"في الكتب ستجد أسماء الملوك... فهل حمل الملوك كُتل الأحجار؟ وبابل التي دُمّرت مرات عديدة... من شيّدها كل هذه المرات؟ أين ذهب البناة ليلة اكتمال سور الصين؟"؛ تلك الكلمات للشاعر الألماني بريخت، ينتقد فيها غياب ذِكر أحوال الناس العاديين عن كتب التاريخ، وهي أفضل مدخل لمؤلفات خالد فهمي، المؤرخ المصري وأستاذ التاريخ في جامعات غربية عدة، وقد عرفته في البداية من خلال كتابه الشهير "كل رجال الباشا"، ثم تابعت ما يكتبه ويقوله عبر لقاءاته، وبعد سبع سنوات من المتابعة، أستطيع القول إن هذا الرجل لا يوضح لنا مواقف الناس العاديين في المراحل التاريخية فقط، بل يعيد صياغة التاريخ المصري الحديث الذي نعرفه أيضاً.
قبل توضيح كيف يحدث ذلك، أعود إلى مصادر التاريخ المصري الحديث التي يمكن تصنيفها في ثلاثة أقسام؛ أولها المؤرخون "الحياديون"، وهؤلاء دوّنوا ما حدث في عصرهم أو في عصور سابقة لهم، لكنهم سردوا الأحداث كما هي حتى وإن متناقضة، وبالطبع خلت مؤلفاتهم من أي تحليل أو رؤية للمواقف، وهذا نجده واضحاً في كتب عبد الرحمن الرافعي، وأحمد شفيق باشا، وأحمد زكريا الشلق وغيرهم.
الأمر نفسه نجده في سلسلة حلقات "هزيمة يونيو المستمرة"، التي بثها عبر يوتيوب مؤخراً، والتي كالعادة قدّم فيها رؤيةً جديدةً لما حدث في يونيو 1967
القسم الثاني يضم السير الذاتية التي كتبتها شخصيات شاركت في صنع الأحداث الكبرى، وتلك السير مهما سعى كاتبها إلى الدقة والموضوعية، فتفتقد في النهاية الصورة الكاملة، وتُكتب من منظور ذاتي ورؤية شخصية، ناهيك أنها لا تتحرى المنهج العلمي في الكتابة، وأبرز دليل على ذلك مذكرات أعضاء الضباط الأحرار الذين قاموا بثورة 23 تموز/ يوليو 1952. أما المصدر الثالث فهي الكتب التي اعتمدت على أرشيف الصحف والسينما أو بعض الأحداث التي يتم التركيز عليها دون غيرها، كما فعل الراحل صلاح عيسى، وهي مؤلفات تمنحك معرفةً بالعصر لكن لا تستطيع أن تدفعك لامتلاك رؤية بعينها.
من خلال تلك المصادر الثلاثة، عرفت تاريخي، أنا ومصريون كُثر، واتخذنا مواقف على ضوء ما توفّر لنا فأحببنا من أحببنا وكرهنا من كرهنا، وهنا جاء دور الدكتور خالد فهمي. ففي الوقت الذي رأى معظم المصريين أن محمد علي هو باني نهضة مصر الحديثة، يقول لنا "فهمي" في كتابه " كل رجال الباشا"، إن الصورة ليست ناصعةً إلى هذا الحد، وإن المصريين لم يطيعوا الأوامر طاعةً عمياء، فقد هربوا من التجنيد، وتحايلوا على القوانين، كما تعرضوا لاضطهاد وجرائم وحشية ونُكّل بهم في بعض الأحيان، كما يشكك في أسطورة أن محمد علي كان يريد الاستقلال بمصر عن الدولة العثمانية منذ البداية، ويرى أن والي مصر كان هواه عثمانياً لسنوات طويلة، والأهم في رأيي أنه سرد أخيراً أحوال الناس العاديين في وقت مفصلي من تاريخ مصر، والأهم أيضاً أنه أوضح أن إنجازات محمد علي كان يمكن أن تتم بخسائر أقل ومعاملة أرحم.
التحليل الجديد لخالد فهمي لا يُبرّيء جمال عبد الناصر من كارثته الكبرى، لكنه يجعلنا نرى بعين أخرى عبد الحكيم عامر، الذي ظل لسنوات طويلة في صورة "الضحية" بسبب حادثة وفاته
الأمر نفسه نجده في سلسلة حلقات "هزيمة يونيو المستمرة"، التي بثها عبر يوتيوب مؤخراً، والتي كالعادة قدّم فيها رؤيةً جديدةً لما حدث في يونيو 1967، إذ إن الرؤية التقليدية للمصادر التي تناولت الحدث، وعلى رأسها مؤلفات محمد حسنين هيكل، لخّصت الهزيمة في فشل عسكري من عبد الحكيم عامر، وجريمة سياسية ارتكبها جمال عبد الناصر، بجانب عوامل دولية كانت تشير إلى أن الحرب حتمية. أما "فهمي"، فيذهب إلى نقطة أهم، وهي صراع "ناصر" و"حكيم" قبل نكسة حزيران/ يونيو 67، أساساً، والتي جعلت من الجيش المصري تحت سيطرة الأخير بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أن عبد الناصر حين أصدر قرار الحرب وقبل الانسحاب، لم تكن لديه أي سلطة على قواته التي يخوض بها المعركة، كما يوضح أستاذ التاريخ أن "عسكرة" الدولة المصرية ليست من صُنع عبد الناصر كما يعتقد البعض، بل هي من صُنع عبد الحكيم عامر.
هذا التحليل الجديد لا يُبرّيء جمال عبد الناصر من كارثته الكبرى، لكنه يجعلنا نرى بعين أخرى عبد الحكيم عامر، الذي ظل لسنوات طويلة في صورة "الضحية" بسبب حادثة وفاته، أو في أحسن الأحوال ظلّ قائداً لم يُحسن التصرف وقت الأزمة قبل أن يكشف لنا "فهمي" أنه ليس كذلك، بل كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، وقادنا إلى النكسة.
ومن النكسة إلى نصر أكتوبر 1973، استمر خالد فهمي في طريقه، ففي حلقته التي قدّمها مع الكاتب بلال فضل مؤخراً عبر يوتيوب عن حرب أكتوبر، يشير المؤرخ المصري إلى أن تلك الصورة البطولية للرئيس السادات كونه صاحب قرار الحرب، ليست دقيقةً، لأنه ببساطة لم يكن يملك غير ذلك، وأي فرد مكانه كان سيسير على النهج نفسه، لأن عدم استسلام جمال عبد الناصر بعد النكسة، وشنّه حرب الاستنزاف، رسمت الطريق الذي لن يستطيع أحد أن يحيد عنه، والدليل أنه بمجرد أن تأخرت الحرب عام 1972، أقيمت المظاهرات التي تطالب بتحرير الأرض.
بالتأكيد، اختلاف خالد فهمي، يعود إلى أنه لم يتعامل مع التاريخ كأحداث فقط، أو قصر دوره على التدويّن، لكنه أخضع الأحداث للتحليل والفهم وقدّم رؤيته التي ابتعد فيها عن ثنائية "الحب والكراهية"
بالتأكيد، اختلاف خالد فهمي، يعود إلى أنه لم يتعامل مع التاريخ كأحداث فقط، أو قصر دوره على التدويّن، لكنه أخضع الأحداث للتحليل والفهم وقدّم رؤيته التي ابتعد فيها عن ثنائية "الحب والكراهية" و"تاريخ السلطة وتاريخ الشعب"، فقد ردد دوماً جملة "لا أريد أن أحب وأكره شخصاً... أريد أن أفهم كيف يُفكر".
وأخيراً، إذا كان مؤرخ واحد يستطيع إعادة تشكيل وعي كثيرين، فهل يدفعنا ذلك إلى إتاحة الفرصة للباحثين علّهم يكشفون لنا عما هو غامض ويساهمون في إعادة صياغة تاريخ نكتشف كل يوم أننا لم نعرفه حقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع