تندرج هذه المادة ضمن ملف الطريق إلى إيران، في رصيف22.
كان الإيرانيون يطلقون على شارع لاله زار (Lalehzar) "شانزليزيه طهران"، فيتسعكون به وكأنهم وسط باريس، وقبل أن يصل إلى المكانة المرموقة من الحداثة لدى أهالي العاصمة، كان بستاناً مليئاً بالأشجار وأزهار التوليب في شمال المدينة (ومن هنا أخذ الشارع اسمه؛ لاله: التوليب بالفارسية)، وكان يقصده الأمراء والقادة والأعيان وأسرهم للنزهة، وتستخدم تلك المساحات الخضراء أحياناً لإقامة بعض ضيوف الملك الدوليين.
"خرجنا إلى المدينة، وتوقفنا عند بستان لاله زار... ولأن النساء تعودن خلال هذه السنوات الحضور في البستان دون أزواجهن لقضاء عطلة سيزدَه بِدَر (آخر يوم من عطلة عيد النوروز)، فأنا أيضاً آتي وأمرّ من وسط البستان بالعربة"؛ هذا ما جاء في مذكرات ناصر الدين شاه القاجاري، رابع ملوك السلالة القاجارية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
مع ازدياد سكان طهران، أصبحت منطقة "لاله زار" الخضراء، تحيطها البنايات والقصور، وبدأت تصغر مساحتها شيئاً فشيئاً، وبعدما زار ناصر الدين شاه فرنسا، وتجول في شارع الشانزليزيه، أراد أن ينشئ شارعاً يذكره بباريس ولكي يقضي الإيرانيون فيه أوقاتاً سعيدة
بعد ذلك قرر الشاه أن يمنح جزءاً من البستان إلى ديوان القضاء في عام 1886، ثم أمر بإنشاء حديقة الحيوانات فيه، فجمع بها الأسود والفهود والأفيال التي أرسلتها عمّتُه من الهند.
مع ازدياد سكان طهران، أصبحت منطقة لاله زار الخضراء، تحيطها البنايات والقصور، وبدأت تصغر مساحتها شيئاً فشيئاً، وبعدما زار ناصر الدين شاه فرنسا، وتجول في شارع الشانزليزيه، أراد أن ينشئ شارعاً يذكره بباريس ولكي يقضي الإيرانيون فيه أوقاتاً سعيدة.
قرار الملك المصيري
جاء في يوميات الأمير عين السلطنة أن الملك حينما عاد من رحلته إلى أوروبا، جلس على كرسي في دكان الحاج علي أكبر بائع البلّور، في أحد الشوارع الملتصقة بقصره، وذهب يفكر ويخطط لمنطقة لاله زار كي يصبح ممرّها شارعاً كالذي تمشى فيه وسط باريس.
لم يتحقق أمل الشاه في حياته، ولكن بدأ المشروع في آخر عام من حكمه. ومع فراغ خزينة الدولة، قرر الشاه بيع أراضي بستان لاله زار لبعض الأعيان، "بعتُ في هذه الأوقات لاله زار ونجف آباد، لمساعدي رئيس الوزراء"، حسبما جاء في مذكرات الملك.
وكانت هذه النقطة هي الركيزة الأولى في إنشاء شارع تكثر فيه الفلل والقصور والمتاجر، وكان حينها وضع العاصمة طهران متردياً من حيث البناء والمرافق العامة والوجه الحضري.
مع بدء عملية البناء، اجتُثّت الكثير من الأشجار الباسقة القديمة، وماتت الزهور، وحلت الجدران الحجرية محلّ السياج الخشبي للحقول، فماتت أزهار التوليب إلى الأبد، لكن اسمها بقي حياً على الشارع الذي أخذ يضم المصارف والبعثات الدبلوماسية وعمارات التجار، بمظهر حجري وقرميدي ذي ملامح أوروبية وأنيقة، يرغب الكل في التسكع فيها لمشاهدة معالمها التي تطل على طرفي الشارع.
كنيسة للأجانب
أصبح شارع لاله زار الذي قررت الحكومة أن تبلطه بالقرميد، موقعَ الأغنياء والسفراء، وأذن الملك ببناء كنسية صغيرة ومدرسة كاثوليكية للأجانب الذين يقطنون هناك، مما يدل على مكانة الشارع لدى المقيمين.
نقرأ في كتاب "مذكرات عين السلطنة" في تاريخ 1911 : "خرجنا عصراً لنتمشّى في شارع لاله زار وهو شانزليزيه طهران في الوقت الحالي. كان مزدحماً وفيه نساء كُثر، وقد ازدادت المحلات... وهناك رجال جميلو الهندام ونساء كشفن عن وجوههن برغبتهن".
"كالمعتاد ذهبنا إلى شارع لاله زار، فالتسكع فيه مساءً بات أوجب الواجبات على سكان المدينة"، حسب قول الأمير عين السلطنة عن مكانة الشارع لدى المجتمع.
ولأن الشارع كان في أصله بستانَ أزهار، احتضن لاله زار، أول متجر لبيع الأزهار في إيران، تزامناً مع ظهور مهنة بيع الأزهار في أوروبا والإمبراطورية العثمانية. ووفقاً لما جاء في كتاب "طهران القديمة" فإن محل بيع الأزهار المسمى "Jerzyk"، للمواطن الأرمني Jerzyk Abrahamian افتتح في عام 1931.
وبات يتطور ويتحدث الشارع شيئاً فشيئاً مع تقدم الزمن، فضم متاجر للمجوهرات والصرافين والمصورين والمطاعم الحديثة، وأصبح موقعاً لتسكع المتجددين من الأسر الإيرانية، وكذلك قصده البسطاء من المواطنين لكي يروا وجهاً آخر لطهران يختلف تماماً عن روتين حياتهم فيها، فبات المشي في لاله زار أو الشراء من محلاته موضة لدى الإيرانيين.
كتب طبيب السفارة اليابانية عام 1934 في مذكراته: "ركبت يوماً مع الأستاذ آشي كاغا العربةَ، وذهبنا نتجول في شارع لاله زار، فكان مزدحماً حينها".
"التسكع فيه أوجب الواجبات"
"كالمعتاد ذهبنا إلى شارع لاله زار، فالتسكّع فيه مساءً بات أوجب الواجبات على سكان المدينة"، حسب قول الأمير عين السلطنة عن مكانة الشارع لدى المجتمع.
استمر الاهتمام بالشارع أكثر فأكثر، فدُشنت فيه المكتبات التي تجلب أحدث الكتب الإنكليزية والفرنسية، ودور السينما التي تعرض الأفلام الأمريكية والبريطانية، ومعارض للصور والرسم، وفنادق ومكاتب للفنانين الإيرانين، ومقاهٍ وملاهٍ تقدم أشهى أنواع النبيذ في العالم، ومطاعم الساندويش والبيتزا، ومتاجر لماركات أجنبية من حلوى وأقمشة وملابس. فلاله زار كان شارع إيران الأهم، والوجهة السياحية الأولى في الخمسينيات والستينيات.
وجاء في كتاب الرحالة السويدية الكونتيسة ماديفون روزين (Countess Madefon Rosen): "يقضي الدبلوماسيون والأجانب المقيمون في طهران ساعات العصر في شارع لاله زار، للتبضع وشراء الأدوات التراثية منه".
ليالي لاله زار أصبحت مليئة بالحفلات الغنائية، والراقصات والفتيات الجميلات، وذاع صية المغنية الإيرانية كوكوش (Googoosh)، بعد أن غنت لسنوات على مسارح هذا الشارع، وهكذا كان الحال بالنسبة لبقية الفنانيين إذا ما طمحوا إلى سمعة مدوية في البلاد. كما غنت فيه فرق موسيقية غربية، وزاره مخرجون وممثلون سينمائيون كثيرون في تلك الأوقات.
في لحظة انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، ضاع حلم ناصر الدين في تشييد رمز الحداثة الإيرانية، فأحرق الثوار الغاضبون من ترف الطبقة البرجوازية ومن "الفسق والفجور" حسب قولهم، دور السينما والملاهي والمسارح في هذا الشارع
وفي السبعينيات تم تصوير بعض الأفلام السينمائية في شارع شانزليزيه طهران، ليروَّج له بأنه الشارع الأمثل والأرقى والأفضل في البلاد. خلق لاله زار رمز الحداثة الإيرانية، أجمل اللحظات والذكريات بالنسبة للكثير من الإيرانيين.
وما توصل له الشارع من مكانة مرموقة لدى الإيرانيين وضيوفهم الأجانب في منتصف القرن العشرين، هو تحقيق لأمل ناصر الدين شاه حينما كان يتسكع بشارع الشانزليزيه في باريس، ويبحث عن نسخة إيرانية له في طهران في نهاية القرن التاسع عشر.
ثوار يحرقون لاله زار
في لحظة انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، ضاع حلم ناصر الدين ومن جاء بعده في تشييد رمز الحداثة الإيرانية، فأحرق الثوار الغاضبون من ترف الطبقة البرجوازية ومن الفسق والفجور حسب قولهم، دور السينما والملاهي والمسارح ومكاتب الفنانين، كما تغيرت الكثير من مظاهر الشارع في سبيل أسلمة المجتمع والنظام الإيراني.
عند نهاية القرن العشرين، ومع حدوث التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فقد لاله زار مكانتَه، وبات شارعاً كغيره من الشوارع في العاصمة يضم مئات المحلات الصغار لبيع الأدوات الكهربائية، وبعد سنوات طويلة اهتمت بلدية طهران من جديد بإعادة تأهيل لاله زار كموقع سياحي يتفقده بعض المارة.
برغم هذا لم ينس الإيرانييون شارعَهم العزيز، وما زال يذكّرهم بالمسارح والموسيقى والرقص والملاهي، وما زال الشعراء والمغنون ينشدون الشعر ويغنون له.
وحرصت وزارة الثقافة على محاكاة شارع لاله زار القديم وما يضمه من مرافق عامة وخاصة في المدينة السينمائية بطهران، ليكون الموقع الأول بالنسبة للكثير من المسلسلات والأفلام التي تعكس فترة ما قبل نظام الجمهورية الإسلامية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...