في أحد الأيام المشهودة من عام 639 هـ (1241م) أثناء حكم الملك الصالح نجم الدين أيوب، بيع كل أمراء مصر وكذلك نائب السلطنة، عبر مزاد أقيم على مرأى من الجميع. هكذا كان المشهد: وقف الأمراء في المزاد، مُجردين من الجاه والسلطان، والسلطات الواسعة التي ملكوها في أيديهم الباطشة، ليس ذلك فحسب٬ بل جُردوا أيضاً من أنفسهم، لأنهم بين ليلةٍ وضحاها، أصبحوا عبيداً لدى الشعب، بعد أن كانوا أسياداً.
يا لها من حادثة؛ لو أن أحدهم التقط صورة الأمراء العبيد، وهم واقفون محنيو الرؤوس، حتى لا تلتقي أعينهم في أعين عامة الشعب الذين جاءوا ليشاهدوا من أذلوهم وهم يباعون كالرقيق، بل لو أن أحدهم وثق ما حدث توثيقاً دقيقاً في هذا الزمن البعيد، وعرفنا أسماء أولئك الأمراء والأثمان التي عُرضت من جانب العامة لشرائهم وإشفاء غليلهم، لكنا حصلنا على مادة تصلح أن تكون فيلماً سينمائياً مثيراً، لكن توثيق هذه الواقعة جاء مختصراً في كتب المؤرخين، فلم يكن آنذاك اهتمام بتسجيل التفاصيل الصغيرة، بل كان الانشغال الأساسي ينصب على الواقعة المركزية، وأخبار الملوك والسلاطين، بصرف النظر عن الهامش الذي ربما يشكل متناً.
وقف الأمراء في المزاد، مُجردين من الجاه والسلطان، والسلطات الواسعة التي ملكوها في أيديهم الباطشة، ليس ذلك فحسب٬ بل جُردوا أيضاً من أنفسهم
هذه الواقعة المثيرة كانت واحدة من بين 180 حكاية رواها الكاتب والمؤرخ صلاح عيسى في كتابه الشهير "هوامش المقريزي... حكايات من مصر"، وتتناول الفترة الواقعة بين العصور الوسطى وثورة 1919، ويسلط فيها الضوء على مواقف وأحداث أغلبها غير معروف، تزود عقل من يقرأها بكل دلالات عصرها.
نصب المزاد "الذي ليس له مثيل في التاريخ" -كما يصفه المؤرخون- عبر فتوى أصدرها قاضي مصر والوجه القبلي الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكانت فتوى صادمة أثارت غضب الأمراء وارتباكاً لدى الملك الصالح، الذي حاول إثناء الشيخ عن فتواه، لكنه أصر عليها وأعلن أنه سينفذها وإلا فسوف يعزل نفسه من منصب القضاء ويترك هذه الفتوى قائمة في البلاد الإسلامية يعمل بها المسلمون، ويتصرفون على أساسها، وثار نائب السلطنة وهمَّ بقتل الشيخ، لكنه خشي ثورة العوام. فما هي أسباب هذه الفتوى العجيبة؟ ومن هو الشيخ عز الدين بن عبد السلام؟
لما تسلم الملك الصالح نجم الدين أيوب زمام الأمور بالديار المصرية، كان قد أكثر من شراء المماليك الأتراك والتركمان والأرمن والشركس وغيرهم، حتى أصبحوا إحدى تشكيلات الجيش الجديدة التي كان يتكوّن منها الجيش السلطاني الأيوبي، وبحسب الباحث محمد يونس فلح، فإن الملك الصالح قد اتخذ إجراءات عسكرية لتقوية الجيش الذي يترأسه منها اهتمامه بشراء المماليك والغلمان الأتراك بشكل مثير لم يُسبق له مثيل في تاريخ السلطة الأيوبية، حيث أضاف إلى الجيش دفعة واحدة ألفَ مملوك تركي من تركستان وشمال البحر الأسود وبحر قزوين،
وكان السبب الرئيسي لاعتماد الملك الصالح على المماليك هو خوفه من اجتماع الملوك الأيوبين ضده، أي تخوفه من غدر أهله الأمراء الأيوبيين وانقلابهم عليه. أما السبب الثاني فيرجع إلى ما اتصف به المماليك من شجاعة وإقدام في الحرب. وسرعان ما شكل هؤلاء المماليك نواة عسكرية سياسية تحولت إلى دولة المماليك البحرية، حيث تزايدت قوتهم ونفوذهم على السلطة في دولة بني أيوب.
أمراء يزعمون أنهم ملوك الأرض، ويتحكمون في شعب اشتراهم بأمواله، فظنوا أنهم اشتروه بأموالهم.
وبالعودة إلى ما رواه صلاح عيسى من تفاصيل حول هذه الواقعة، فقد ذكر أن الملك الصالح كان قد "منح المماليك إمارة بعض الأقاليم، وصاروا أصحاب الجاه والنفوذ على الرعية، لا يبالون في ذلك بطشاً ولا ظلماً يقع على الناس، وضج المصريون من مظالم المماليك وسرقاتهم وتحكمهم الغبي في أمور السلطة والسلطان".
وفي تلك الفترة وفد من دمشق إلى القاهرة بعد خروجه من المعتقل، الشيخ عز الدين بن عبد السلام (577هـ/1181م - 660هـ/1262م)، وكان هذا الشيخ فقيهاً خيراً وزاهداً، لُقّب بـسلطان العلماء، وبائع السلاطين، وله العديد من المواقف البطولية التي انتصر فيها للحق وللمستضعفين ضد جبروت الملوك. ومن بين هذه المواقف، مهاجمته لحاكم دمشق الصالح إسماعيل بن الكامل الذي تحالف مع الصليبيين وأعطاهم بيت المقدس وعسقلان وطبرية، ووعدهم كذلك بجزء من مصر. وقف الشيخ على المنبر بقوة وصلابة، مهاجماً السلطان بخطبته النارية، فأمر السلطان باعتقاله وعزله من منصبه كإمام للمسجد الأموي ومفتي دمشق.
ويحكي صلاح عيسى أن الملك الصالح استقبل الشيخ استقبالاً مهيباً، وبالغ في إكرامه، فولاه قضاء مصر والوجه القبلي "وقبل الشيخ المنصب، ووضع تقاليد رائعة له، وأصر على أن تكون كلمة الحق لا سلطة القوة هي الفاصلة بين الحاكمين والمحكومين".
كان فساد أمراء المماليك وظلمهم قد استشرى واستفحل في جميع الأقاليم المصرية، وكان من نتائج ذلك أن ازداد الفقر، وسيطر الخوف على قلوب الناس، وغطى الهم وجوههم. راقب الشيخ عبد السلام ما يحدث، وبحث الأمر فقهياً، حتى توصل إلى فكرة غريبة، تقول-بحسب ما رواه صلاح عيسى- "إن هؤلاء المماليك أرقاء للشعب المصري، ذلك أن السلطان قد اشتراهم بمال الدولة، وما زال حكم الرق سارياً عليهم، فيحق لبيت مال المسلمين أن يبيعهم إذا ما شكا نقصاً في موارده، واحتاج لثمنهم يسد به مطالب المسلمين. وكتب الشيخ الفتوى بهذا المعنى، وانتهى إلى ضرورة بيعهم وصرف ثمنهم في وجوه الخير ومصالح الأمة".
ثار الأمراء وامتلأوا غضباً وغيظاً، وحاولوا أن يثنوا الشيخ عن فتواه، فصمم عليها، وأعلن أن هؤلاء المماليك لا يصح لهم أي تصريف في أمور الحكم، فتعطلت مصالحهم وتوقفت أعمالهم. أما الملك الصالح فقد رأى أن هذه الفتوى ليست من اختصاص الشيخ عبد السلام، وعندما علم الشيخ بذلك قام بعزل نفسه من منصبه، مقرراً العودة إلى دمشق، فتجمهر أمام منزله عدد هائل من عامة الناس، والعلماء، والفقهاء لإثنائه عن الرحيل، ولما وجد الملك الصالح هذا المشهد، ذهب إليه هو الآخر لترضيته، ووعده بتنفيذ فتواه.
"هؤلاء المماليك أرقاء للشعب المصري، ذلك أن السلطان قد اشتراهم بمال الدولة، وما زال حكم الرق سارياً عليهم، فيحق لبيت مال المسلمين أن يبيعهم إذا ما شكا نقصاً في موارده، واحتاج لثمنهم يسد به مطالب المسلمين"
عُقد مجلس كبير من رجال الدولة، حضره السلطان والأمراء والعوام، وأخذ قاضي القضاة ينادي عليهم واحداً بعد الآخر، ويغالي في ثمنهم لأنهم أمراء يزعمون أنهم ملوك الأرض، ويتحكمون في شعب اشتراهم بأمواله، فظنوا أنهم اشتروه بأموالهم. وكما يروي عيسى "تقدم السلطان فاشترى أمراءه. ودفع أضعاف الثمن الذي اشتراهم به وقبض الشيخ عز الدين بن عبد السلام المال، وأعتق الأمراء. أما الثمن فقد صرفه الشيخ على وجوه الخير ومصالح المسلمين. وعاد الأمراء يتصرفون في أمور معايشهم، بعد أن تلقوا درساً جعلهم يكفون –إلى حين- عن ظلم العباد".
كان للشيخ الثائر دور كبير في معركة المنصورة، التي وقعت بعد تعرض مصر لحملة صليبية جديدة عام 1249م، بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، وكان من نتائجها هزيمة الصليبيين وأسر لويس التاسع في دار ابن لقمان. وتذكر بعض المراجع التاريخية أن العز بن عبد السلام، لم يتجلّ دوره فقط في إشعال الحماس في الجنود، بل كان أحد المحاربين في المعركة، وبجوار معركة المنصورة، كان دوره مهماً أيضاً في معركة "عين جالوت" ضد المغول، التي قادها سيف الدين قطز.
عاش العز بن عبد السلام، حياة غنية ومثيرة في مصر، وكان صديقاً مقرباً من القطب الصوفي أبي الحسن الشاذلي الذي قال عنه: "ما على وجه الأرض مجلس فقه أبهى من مجلس عز الدين بن عبد السلام". ومن أشهر مؤلفاته: "أحكام الجهاد وفضائله"، و"الغاية في اختصار النهاية". توفي العز بن عبد السلام عن عمر قارب الـ83 عاماً، ودفن في القاهرة في منطقة مقابر البساتين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...