كشف تحليل كيميائي حيوي للمواد التي وجدت في 31 من الأواني الفخارية المستخدمة في التحنيط والتي عُثر عليها في موقع سقارة الأثري، ومضاهاته بما كُتب على هذه الأواني عن بعض أسرار عملية التحنيط لدى المصريين القدماء والتي صمدت لغزاً محيّراً آلاف السنوات.
آمن المصريون القدماء بالحياة في العالم الآخر، ويُعتقد أن التحنيط كان وسيلتهم للحفاظ على أجساد الموتى لأطول فترة ممكنة لتكون صالحة لمرافقة أرواحهم إلى هذا العالم الآخر بالنظر إلى تعقيد المواد المستخدمة فيه. وإن كان فريق من الباحثين كان يعتقد بأن التحنيط حدث بالمصادفة.
في مناسبات سابقة، أسفرت أبحاث عن التوصل لبعض المواد المستخدمة في عملية التحنيط لكنها لم تكن كافية لتقديم وصفة مفصّلة لهذه العملية الدقيقة والصعبة. في عام 2018، على سبيل المثال، أدت دراسة استمرت 10 سنوات لمومياء "فريد" المعروضة بمتحف تورينو في إيطاليا، بعد اكتشافها في صحراء قريبة من ضفاف نهر النيل بصعيد مصر في العام 1901، إلى التعرف على بعض المكونات الأساسية لوصفة التحنيط.
كان من بين هذه المواد "مجموعة من الزيوت النباتية التي تم مزجها بعد ذلك مع العلكة النباتية أو السكريات، وصمغ الصنوبر الحار، وزيوت نباتية عطرية". شكّل مزيج هذه المواد "عجينة بنية لزجة"، كانت توضع على الجسم مع ضمادات الكتان، ثم توضع المومياء في الرمال الساخنة لتحظى بمزيج من الشمس الحارقة والمواد الحافظة، التي كانت بمثابة بلسم من شأنه أن يحافظ على سلامة الجسم.
بعضها كان يُستورد من مناطق بعيدة… فريق بحثي مصري ألماني يحقق كشفاً غير مسبوق يُمكّن من "إعادة قراءة" ما نعرفه عن أسرار التحنيط لدى المصريين القدماء. كيف؟
وصّفة مكتوبة
هذه المرّة، تمكن فريق بحثي ألماني يعاونه باحثون من المركز القومي للبحوث في القاهرة من التعرف على المزيد عن المواد المستخدمة في التحنيط ليس فقط من خلال تحليل البقايا العضوية داخل عدد من الأواني الفخارية التي كانت تُستخدم في عملية التحنيط وإنما أيضاً عن طريق الكتابات الموجودة على هذه الأواني باللغة المصرية القديمة.
ووفق تقرير فريق الباحثين الألمان، وجميعهم ينتمي إلى جامعتي "لودفيغ ماكسيميليان" و"توبنغن" الألمانيتين البحثيتين، أظهر تحليل البقايا العضوية التي تم العثور عليها داخل الأواني الفخارية بعد أن اكتُشفت داخل بئر يحوي ورشة تحنيط في منطقة سقارة عام 2018، من قبل بعثة أثرية مصرية ألمانية ترأسها الأكاديمي المصري الراحل رمضان بدري، طبيعة بعض المواد التي كانت تُستخدم في عمليات التحنيط. علماً أن التحليل الكيميائي اعتد تقنية كروماتوغرافيا الغاز، والقياس الطيفي الكتلي للمواد المكتشفة في الأواني التي يزيد عمرها عن 2500 سنة.
وقالت سوزانا بيك، نائبة رئيس البعثة، إنهم توصلوا إلى أن الأواني التي استُخدمت في عمليات التحنيط كان مكتوباً عليها أسماء المواد التي كانت تحويها، وأيضاً وصف طريقة استخدامها، ما ساهم بشكل كبير في معرفة أسماء الكثير من مكونات التحنيط ومراحله.
شرحت أستاذة علم المصريات بالجامعة الأمريكية في القاهرة، سليمة إكرام، صعوبة الأمر قائلةً: "قد يكون لديك اسم لشئ ما لكنك لا تعرف حقيقةً ما هو باستثناء بعض الكتابة الهيروغليفية التي تُشير إليه على أنه زيت أو راتنج (مادة صمغية)... هذه هي المرة الأولى التي يكون لديك برطمانات عليها ملصقات تُعرف عن ما بداخلها".
توصّل التحليل إلى نحو 12 من المستخلصات النباتية والحيوانية التي كانت تُستخدم في عملية التحنيط ومنها مستخلصات من نباتات العرعر والسرو والأرز من البحر المتوسط، والقار من البحر الميت، ودهون حيوانية وشمع العسل.
لكن عنصرين أثارا دهشة الباحثين لعدم وجودهما في مصر، أولهما اسمه "إيلمي" ويُستخلص من شجرة الكناريون التي تنمو في الغابات المطيرة في آسيا وأفريقيا، والآخر هو "صمغ الدمار" ويُستخلص من نبات الشورية من جنوب شرق آسيا. وصفت البروفيسورة إكرام الأمر بأنه "مذهل للغاية"، متساءلةً "من كان يظن أنهم حصلوا على أشياء تأتي من الهند؟".
"الفريق تمكّن وللمرة الأولى - بعد مقارنة المواد التي تم تحديدها مع ما هو مكتوب على سطح الأواني باللغة المصرية القديمة - من تحديد المادة التي استخدمت في تحنيط جزء معين من الجسم بدقة"
ومن بين البقايا التي كشف عنها التحليل مادة "عنتيو" والتي استُخدمت بكثرة في وصف عمليات التحنيط في دراسات سابقة، وكان تُترجم على أنها مادة الصمغ العطري، إلا أن هذا التحليل الألماني أوضح أنها عبارة عن خليط من زيت خشب الأرز وزيت العرعر ودهون حيوانية.
بدوره، قال عالم الآثار المشارك في الدراسة ماكسيم راغوت إن معرفة المصريين القدماء بالمواد المستخدمة في التحنيط "كانت مذهلة" إذ أدركوا أن بعضها بحاجة إلى التسخين والبعض الآخر خصصوا أواني لتقطيره وأضافوا مواد إلى أخرى لتكون رائحتها ألطف. أما عالم الكيمياء الحيوية المشارك في الدراسة محمود بهجت، فقال: "نحن بحاجة لأن نكون أذكياء مثلهم لنكتشف نواياهم".
إعادة قراءة لما نعرفه عن مواد التحنيط
بدوره، اعتبر الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار مصطفى وزيري، في بيان، اكتشاف بعثة الآثار الألمانية من خلال أواني التحنيط التي ترجع إلى العصر الصاوي، الذي يُعرف بأنه "عصر الكتابة الشعبية" - عصر الأسرة 26، مهم لأنه يُسهم بشكل كبير في إعادة قراءة النصوص المألوفة عن التحنيط المصري القديم".
وأضاف أن "الفريق تمكّن وللمرة الأولى - بعد مقارنة المواد التي تم تحديدها مع ما هو مكتوب على سطح الأواني باللغة المصرية القديمة - من تحديد المادة التي استُخدمت في تحنيط جزء معين من الجسم بدقة".
ولفت المسؤول المصري إلى أن بعض المواد التي تم التعرّف على دورها في عملية التحنيط كانت تُستورد من الخارج بعضها في منطقة البحر المتوسط، وأحياناً الغابات الاستوائية المطيرة، أو جنوب شرق آسيا، ما يُشير إلى وجود صلات وتواصل بين تلك المناطق التي تبعد عن بعضها البعض مئات وأحياناً آلاف الكيلومترات في تلك الفترة الزمنية المبكرة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...