ما نعلمه جميعاً، أن المناضلات والمناضلين لا يموتون أبداً. يترسخون في ذاكرة التاريخ التي نتناقلها نحن المواطنين، عبر الأجيال، فكيف إذا كانوا من طراز المناضلة اللبنانية النسوية الشجاعة ليندا مطر، التي تجذرت فيها النسوية ليس من مدارسها ولا من كتبها فقط، بل من رحم المعاناة التي جبلت فيها عبق النضال لمناهضة التمييز والعنف ضد النساء والمطالبة بالمساواة في الحقوق، وربما هذا ما جعل منها مناضلةً قريبةً من معاناة النساء، وملهمةً للكثيرات من المدافعات والمناضلات النسويات.
أمس، الجمعة 3 شباط/ فبراير 2023، رحلت ليندا مطر عن عمر يناهز 98 عاماً، قضت غالبيته وهي تناضل من أجل الاعتراف بأن "عقل المرأة كامل"، كما كانت تردد، متخطيةً فكرة المساواة بين الجنسين كتعريف أو عنوان عريض. كانت تُردد أن عمرها الحقيقي بدأ مع تحوّلها إلى مدافعة عن الوطن في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وعن المرأة في مواجهة العقل الذكوري السائد، وبقيت على نضالها ونشاطها حتى 3 سنوات مضت، حين أنهك العمر جسدها، فاختارت الابتعاد، لاستراحة أخيرة انتهت أمس.
بدأت مطر مسيرتها النسوية ضد الإجحاف الذي تتعرض له النساء والفتيات في عام 1951 وكانت تبلغ من العمر 28 عاماً، وهي التي عرفت منذ أن كانت بعمر 12 عاماً معنى الإجحاف والتمييز، حين اضطرت إلى العمل في معمل للجوارب، ومن بعدها في معمل للحرير، المكان الذي رأت فيه ما تعانيه المرأة في مجال العمل، من حيث الساعات الطويلة من الكدح المتواصل مقابل أجور زهيدة مقارنةً بأجور الرجال.
بدأت مطر مسيرتها النسوية ضد الإجحاف الذي تتعرض له النساء والفتيات في عام 1951
تتذكر مسؤولة فرع البقاع في لجنة حقوق المرأة، جورجيت عبدو، العديد من اللقاءات التي تم تنظيمها بحضور المناضلة مطر، وتقول لرصيف22: "لقد كان لآرائها وأفكارها تأثير كبير على النساء في منطقة البقاع، أذكر يوم قمنا بتكريمها وتنظيم لقاء لتوقيع كتابها في المنطقة. حضر هذا اللقاء أكثر من ثلاثمئة شخص حينها، معظمهم من النساء".
وتضيف: "لقد استمرت في المشاركة في الاجتماعات واللقاءات حتى الرمق الأخير، بالرغم من حالتها الصحية. لقد كانت شخصاً متواضعاً، وحكيمةً، بحيث كان لكلمتها أثر في النساء، إذ كانت تجلس معهن وتحدثهن عن حقوقهن. كانت مناضلةً مؤمنةً بحقوق المرأة وحقوق الإنسان. لطالما رددت أنها مستمرة بنضالها حتى لو لم تجد أحداً ليساندها، ستقف أمام المرآة وتردّد حقوقها. ما يمكنني قوله إنها امرأة استثنائية. كانت قدوةً لزميلاتها ولكل من عرفها".
في عام 2013، صدر كتاب ليندا مطر "مخطات من سيرة حياتي"، عن دار الفارابي، وفيه تروي ما مرّت به في سنوات كثيرة قضتها في ساحات مختلفة، ولهدف واحد: الإنسان.
"أنا مواطنة لبنانية أتيح لي خلال سنوات عمري أن أحصد رصيداً ثميناً لا يباع ولا يشترى. اكتسبته بفضل مدارس تلقنت منها احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه ومحاربة أسباب جهله وفقره ومرضه وتشرده، وصولاً إلى الإسهام الفاعل في مواجهة التحديات على مختلف الصعد"، هكذا ترى نفسها، وتعرّفها، في كتابها.
لقد حققت مطر العديد من الانتصارات الحقوقية التي كان أوّلها في العام 1953 في أولى مراحل نضالها، عندما أُقرّ حق المرأة في الترشح والتصويت وجعلت من الثامن من آذار/ مارس اليوم العالمي للمرأة، محطةً ومناسبةً يُحتفل بها في العلن في لبنان. وكرست قلمها لخدمة قضايا حقوق الإنسان وليس قضايا النساء فقط، بل أيضاً الديمقراطية ودعم القضية الفلسطينية التي لم تغِب عنها يوماً.
أنا مواطنة لبنانية أتيح لي خلال سنوات عمري أن أحصد رصيداً ثميناً لا يباع ولا يشترى. اكتسبته بفضل مدارس تلقنت منها احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه ومحاربة أسباب جهله وفقره ومرضه وتشرده
وقد نعت لجنة حقوق المرأة، رئيستها السابقة، المناضلة ليندا مطر، أمس، في بيان قالت فيه: "ببالغ الحزن والأسى، تنعى إليكم لجنة حقوق المرأة اللبنانية رئيستها السابقة السيدة ليندا مطر، أيقونة العمل النسائي اللبناني الهادف إلى تحقيق المساواة بين الجنسين".
وعرفت لجنة حقوق المرأة اللبنانية برئاسة ليندا مطر وقيادتها وضوحاً في الرؤية وديناميةً استثنائيةً في النضال النسائي، وكان لها الفضل، بالإضافة إلى إكمال مسيرة مؤسسات اللجنة الرائدات، في نقل اللجنة من مرحلة التأسيس النوعية، إلى مرحلة التأثير الجذري والفعالية في التغيير في واقع المرأة اللبنانية وفي نشر ثقافة حقوق المرأة، كما الإسهام الكبير في التقدم النوعي في تعديل أو استحداث القوانين الرامية إلى تحقيق العدالة للنساء.
وتوازياً مع نشاطها النسوي ومهمّاتها في اللجنة، كانت مطر منتسبةً إلى الحزب الشيوعي اللبناني. تروي في مقابلة صحافية عام 2011، أن ما ساعدها على الجمع بين الانتمائين، سرية العمل الشيوعي آنذاك، وتعتقد أن قراءتها لمؤلفات ماركس وأنجلر، ساهمت في مساعدتها في فهم قضايا المرأة بشكل أعمق، واكتسابها وعياً أكبر لحقوقها.
وفي مقابلة لها في العام 2018، تروي مطر أنها سمعت أو قيل لها إن ما روته في كتابها عن سيرتها كان "مليحاً" (جيد)، لكنّها لم تكتفِ. كانت تريد أن "تكتب عن العلاقات بين الناس في وطن واحد"، لكنّها لم تفعل. غلبها التعب الذي لطالما حاول النيل منها ولم ينجح.
تعتقد مطر أن قراءتها لمؤلفات ماركس وأنجلر، ساهمت في مساعدتها في فهم قضايا المرأة بشكل أعمق
وتصف رئيسة التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني السابقة كارولين سكر صليبي، شخصية ليندا مطر بالقوية والصلبة، وتقول لرصيف22: "برغم كبر سنّها، كانت تتواجد في كل الأنشطة والمسيرات، وهذا نابع من إيمانها وتمسكها بالقضايا التي حملتها خلال حياتها".
وتضيف: "في التجمع، كان لنا الكثير من محطات النضال المشتركة في الشارع للدفاع عن حقوق النساء ومناهضة العنف والتمييز، ولطالما تكررت لقاءاتنا وبقي التنسيق قائماً في ما بيننا لاستكمال نضالنا النسوي".
وتشير صليبي، إلى أنّ مطر خاضت معركةً سياسيةً برغم نظرة المجتمع الذكوري إلى مشاركة المرأة في السياسة، ولكنّها أصرّت على هذه المعركة لأجل التغيير وطموحها إلى دولة ديمقراطية مدنية وعلمانية، "لقد امتلكت خلفيةً سياسيةً غير تقليدية، وعاشت عمرها تحمل فكراً نضالياً وطنياً وحقوقياً".
الأثر الذي تركته أيقونة النضال النسوي اللبناني، تردد بالأمس في تغريدات ومنشورات العديدات من المدافعات عن حقوق النساء ومن عرفنها إذ وصفنها بالقائدة، الرائدة، المؤثرة، والأيقونة. هذه الكلمات، بعمقها، لا يمكن أن تُقال إلا لشخصية استثنائية، جعلت من تجربتها مدرسةً، ومن "محطات سيرة حياتها" فكراً ونضالاً تتناقلهما الأجيال.
وكتبت الناشطة النسوية والحقوقية جمانة مرعي، على حسابها في تويتر: "ليندا مطر شكلت حالة نضال نسوي وطني ديمقراطي استثنائي في تاريخ لبنان، هي مدرسة تعلمنا منها الكثير... وداعاً ليندا".
أما الصحافية والناشطة النسوية حياة مرشاد، فكتبت على صفحتها في فيسبوك: "قبل دخولي الجامعة بعام، عندما بدأت أتنبه إلى حقوق النساء، وأبحث وألحق أثر هذا الحراك في لبنان، كان اسم ليندا مطر أول ما يطالعني... كنت أبحث عن مقابلات لها في الجرائد التي يحالفني حظي للوصول إليها، فأجمع قصاصات من هذه المقابلات وأحتفظ بها في خزانتي الخاصة".
وتضيف: "لاحقاً عندما صرت جزءاً من هذا الحراك، لم تبخل ليندا بدعمها وتوجيهاتها وحبها... ليندا من الملهمات في حياتي ومسيرتي كما هو الحال للكثيرات غيري. إلى اللقاء ليندا مطر، سيبقى نضالك منارتنا وسنبقى مدينات لإرثك ما حيينا... وتستمر المسيرة".
ننعي إليكم رحيل أيقونة العمل النسوي في لبنان التي لطالما رددت أنها مستمرة بنضالها حتى لو لم تجد أحداً ليساندها، ستقف أمام المرآة وتردّد حقوقها
جدير بالذكر أن ليندا مطر انتسبت إلى لجنة حقوق المرأة اللبنانية في بداية خمسينيات القرن الماضي وتدرجت من عضو عادي إلى أمينة سر ثم إلى رئيسة في العام 1978. وقد شاركت في تأسيس عدد من الهيئات النسائية: لجنة الأمهات في لبنان والهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة، واللقاء الوطني للقضاء على التمييز ضد المرأة، كما شغلت منصب عضوة في الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي وكانت منسقة المركز الإقليمي العربي لهذا الاتحاد حتى عهد ليس ببعيد.
وشاركت مطر في مؤتمرات عربية وعالمية عديدة منها المؤتمرات التي نظمتها الأمم المتحدة، كما اختارتها مجلة "ماري كلير" الفرنسية عام 1995، واحدةً من مئة سيدة يحركن العالم، وانتُخبت رئيسةً للمجلس النسائي اللبناني في العام 1996، وترشحت إلى الانتخابات النيابية في بيروت مرتين (في دورة العام 1996 ودورة العام 2000)، ونالت عدداً وازناً من الأصوات برغم ترشحها خارج اللوائح.
هذه الأسطر القليلة، ستبقى عاجزةً عن تلخيص صفحات من محطات سيرة حياة المناضلة والكاتبة ليندا مطر، ولكن يبقى القول إنها كانت مناضلةً استثنائيةً جعلت من النسوية إلهاماً للعديدات، على عكس معظم المشاريع التي التهمت قضايا النساء، متسلقةً على معاناتهن وخلقت حالةً من الإحباط وسط ما تعانيه النساء من إجحاف وتمييز... وداعاً أيتها الأيقونة، سنقف جميعاً أمام المرآة، ونردد حقوقنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 17 ساعةكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 4 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...