم ثبوت حدوث عملية قتل حتى اليوم في قضية مادلين – يبقى مثالاً على هوس الشبكات التلفزيونية الأميركية والمشاهدين بشكل عام، بعالم الجريمة والمجرمين، إذ تُعرف الولايات المتحدة بكونها المُصدّر الأول لحكايات الجرائم المتسلسلة والمسلسلات والأفلام والوثائقيات، كونها تحمل لائحة طويلة من أسماء القتلة المتسلسلين الذين شكلت جرائمهم أخباراً هزّت العالم على مدى سنوات.
عودة قصص القتلة المتسلسلين إلى الواجهة
العالم إذاً مهتم بالقتل والقتلة المتسلسلين وبأي شيء يتعلّق بالأخبار المأسوية على حد سواء، وهو أمرٌ وإن كان مشكوكاً بصحته، أثبتته مؤخراً شبكات التواصل حيث أعلن "فيسبوك" عن إزالة 1.5 مليون فيديو انتشر من جميع أنحاء العالم للهجوم على مسجدي نيوزيلندا الذي حصل قبل أيام.
إلا أن الغريب في هوس متابعة الوثائقيات التي تفصّل حياة مجرمين وقتلة هو ردود الفعل التي باتت متكررة ومنتشرة بكثرة وجاء أبرزها على وثائقي "شرائط تيد باندي" التي تكشف مقابلات سجلها صحافيون ومحققون مع القاتل المتسلسل، واحداً من أكثر القتلة المتسلسلين دموية في الولايات المتحدة.
جاءت ردود الفعل على الوثائقي المؤلف من 4 حلقات لتخلق جواً من الجدل حول ماهية مشاهدة تلك الانتاجات وما إذا كان المشاهد سينحاز لجانب القاتل على الرغم من اعتراف الأخير بجرائمه.
لمَ الهوس بالقتل المتسلسل وإطلاق النار الجماعي؟
اهتمام المتابعين وتحديداً بعض النساء بالقتلة المتسلسلين أمرٌ دفع بشبكة "نتفليكس" لنشر تغريدة حذرت فيها من خطورة وجدّية ما يحصل وجاء فيها: "نحن نلاحظ أن عدداً كبيراً من الأشخاص يتحدثون عن تيد باندي بطرق تمدحه وتصفه بالجذاب، نود تذكيركم بأن هناك الآلاف من الرجال الوسيمين في مناصب رسمية وأمنية وهم غير مدانين بجرائم قتل واغتصاب، وليسوا قتلة متسلسلين، بعكس باندي".
تغريدة مثيرة للجدل صادرة عن الشبكة نفسها التي أنتجت الوثائقي لتعنون الحلقة الأولى باسم "الشيطان الوسيم" في وقت يتمحور الوثائقي حول نقطة أساسية هي "وسامة وسحر القاتل المتسلسل نفسه" الذي استطاع التلاعب بالنساء، والقضاة، والهرب خلال فترة سجنه مرتين، وارتكاب جرائم خلال تلك الفترة، والاستحواذ على تعاطف السّجانين – من الطبيعي جداً إذاً، أن يتمسك المشاهد بتلك الصفات لأنها الراسخ الوحيد الذي تذكرنا به الحلقات الأربع التي لا تكاد تذكر شيئاً عن تفاصيل النساء اللواتي نجحن بالفرار من إجرامه.
لم نحن منجذبون إلى المجرمين العنيفين الذين لا تبدو عليهم قدرة قتل أو تقطيع أحد؟ ولماذا يعطيهم شكلهم الجميل بطاقة خضراء لتفادي المتاعب إذ يحصلون على ما يشبه التمجيد؟
ينتقل حديث عالم الجريمة التلفزيوني من الحديث عن "وسامة تيد باندي"، إلى "جمال وسحر ومكر" شخصية "جو" في مسلسل فيكشن جديد عرض على "نتفليكس" مؤخراً بعنوان "YOU" وهو يركز بحبكته على شاب - كذلك اختار المنتجون ممثلاً وسيماً لأداء ذلك الدور - مهووس بفتاة التقى بها في المكتبة، ليخطط للقاءات مستحيلة تبدأ من تعقبه منزلها وسرقة هاتفها إلى افتعاله حادثاً يكاد يقضي عليها لولا "إنقاذه لها" ليبدو لقاؤهما "حتمياً". المشاهدون أيضاً أُغرموا بشخصية "جو" الذي يعتبر على أقل تقدير بحسب توصيف علم النفس "شخصية عدائية للمجتمع" -Sociopath.
ما الرسالة التي تحاول تلك المسلسلات إيصالها إذاً؟ الوسيمون معتلون اجتماعياً؟ كل وسيم قاتل متسلسل؟ احذروا من الشاب الوسيم؟ الخطر يحدق بكنّ؟
أم ألا رسالة منها، بل هي إنتاجات تحاول إجراء اختبارات على ردود فعل الجمهور المتابع؟ أم أننا فعلاً مهتمون لتلك الدرجة بفهم ودراسة أولئك المجرمين – حتى لو لم يكن ذلك متعلقاً بعملنا وحياتنا اليومية بشكل مباشر - في وقت تتربع منظمات متطرفة على عرش الاجرام في عالمنا اليوم لتصنّف هجماتها الإرهابية كأسوأ الجرائم دون التطرّق إلى "وسامة منفّذي الهجمات" أو "وسامة مجنّدي تنظيم داعش".
سؤال موازٍ يطرحه ستيفان ميششو، الصحافي الذي أجرى المقابلات المسجلة مع تيد باندي فيقول: "لم نحن منجذبون إلى المجرمين العنيفين الذين لا تبدو عليهم قدرة إيذاء أو قتل أو تقطيع أحد؟ ولماذا يعطيهم شكلهم الجميل بطاقة خضراء لتفادي المتاعب إذ يحصلون على ما يشبه التمجيد؟"
طبعاً نحن مهيّأون لذلك منذ نعومة أظافرنا، بحسب الكاتبة لورا إليزابيث ووليت التي تشرح في كتابها "حب رجل سيىء" كيف أن معظمنا يكبر خلال مشاهدة أفلام ديزني: قراءة القصص الخيالية التي تصوّر لنا الشخص السيىء على أنه بشع، وغير جميل أو جذاب أو مرتّب على الاطلاق، ويظن الشخص منطقياً بأننا مع تقدمنا في العمر سنصل لاستنتاجات واضحة عقلانية أن الشخص السيئ قد يكون وسيماً أيضاً، إلا أن الجدالات الأخيرة بيّنت عكس ذلك، فمعظم المتابعين غير مقتنعين على قدرة شخص جذاب، القيام بجريمة قتل متعمدة، وهو تفصيل سنغوص بتفاصيله أكثر خلال سلسلة علم الجريمة على رصيف22.
هذه المفارقة ليست وليدة عام 2019 على الاطلاق، فالأمر بدأ منذ لحظة تنفيذ تيد باندي جريمته الأولى، شخصيته وشكله الخارجي عكسا نوعاً من الراحة لكل من تعرّف عليه، وهو أمر ساعد، بحسب المحققين على تسهيل تنفيذ باندي لجرائمه، التي كانت ضحيتها نساء جامعيات معظم الوقت، في فترة السبعينات، حيث كان المجتمع الشاب ميالاً للتحرر والانطلاق والذهاب الى الجامعات والسهر لأوقات متأخرة واستقلال سيارات مع غرباء – أتت جرائم باندي لتثبت أن المجتمع ليس آمناً على الاطلاق.
وعلى الرغم من إدانة باندي، فإن سحره امتد إلى السجن فكان معروفاً بعدد رسائل المعجبات خلال فترة سجنه، مع تعمّد عدد كبير منهنّ حضور جلسات الاستماع والمحاكمات، فقط لرؤيته.
الإعلام لم يساعد أيضاً يومها، فالكاميرات نفسها باتت مهووسة بباندي لتكون محاكمته الأولى تاريخياً التي تنقل على شبكات التلفزة، ما سمح له بالتحول لشخصية عامة وهو أمر أحبه القاتل النرجسي.
سحر تيد باندي امتد إلى السجن فكان معروفاً بعدد رسائل المعجبات خلال فترة سجنه، مع تعمّد عدد كبير منهنّ حضور جلسات الاستماع والمحاكمات، فقط لرؤيته.
هوليوود رسّخت الفكرة ووسعت دائرة الجدل
تستمر دائرة تمجيد القتلة ولو بشكل غير مباشر مع اختيار هوليوود لـ زاك آفرون، الشاب الوسيم، ممثل شبكة والت ديزني سابقاً، لأداء دور تيد باندي في فيلمه الجديد، إلا أن الخيار وبشكل غريب لم يزعج واحدة من ضحايا باندي التي نجت من هجوم نفذه في ولاية يوتاه الأميركية.
تقول روندا ستابلي في مقابلة لها إن اختيار آفرون لأداء الدور "ليس بالضرورة خطوة سيئة"، وعندما سُئلت عما إذا كانت تزعجها فكرة تقديم باندي كمادة جذابة أو جنسية حتى تقول "كلا، لا يزعجني ذلك لانه كان هكذا الى حد ما".
ولكن اختيار ممثلين وسيمين لأداء أدوار قتلة لا يعني بالضرورة أن تلك الخيارات خاطئة، فقد رأينا ذلك أيضاً في مسلسل "ديكستر" الذي يؤديه الممثل مايكل سي هال، وكذلك في "ذا فال" الذي يؤدي فيه عارض الأزياء السابق جايمي دورنن دور القاتل، الإشكالية ليست في خيارات شركات الإنتاج للمثلين، لأن هدفها أيضاً جذب المشاهد سواء كانت القصة حقيقية كقصة تيد باندي أو من نسج الخيال، الإشكالية الحقيقية تترسخ في مستويات شهية المشاهد واهتمامه الزائد بتلك الشخصيات تحت مسمى "محاولة فهم عقلية القاتل" – تقول الكاتبة سوزين موور في محور حديثها عن أخطاء هوليوود وانجذاب النساء للقاتل.
فهل باتت قصص القتلة المتسلسلين قصص Fiction من الماضي نلجأ إليها بسبب دموية ما يحصل اليوم؟
الإشكالية الحقيقية تترسخ في مستويات شهية المشاهد واهتمامه الزائد بتلك الشخصيات تحت مسمى "محاولة فهم عقلية القاتل"
مشاهدة برامج ومسلسلات ووثائقيات الجريمة بشكل مكثف لا تختلف كثيراً عن متابعة الأخبار المتعلقة بالموت والإرهاب بشكل متتالٍ لـ 24 ساعة على سبيل المثال، بحسب جويونغ لي - محاضر معاون في قسم علم الاجتماع في جامعة تورونتو، كندا.
ويشرح لي كيف تمنح تلك البرامج الجمهور – ولو بشكل غير مباشر إحساساً حقيقياً بأنه باستطاعتهم المساعدة في فهم وحل تلك القضايا خلال جلوسهم في منازلهم دون التعرض لأي خطر حقيقي، حيث يشعرون أنهم يستطيعون المساعدة في كشف خفايا القضية، ويشكلون جزءًا نشطًا من التحقيق ولو في مخيلتهم فقط: "قد نواجه صعوبة في الابتعاد عن تلك البرامج، ولكن مشاهدتها بكثرة قد يسبب نوعاً من الضغوط النفسية للمتابع". بالإضافة إلى ذلك يخشى لي أن يؤدي الإفراط في استهلاك ذلك المحتوى إلى تطبيع الجريمة، وتحويلها إلى موضوع عادي يسهل تداولها والتعامل معه ما قد يغيّب خطر الجريمة بحد ذاتها على المجتمع، لذا برأيه تلك البرامج تصنّف كسيف ذي حدّين.
تمنح تلك البرامج الجمهور ولو بشكل غير مباشر إحساساً حقيقياً بأنه باستطاعتهم المساعدة في فهم وحل الجرائم خلال جلوسهم في منازلهم دون التعرض لأي خطر حقيقي
الجريمة بشكلها الحالي وبطرق تقديمها على الشاشات تعتمد بشدة على استغلال تفاصيل الجرائم المروعة، خاصة تلك التي ترتكب ضد الأشخاص المهمشين أو النساء. وهي تفاصيل تغذّي فضولنا كبشر، وتبعدنا عن التفاصيل غير الظاهرة والتي يجب أن تكون أولوية في معرض مشاهدة تلك الانتاجات، فعوضاً عن محاولة فهم القاتل وعقليته وما دفعه لتنفيذ تلك الجرائم - لأننا قد لا نستطيع الوصول إلى ذلك أبداً في بعض القضايا وقد لا يتوقف القتل في الحياة بشكل عام بسبب مسلسل أو وثائقي - عوضاً عن ذلك، علينا استغلال ما تقدمه لنا تلك الانتاجات لمحاولة فهم الأنظمة والقوانين التي تسمح لتلك الجرائم بالحدوث أو الاستمرار على الرغم من وجود مؤشرات عديدة بإمكانية حصولها، وإذا كان الكتّاب والمنتجون وهوليوود مصرين على الاستمرار بسرد قصص حول القتل والجريمة والقتلة المتسلسلين، فنحن بحاجة لإحداث تغيير حقيقي وأساسي في طريقة حديثنا عن تلك الانتاجات وما يُستخلص منها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 14 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت