شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
جريدة

جريدة "السفور"... حين أصدر الرجال صحيفة تدعم حقوق النساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء نحن والتاريخ

الاثنين 31 أكتوبر 202212:39 م

في الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1914، أعلن الجنرال ماكسويل، قائد جيش الاحتلال البريطاني في مصر الأحكام العرفية. ونتيجة لهذا القرار، فُرضت الرقابة على الصحف، واضطرت الكثير منها إلى الإغلاق.

من قبل ذلك التاريخ كانت الصحف المصرية تواجه الرقابة، لكن بعد إعلان الأحكام العرفية للمرة الأولى بمعرفة الاحتلال، وما تلاه من تطبيق نفس القوانين بمعرفة الحكام المصريين بعد حزيران/يوليو 1952، شكَّل الحصار الحقيقي الذي لا تزال تواجهه الصحافة المصرية إلى الآن بموجب مزاعم ودعاوى مختلفة.

نتيجة لإعلان الأحكام العرفية في 1914، عانت الصحافة المصرية من قسوة الرقابة، فتوقف بعضها عن الصدور كلياً. وفي هذه الأثناء شعر الصحافي المؤسس عبد الحميد حمدي، والشيخ مصطفى عبد الرازق، والدكتور طه حسين، والأديب والصحافي والتربوي الدكتور محمد حسين هيكل، وأستاذ الفلسفة منصور فهمي باشا، بخطورة الوضع. فاستقر رأيهم على تكوين شركة لإصدار جريدة جديدة، أطلقوا عليها اسم "السفور".

وبحسب الدكتور محمد حسين هيكل، في الجزء الأول من مؤلفه المعنون "مذكرات في السياسة المصرية"، فإنهم وضعوا عقداً لهذه الشركة، ينص على أن عبد الحميد حمدي، هو المسؤول عن إدارة صحيفة "السفور"، وله أرباحها وعليه خسارتها. وكان من أهم ما اتفقوا عليه أن تكون جريدتهم الجديدة أسبوعية أدبية اجتماعية "لا شأن لها بالسياسة".

في العدد الأول من "السفور"، أعلن صاحبها عبد الحميد حمدي منهاجها قائلاً: "ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا. وكل شيء يبدو على غير حقيقته. فنحن أمة محجبة بحقيقتها. بادية منها ظواهر كاذبة"

من هو عبد الحميد حمدي؟

في البداية لا بد أن نتعرف على الصحافي الذي وضع هؤلاء ثقتَهم فيه لإدارة المشروع الجديد. المعلومات المتوفرة عنه توضح أن والده كان مهندس أركان حرب، شغل وظيفة أركان حرب القوة المعسكرة في دمياط (تقع في شمال البلاد)، وقضى عبدالحميد في دمياط السنوات العشر الأولى من حياته، وتلقى بها تعليمه الابتدائي، حتى انتقل مع والده إلى القاهرة، واتخذ منها مسرحاً لنشاطه الصحافي، وفقاً لما روى الدكتور راضي جودة في مؤلفه "دمياط في التاريخ الحديث (1810 - 1906)".

ويذكر الدكتور إسماعيل إبراهيم في مؤلفه "صحفيات ثائرات"، أن عبد الحميد حمدي قبل أن يتولى إدارة "السفور"، كانت له تجربة قصيرة في بداية حياته في مجال الصحافة النسائية؛ إذ أدار عام 1907 جريدة "الريحانة"، التي حررتها الصحافية الرائدة جميلة حافظ في حلوان.

كانت "الريحانة" وفقاً للدكتور أحمد صلاح الملا، في دراسة له، حملت عنوان "جريدة السفور وقضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال 1915 – 1923"، ذاتَ توجه محافظ عثمانيِّ النزعة موالٍ للحزب الوطني، ودعت لحقوق المرأة في إطار التقاليد الإسلامية.

ويؤكد الملا: "ورغم أن أفكار عبد الحميد قد تطورت كثيراً بعد ذلك في اتجاهات أكثر ليبراليةً، فقد ظلت هذه التجربة المبكرة علامةً على جانبٍ محافظٍ دفينٍ في فكر الرجل، ظل حاضراً طوال الوقت"، مشيراً إلى أنه في العقد الثاني من القرن العشرين، وبالتوازي مع التجربة الأهم في حياته المهنية، وهي رئاسة تحرير "السفور"، كانت له اهتمامات سياسية ظهرت إبان تحريره جريدة "المنبر" في الفترة من آب/أغسطس عام 1918 حتى نيسان/أبريل 1919.

جميلة حافظ - مؤسسة ومحررة جريدة الريحانة التي دعت في بداية القرن الماضي إلى حرية النساء، ولكن من منظور إسلامي

بقلمه شارك عبد الحميد حمدي في ثورة 1919، وتقلب على مدى سنواتها العاصفة بين مجموعة من الصحف السياسية، سعياً لنصرة القضية المصرية. لكن في هذه الأثناء ظلت "السفور" واحةَ أمانه ومستقره الأساسي الذي يعود إليه كلما ضاقت به دروب السياسة.

ويروي الدكتور راضي جودة، أنه بعد نهاية تجربة "السفور"، عمل عبدالحميد حمدي في جريدة السياسة، وملحقها الثقافي الشهير "السياسة الأسبوعية"، اللتين كانتا لسان حزب الأحرار الدستوريين، ومنبراً لنخبته الأرستقراطية الليبرالية منذ عام 1927 حتى 1949.

وفي الشهور الأخيرة من حياته، أصدر جريدة "الضياء"، وظل يرأس تحريرها حتى وفاته عام 1950، إثر عملية جراحية فاشلة، ويعد من مؤسسي نقابة الصحفيين المصرية؛ إذ كان العضو رقم 67 من الأعضاء المائة المؤسسين، مع أحمد حسن الزيات وسلامة موسى وطاهر الطناجي وعباس العقاد وغيرهم.

اجتماعية نقدية أدبية

خرج العدد الأول من جريدة السفور، إلى النور في 21 أيار/مايو عام 1915، وفقاً لأنور الجندي في مؤلفه "المحافظة والتجديد في النثر العربي المعاصر في مائة عام"، وهو العام الذي حدده أيضاً الدكتور زكي نجيب محمود في حديثه عن الجريدة في كتابه المعنون بـ"حياتنا العقلية".

صدرت السفور في ثماني صفحات، وكان شعارها "جريدة اجتماعية نقدية أدبية تصدر مرة في الأسبوع"، لكن يشير الدكتور أحمد صلاح الملا إلى أن تاريخ توقفها النهائي كان محلاً للالتباس كذلك؛ إذ أوضح البعض أن آخر أعدادها كان رقم 307، بتاريخ 22 تشرين الأول/أكتوبر عام 1922، بينما تسجل المحفوظات المصرية بدار الكتب والوثائق أعداداً صدرت بعد هذا التاريخ بشكل متقطع عام 1923، حتى عطلتها الأحكام الإدارية قسرياً لمدة عام ونصف تقريباً، ثم ألغت رخصتها لما رأته من تجاوز موضوعاتها النطاقَ الأدبي والاجتماعي "إلى شيء من السياسة" لم يكن مسموحاً لها به، لكنها عادت بعد ذلك لأعداد قليلة عام 1925، سبقت توقفها النهائي.

نحن أمة محجبة

واتضح من افتتاحية العدد الأول لجريدة "السفور"، أن عبد الحميد حمدي تبنّى دعوة قاسم أمين، الذي نادى بتحرير المرأة، فكان يرى أن النساء لسن الوحيدات المحجبات في مصر، وأن الحجاب يشمل الأمة بأسرها، واشتهر قوله "نحن أمة محجبة".

وهنا يروي الدكتور زكي نجيب محمود، أنه في العدد الأول من "السفور"، أعلن صاحبها عبد الحميد حمدي منهاجها، شارحاً المواد بعنوانها، فقال في ذلك: "ليست المرأة وحدها هي المحجبة في مصر، ولكنها محجبة نزعاتنا وفضائلنا وكفاءاتنا ومعارفنا وأمانينا. وكل شيء يبدو على غير حقيقته. فنحن أمة محجبة بحقيقتها. بادية منها ظواهر كاذبة. وقد تبين للباحث أن هذه العلل ليست طبيعية في نفس الأمة، وإنما هي عوارض تزول بزوال أسبابها".

رفضت ملك حفني أن يملي الرجال على النساء ما يفعلن، خاصة أنهن صاحبات الحق في تقرير مصيرهن، فهي تعلن: "وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب، ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب"

وطرح عبد الحميد حمدي مفهوم "السفور" هدفاً نهائياً لمشروعه الصحافي الجديد، وعلامة دالة على طريق الإصلاح المنشود، فأكد: "سنعمل في هذه الصحيفة على أن يظهر سافراً للناس ما خفي من نزعاتنا وفضائلنا. ومن هنا يستطيع القارئ أن يفهم الغرض الذي من أجله تخيرنا اسم السفور شعاراً لصحيفتنا هذه، التي أردنا أن تكون صحيفة نقدية أدبية، تنادي بالسفور الشامل في كل أبواب التقدم والإصلاح"، وفقاً لما نقله عنه الملا.

وبحسب مؤلف دراسة "جريدة السفور وقضية حجاب المرأة واختلاطها بالرجال 1915 – 1923"، كانت الجريدة تبدأ بافتتاحية، يكتبها عبد الحميد حمدي أو سواه من كتابها في بعض الأحيان، ثم يأتي باب الاجتماع، ثم باب النقد، وهو يقدم نقداً لعمل أدبي أو فكري معين، ثم "باب الأدب"، وهو يتضمن نصاً أدبياً لكاتب ناشئ أو راسخ، ثم مختارات شعرية من الشعر الكلاسيكي أو لأحد شباب الشعراء، ثم باب "فكاهات"، وباب "القصص".

استفزاز لعادات المجتمع المحافظ

وتسبب اسم الجريدة في هجوم كبير عليها، وهذا ما قرره محمد عبد الرحيم الزيني في مؤلفه "قراءة في فكر الشيخ مصطفى عبد الرازق"؛ إذ ينقل عن الشيخ مصطفى، أحد أشهر كتاب الجريدة آنذاك قوله: "اسم الجريدة صدم الذوق العام، وأثار حفيظة جمع كبير من دعاة الإصلاح الديني الصادقين منهم والكاذبين، فحسبوا أن جماعة السفور يدعون إلى الإلحاد في دين الله، بل لقد زعموا أن من ورائهم يداً قوية للمبشرين المسيحيين تحرضهم وتؤيدهم".

ويؤكد الشيخ مصطفى عبد الرازق، أن "من يتابع أعداد (السفور) يشعر بحماسة الشباب وفوران عواطفهم، وإقدامهم على الأخذ بكل فكر جديد، وعدم تحفظهم في مصادمة أنصار القديم، والهجوم عليهم بطريقة صريحة حتى لو كانوا من علماء الأزهر، والسخرية من طرائق تفكيرهم، ومن القضايا التي يتكلمون عنها. لقد تميزت الجريدة بسعة الأفق وقوة الحجة وتنوع الموضوعات، واتسع صدرها لحرية الرأي وتناول الأفكار الجديدة في مجال الدين والأدب والأخلاق".

ويتضح ما تعرضت له "السفور" من هجوم، في قول الأديب مصطفى صادق الرافعي، الذي تحدث عن تجربته معها في مؤلفه الشهير "رسائل الرافعي"، قائلاً: "رأيت عددين من جريدة السفور، فهي ورق، وطبع وكأنها بموضوعاتها عربة من الدرجة الثالثة في قطار الإكسبريس، وأنا أشد نقمة على مبدأ هذه الصحيفة، فأي سفور يريدون أخزاهم الله".

وترى نهى القاطرجي، في مؤلفها "المرأة في منظومة الأمم المتحدة - رؤية إسلامية"، أن عبد الحميد حمدي "استغل الحملة التي قادتها الدولة البريطانية على المسلمين، من أجل نشر الدعوة ضد الحجاب والآداب الإسلامية، وممن كتب فيها داعياً إلى السفور مصطفى عبد الرازق وطه السباعي وغيرهم".

وبالطبع كان لا بد أن يدافع القائمون على "السفور" عن أنفسهم، وهو ما يورده الدكتور أحمد صلاح الملا، في قوله: "أكدوا عدم اقتصار دلالة هذا الاسم على قضية المرأة وحدها، وشموليته باعتباره علامةً (لكل دعوة حرة صالحة). وانطلاقاً من هذا التوجه الاجتماعي التقدمي الشامل، قدمت الجريدة منذ أعدادها الأولى نقداً رصيناً للعديد من جوانب الحياة الاجتماعية المصرية".

ملك حفني ناصف ترد على "حمدي"

وفي هذه الأثناء، كان هناك العديد من العناصر النسائية التي طالبت بتحرير المرأة، كان على رأسهن ملك حفني ناصف، لكنها على الرغم من ذلك، ردت على مقالات عبد الحميد حمدي، مفندة أسباب صعوبة تنفيذ ما يدعو إليه، بقولها: "فناشدتك الله أيها الأديب كيف تأمرنا الآن بالسفور، ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها العبارات الوقحة ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذلك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياءً، فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه، ومجموع نساء كنسائنا الآن لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع، يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعةً لا انتهاء لشرّها"، وفقاً لما ذكرت إقبال بركة في مؤلفها "المرأة المسلمة في صراع الطربوش والقبعة".

ورفضت ملك حفني أن يملي الرجال على النساء ما يفعلن، خاصة أنهن صاحبات الحق في تقرير مصيرهن، فهي تعلن: "وعليه فلسنا متبعات رأي من يأمرنا بالحجاب، ولا رأي من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب، وذاك نقب وخطب، إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالاتباع".

"أهم أسس الإصلاح"

بشكل عام احتلت قضايا المرأة دائماً مكانة مركزية في خطاب "السفور"، وارتبط ذلك بسعيها لاستنهاض "القومية المصرية"، و"كان هذا انعكاساً طبيعياً لمبادئها الليبرالية، وترجمة لقناعة مستقرة لديها بأن تطوير أوضاع المرأة هو أحد أهم أسس الإصلاح في بلادنا"، وفقاً لما كتبه المُلَّا.

وأوضحت الجريدة أن عملها يستهدف في الأساس "تكوين نهضة أدبية تقصد إلى تحرير العقول، وتخليص القومية المصرية من عوامل الضعف، وتحرير المرأة من قيود الجهل والعادات غير الصالحة، واتخذت من قاسم أمين علماً على النضال من أجل حقوق المرأة، ودافعت بضراوة عن أفكاره في مواجهة خصومه، مؤكدة أن هؤلاء لم يؤسسوا طروحاتهم في مواجهته على دراسة وافية لحال المجتمع كما فعل هو، وإنما على مجرد التعصب للعادات والتقاليد القديمة.

لكن يشير الدكتور أحمد صلاح إلى أمر هام، وهو أن الحجاب الذي ناضلت "السفور" ضده، وطرحت خطابها في مواجهته هو غطاء وجه المرأة الذي كان سائداً آنذاك، أي "النقاب" بالمعايير الحالية، ومن ناحية أخرى لم يقتصر مفهومه على شكل الزي فقط، بل تعداه إلى "حجب" المرأة في منزلها وعزلها عن العالم الخارجي، بما يمنعها من الاختلاط المشروع بالرجال، بحسب وصفه.

وبناءً على ذلك، هاجم حمدي في عدد الجريدة الثاني، رؤى المحافظين التي أكدت انتشار ظاهرة الزّنا واختلاط الأنساب في مصر حتى مع هيمنة الحجاب السائد، مبدياً التخوف من تفاقم هذه الظاهرة في حال اتجاه النساء إلى السفور وخروجهن من المنازل.

وقد اعتبر الرجل هذه الروئ - وفقاً لما ذكر الملا في دراسته- دليلاً على جهل وعناد أصحابها، واعترافاً منهم بوجود وتجذر الفساد الأخلاقي في ظل الحجاب، خاصة أنهم لا يستطيعون القول "أن سبب الفساد هو السفور، لأن نساءنا لسن بالسافرات بعد".

وأوضح حمدي: "إننا نرى في أمر الحجاب رأي قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة، وهو الرأي الذي حبذ العودة إلى (الحجاب الشرعي)، والكف عما ساد واقعنا في أشكال التزيد والمغالاة فيه"، معتبراً أن للفساد الذي يتخوف منه أنصار الحجاب "أسباباً أخلاقية محضة بعيدة عن الحجاب والسفور جميعاً".

حجاب يخالف ما أمر به الدين!

وبالنسبة للشكل الخارجي، اعتبر عبد الحميد حمدي أن الحجاب السائد يخالف ما أمر به الدين، لأنه عوّد الناس على التحايل في العلاقة بالجنس الآخر حتى في أبسط الأمور، موضحاً في مقال له بعنوان "الحجاب الصحيح"، أن الدين يريد لنا "أن تكون الفضيلة هي الحجاب القوي الذي يحول بين نفوسنا وبين ارتكاب الدّنايا، ويأبى أن يكون ذلك الحجاب مجرد خرقة بالية تمزّقها يدُ التحايل، وشتان ما بين الحجابين".

واستمراراً للطرح ذاته، بلور حمدي الفارق بين رحابة الأمر الإلهي، وتعسف المجتمع في تفسيره، فأوضح أن الله حين طالب الإنسان، رجلاً وامرأة، فقد كرمه بأن افترض فيه القدرة على "حكم شهوته البهيمية"، بينما أقام المجتمع العلاقة بينهما على أساس أدنى مما أراده الله، وهو المنع التام والحرمان الكامل، ليخلص من ذلك إلى أن الفضيلة كما أرادها الله ليست الحرمان والحجب القسري، بل الامتناع والتعفف في ظل القدرة.

"السفور" ترصد التحرش الجنسي

ورصدت "السفور" مبكراً ظاهرة مهمة، يحلو لمصريين محدثين ادعاء أن المجتمع لم يعرفها إلا حديثاً، وهي المعاكسات المبتذلة، والتحرش الجنسي بالنساء في شوارع المدن المصرية في تلك الفترة، خاصة أن لهذه الظاهرة ارتباطاً وثيقاً بقضية حجاب المرأة.

وفي هذا السياق، تشير فاطمة المرنيسي في مؤلفها "ما وراء الحجاب – الجنس كهندسة اجتماعية"، إلى أن التحرش بالنساء آنذاك لم يكن في الواقع سوى ردّ ذكوري على بداية مغادرة النساء حيزهن المنزلي المحصور، و"هجومهن" على الشارع، الذي اعتُبر طويلاً حيزاً خاصاً بالرجال، مؤكدة: "بهذا المعنى أجازت الإيديولوجيا الذكورية السائدة لحامليها مطاردة النساء والاعتداء عليهن قولاً انتهاء بلمسهن متى سنحت الفرصة، بأمل إقناعهن بالتراجع والعودة إلى حيزهن السابق المقبول".

اللافت أن الخروج الجديد للنساء لم يكن خروجاً جديداً على الإطلاق، وإنما هو خروج لبنات وسيدات الطبقة الوسطى من بنات وزوجات الموظفين والتجار والأعيان. فـ"بنات البلد" أي المصريات البسيطات من أبناء الطبقات الدنيا كن يخرجن للعمل سافرات الوجه في الحقول والأسواق، كما رصدت كتابات ولوحات المستشرقين الذين توافدوا على مصر منذ بدايات القرن السابع عشر.

ومن أجل محاربة ظاهرة التحرش، طرح الشيخ مصطفى عبد الرازق على صفحات "السفور"، فكرة مواجهتها باستحداث القوانين الرادعة، لكنه عاد وتحفظ على ذلك؛ لما ينطوي عليه من فرض قيود على حريات الناس، مقترحاً "إمكانية الحدّ من هذه الظاهرة المشينة بتربية الشباب على الاحتشام والفضيلة واحترام المرأة، ما يؤدي في النهاية إلى زوال (حدة الشره الجسمي)، التي تلعب بعقولهم".

وفي لمحة مهمة، اعتبر الكاتب أن من أهم أسباب تلك الظاهرة الجديدة وقتها، هو "طبيعة نظامنا الاجتماعي الذي يحرم المرأة والرجل من الاختلاط النافع في غير ريبة، والتعارف في ميدان الحياة تعارف النظير إلى النظير"، وهو ما جعل صورة المرأة في خيال الرجل "صورة متاع مادي"، وأدّى إلى "نقص آداب المعاملات عندنا بين الرجل والمرأة"، بحسب دراسة أحمد صلاح الملا.

ورداً على ذلك، كتب محمد رشيد رضا على صفحات مجلته الشهيرة "المنار" مقالاً حاداً هاجم فيه الشباب القائمين على "السفور"، من دون أن يسميهم، متهماً إياهم بالفساد و"التفرنج"، والدعوة لبثّ "الفوضى الأدبية"، والانحلال الخلقي في مصر، رافضاً الدعوة لإزالة الحجاب السائد، معتبراً إياها "دعوة ضارة مضعفة لبناء الأمة الاجتماعي".

وعلى الرغم من ذلك، استمرّ عبد الحميد حمدي في الاستشهاد بالمرجعية الأوروبية لدعم الموقف المناهض للحجاب السائد، محملاً إياه في مقال بعنوان "خطر الحجاب"، مسؤولية ما يسود الواقع المصري وقتها من مظاهر الانهيار الأخلاقي والنفاق والجهل والتخلف وانحطاط أوضاع النساء والرجال جميعاً.

وفي هذا المقال، وردت إشارة لافتة للغاية، إذ أكد حمدي أن طريق الأمة الإسلامية الوحيد للخلاص من كلِّ تلك المصائب، هو أن تتخلص نهائياً من "داء" الحجاب وتتجه بحزم إلى "السفور التام".

وتعليقاً على ذلك، كتب الدكتور صلاح الملا: "تبدو هذه الإشارة المبكرة إلى (السفور التام) غامضة إلى حدّ ما، خاصة في ضوء ما رأيناه من طابع حذر لخطاب الجريدة، وإن كنا نرجح أن المقصود بها كان فعلاً السفور الكامل بما يقتضيه من كشف وجه المرأة وشعرها معاً على عادة الأوروبيات، وهو ما يعني أن ذلك الحذر والتدرج الملتزم بـ(الحجاب الشرعي) لم يكن موقفاً إيديولوجياً صلباً تبنته (السفور) في هذه القضية، بقدر ما كان مراعاة منها لحال الواقع وإمكانات تطوره".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image