شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ليس له إلا صورة واحدة ولم ير أحد قبراً له... الكاتب المغربي الذي اختفى

ليس له إلا صورة واحدة ولم ير أحد قبراً له... الكاتب المغربي الذي اختفى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 12 فبراير 202310:48 ص

بدأت القصة عندما كنت أبحث عن محمد شكري الذي قادني إلى بول بولز الذي ترجم له سيرته الذاتية "من أجل الخبز وحده". قضيت أعواماً أدرس هذه الشخصية إلى أن ظهر فجأة وأنا أقرأ سيرة بول بولز اسمٌ غريب: إدريس الشرادي. لاحظت أن شكري أيضاً ذكره في حواراته، وروى حياته إلى بول بولز الذي نشرها تحت عنوان "حياة مليئة بالثقوب"، نشرت الرواية سنة 1964، قبل ميلادي بعشر سنوات، ثم غادر إدريس الشرادي المغرب إلى أمريكا -تقول الأخبار القليلة،:إلى كاليفورنيا، وادي السيليكون-. هناك استعاد اسمه الحقيقي "العربي العياشي"، وأصدر روايتين بالإنكليزية: "العاشق الغيور" و"الأمس واليوم" في الثمانينيات.

لاحظت عبر محركات البحث في الإنترنت أنه خلافاً للرواية الأولى التي ظهر على غلافها اسم بول بولز، فإن الروايتين كانتا فقط تحت اسم "العربي العياشي". تساءلت ليلتها: ماذا يعني هذا؟ هل تخلى إدريس الشرادي عن بول بولز؟ هل تعلم الإنكليزية وصار يكتب بها؟ مضت عشرون سنة بعد صدور الرواية الأولى. صرت كلما أبحث عن هذه الشخصية أصطدم بأشياء متناقضة، فلا أحد يعرفه شخصياً، ولا التقاه يوماً، ولا تداولت له صور إلا صورة يتيمة بالأبيض والأسود سيئة جداً. ماذا يعني هذا؟ كنت أسال نفسي كلما تقدمت.

الشرادي شخصية متخيلة

هل وجد إدريس الشرادي من يروي له سيرته وقصصه كما فعل مع بول بولز دون وضع اسمه على الغلاف؟ أستاذ جامعي مغربي يشير في فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي إلى أن إدريس الشرادي شخصية متخيلة اختلقها بول بولز، وليس لها وجود. ثم يستدرك أن بول بولز قال إنه يملك التسجيلات التي روى فيها إدريس الشرادي سيرته بصوته. لكن الأستاذ يشكك فيها ويقول إن هذه التسجيلات قد تكون صحيحة، لكنها يمكن أن تكون لأي كان، فهذا عمل بول بولز لسنوات طويلة تسجيل قصص وخرافات من ناس أميين وتحريرها وترجمتها ونشرها بالإنكليزية.

ماذا يعني هذا؟ أين الشرادي الآن؟ قادتني الأخبار إلى أنه مات. مات في سن الخمسين. تقول سيرته الهزيلة في الموسوعات إنه من مواليد سنة 1937 وتوفي سنة 1986. لكن لا أحد أيضاً رأى قبره ولا أحد حضر جنازته.

لا أحد يعرف الكاتب المغربي إدريس الشرادي شخصياً، ولا  أحد التقاه يوماً، ولا تداولت له صور إلا صورة يتيمة بالأبيض والأسود سيئة جداً. لا أحد أيضاً رأى قبره ولا أحد حضر جنازته. ماذا يعني هذا؟

تذكّرت مسرحية "الطلقة الثانية" لمحمد شكري وذلك القاتل المأجور "ماريو" الذي يدور حول "مستر كارّو"، الرجل المقيد ويعِده أن لا أحد سيعرف مكان قبره: "على بعد مائة متر من هذا المنزل سيكون لك قبر من ثلج. قبر لا ربوة له، لا علامة رأس ولا علامة قدمين. إنك ستموت دون أن تخلف وراءك أثراً. كطير يطير من شجرة أو كسمكة تسبح في الماء. مستر كارو!".

كانت فكرةُ أن يتذرى الكاتب في التيه الأبدي وألا يُعثر عليه قد سحرتْني. لم يسبق لكاتب قبله أن تذرّى هكذا؛ لم يُعرف إن كان وجد فعلاً أو لم يوجد أصلاً. أن تترك العالم في حيرة هو أرقى ما يمكن أن يطمح إليه الأدب.

أفتح الهاتف المحمول لأتأمل تلك الصورة بالأبيض والأسود.

رد فعل رسمي محتمل

قبل أيام قرأت للمخرج والكاتب الأمريكي شون غوليت ‏مقالاً يقول فيه إن الشرادي مع إصدار الكتاب باللغة الإنكليزية "بدأ يفهم خطورة ما اقترف من ذنب في اتهام النظام المغربي بالوحشية وبالظلم الاجتماعي والسياسي ومع اقتراب صدور النسخة الفرنسية من Gallimard عام 1965، تصاعد قلق الشرادي حول (رد فعل رسمي محتمل) من النظام الذي كشفه".

يقول الشرادي: "يحرمنا الله من الكذب، ولكن أحياناً يمنعنا الرجال من قول الحقيقة". اعتقد بول بولوز أنه من الأفضل له الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة، وغادر الشرادي مع ويليام س. بوروز على متن سفينة الاستقلال عبر المحيط الأطلسي، ولم يعد. توفي العربي العياشي في ولاية كاليفورنيا أواخر الثمانينيات.

هذا يعني أن الرجل غادر المغرب هرباً من التصفية، وأنه شعر بأن حياته في خطر. كلما عدت إلى ما كتبه محمد شكري لا أجد فيه أي نقد للسياسة، فأتساءل هل كان ذلك تجنباً لمصير إدريس الشرادي؟ كيف ظل شكري يعيش حراً طليقاً بينما يتساقط المثقفون في المغرب في قبضة السياسي وتأكلهم السجون والمعتقلات؟

لا يبدو أن الأمر مهم، لكن وجب أن أعي أن الشرادي، الرجل المذنب حتى في داخل ذهنه، سيظل يحمل ذلك الخوف طوال حياته. فهل غادر الولايات المتحدة لأنه شعر أيضاً بالخطر؟ هل غيّر اسمه خوفاً من الملاحقة؟ لكن الصحافة ودور النشر ربطت مباشرة بين صاحب "حياة مليئة بالثقوب "والكاتب الجديد "العربي العياشي" ولم تمنحه فرصة للتخفي. هل أراد الشرادي أن يقتل نفسه إعلامياً بالاختفاء؟ لماذا لا يكون قد واصل حياته في كندا باسم مستعار؟ صرت أقلب الكتب وأنظر في صور الكتاب وأتوقف عند الكتّاب الذين اعتقدتُ أنه في سنهم.

الوريث الشرعي للشرادي

عندما ظهرت كتب محمد مرابط، الوريث الشرعي للشرادي في مشروع بول بولز، والأمي الذي يحكي للكاتب والمترجم الأمريكي سيرته بالعامية ليحولها إلى كتب باللغة الإنكليزية كتب الطاهر بن جلون في جريدة "لوموند" ساخطاً ووصفه بالاغتصاب؛ "تقنية الاغتصاب" هكذا سماه. ذكّر بن جلون بقصة بول بولز مع الشرادي، ولم يشكك البتة في وجوده، لكنه شكك في انتماء المنجز إلى الأدب. واعتبر أنه ليس مكتوباً ولا شفوياً، ووصفه بـ"الأدب اللقيط". واعتبر أن المنجز سليل المانيتوفون أشبه بتحقيقات البوليس للمجرمين.

كتب بن جلون أن الشر لا يكمن في تلك التحولات في إنتاج النص عبر اللهجة المغربية نحو الإنكليزية ثم ترجمته الى الفرنسية، بل في مشروع بول بولز نفسه. بدا بن جلون يتذرّع بأن هذه صورة غير أصيلة لطنجة، وأنها في النهاية استيهامات الأمريكي عبر هؤلاء الأميين الفقراء. واعتبر تلك الشراكة كلها بنيت على باطل.

كانت فكرةُ أن يتذرى الكاتب في التيه الأبدي ولا يعثر عليه قد سحرتْني.

لماذا شعرت بالغبطة وأنا أقرأ مقال الطاهر بن جلون؟ هل لأني مقتنع بما قال أم لأني أشعر بالشماتة؟ نعم الشماتة الأدبية. لأن الطاهر بن جلون يبدو أنه قد أخرجه الأمر عن طوره. لقد استطاع هؤلاء الأميون أن يهزوا الأرض من تحته، ليس هو بالذات بل من تحت الكاتب؛ مؤسسة الكاتب. جعلوه يجنّ ويكتب ما كتبه بتلك النعوت الساخطة. فهذا الأمي صار ينشر جنباً إلى جنب معه في غاليمار. كتب بن جلون ما كتبه يوم 9 حزيران/يوليو 1972، وبعد عام فقط ظهر كتاب محمد شكري "من أجل الخبز وحده" بنفس الطريقة وعن نفس المترجم بول بولز.

بعد سبع سنوات ظهرت  ترجمة لكتاب شكري في منشورات ماسبيور في باريس بترجمة للطاهر بن جلون. أتذكر ذلك وأضحك وأنا أعيد مشاهدة محمد شكري في برنامج "أبوستروف" محاطاً بالنقاد والكتاب الفرنسيين وهو يواجه برنار بيفو بكل تحدّ. هناك شيء كالشتيمة الصريحة في جلسة محمد شكري وإجاباته النافية وتعمده الحديث بالفرنسية التي قال إنه تعلمها من الشارع. هناك شيء من الهزيمة على وجوه الحاضرين. لقد نهب شكري اللغة الفرنسية التي يتبجحون بها من الشارع. التقطها من القمامة كما كان يلتقط طعامه. كل شيء كان يقول تلك الليلة: لقد مات المؤلف فعلاً يا رولان بارت. مات ذلك المؤلف القديم.

لكن هناك شيئاً ما لا يزال يقول لي إن الحياة المليئة بالثقوب لا يمكن أن تنتهي هكذا، فكل ثقب فيها هو فرصة نجاة.

هناك شيء ما بدأ يجعلني أنفر من محمد شكري قبل أن أقرر ملاحقة الشرادي. جاء العياشي أو الشرادي إلى طنجة كما شكري من الريف، ولكنه عرف السجن بعد أن قبض عليه وأمه في طريقهما إلى قرية جده دون ترخيص. لم تكن السلطات الفرنسية تسمح للمغاربة بالتحرك في المغرب دون سبب وجيه. في السجن يضبط الطفل الشرادي يبيع الحشيش، فيحكَم عليه بالسجن.

كان يعمل بائعاً متجوّلاً، وثمة أخبار أخرى تقول إنه كان يعمل في مقهى مهجور بعد خروجه من السجن عندما التقاه بول بولز. نشأت بينهما علاقة صداقة. وبدأ يتردد على بول بولز في منزله ويبدو أنه كان يؤمّن له الحشيش الذي تحدث عنه مطولاً في سيرته الذاتية وتجاربه عليه وقصص الحشيش مع جين. ويذكر بول بولز أنه أثناء أمسية من الأمسيات عرض عليه الشرادي رواية سيرته وبدأ التسجيل. وكان بول بولز معجباً بسلاسة حكي العياشي وانسيابيته مما جعله يصدق كل ما يرويه؛ "لم يكن الشرادي يتردَّد قطّ ... ولم يكن يغيِّر شدة تعبيره وطلاقة لسانه".

مات أبوه وتزوجت أمه، وبدأ الشرادي رحلة العذاب مع زوج أمه الذي رماه في الشارع قائلاً لأمه: "إذا كان لا يعمل ولا يحضر مالاً إلى البيت، فأنا لا أرى أي سبب للإنفاق على طعامه أو ثيابه". فكان الطفل يشتغل كما لو كان بالسخرة بينما يحوّل الأجر التي يكسبه إلى زوج أمه. كان هذا تقريباً ما رواه أيضاً محمد شكري في "الخبز الحافي" عن أبيه.

هل سرق شكري حياة الشرادي؟

هل سرق شكري حياة الشرادي؟ ألم يقل محمد المرابط أنه سرق سيرته وأن "الخبز الحافي" سيرته هو؟ أم أن الحياة وقتها هي نفسها تتكرر مع الجميع؟

أتصفح صور شكري الكثيرة وألتفت كل مرة إلى الصورة اليتيمة للعياشي. كان الشرادي -لا أدري لماذا أرى الاسم مستعار مناسباً له أكثر-، إذا كان فعلاً موجوداً، زاهداً في الشهرة وكان شكري متكالباً عليها.

بذّر شكري نفسه بحثاً عن أسطورة، بينما نجح الشرادي في أن يتحوّل إلى خرافة. حكاية مثل تلك الحكايات الشفوية التي كان يرويها لبول بولز. لقد كان كائناً شفوياً وصار حكاية شفوية تجوب العالم.

وصلتني نسخة من روايته "حياة مليئة بالثقوب"  A life full of Holles اشتريتها عبر الإنترنت. كانت نسخة منهوبة من مكتبة جامعة تكساس. كانت طبعة 1964، طبعة أنيقة مجلدة. بعد أيام وصلتني روايته "البارحة واليوم" التي نشرها سنة 1985، طبعة ورقية عادية. أقلب صفحات الأولى ثم الثانية باحثاً عن أي شيء. في الثانية لا وجود فعلاً لبول بولز،  لكن هناك قائمة طويلة بأسماء من ساعده في مراجعة المخطوط.

هل بين هؤلاء واحد يملك صورة للعياشي أو خبراً آخر عنه؟ هل يحتاج الأمر عملاً استقصائياً للبحث عن هذا الكاتب التائه؟

أفتح تسجيلاً لبرنامج على Art يظهر فيه محمد المرابط يقول ساخراً:

"لقد ماتوا جميعاً ومحمد مازال حياً"، ويختمها بضحكة أسطورية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image