شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"ولك يا مصري!"... كوابيس "استعباد" العمّال المهاجرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والفئات المهمشة

الاثنين 6 فبراير 202303:28 م

يوضّح بينيدكت أندرسون، في كتابه "الجماعات المتخيلة"، أن لغة الأرشيف التي تُعَرِّف الحياة ضمن أُطر الإحصاء ومفرداتها بمثابة عالم موازٍ، قد لا يعي الشخص فيه المواصفات التي تُعَرِّفه/ا ضمن اللغة الإحصائية ومسمياتها المقتضبة، والتي قد تُستَخدم لتحقيق أهداف قد تجعل حياته/ا أسهل، أو تشنّ عليه/ا مدّاً مُقَاوِماً لكل ما يحاول أو تحاول تحقيقه.

وقد يعيش ويموت الفرد منا من دون أن يعي أبداً كيف تم تصنيفه/ا، أو كيف خدمت تلك التصنيفات والتعريفات قوى السلطة والنفوذ. ولكن في بعض السياقات، تصبح لغة الإحصاء جزءاً من المعاملات اليومية، التي في أحيان كثيرة تحاكي لغة الأرشيف الرسمي، فتصبح أداةً في يد عموم البشر، وجزءاً من الخطاب الغالب على مستوى الشارع وفي دوائر العمل والمعاملات الشخصية.

نعلم أنه في زمن غير الزمن هذا، لم تكن هناك قوميات عربية، بشكلها الحديث المفعم بالتنافس على التاريخ والتميز لضمان حيز من النفوذ والمال في الإطار السياسي والتجاري العالمي. كان السفر فكرةً شاقةً وواسعةً، تدور خارج ما نعرفه عن الحدود الحديثة والمعاصرة وحماتها، فكان الترحال جزءاً من رأسمال الشخص، وكان تعريف الفرد باسمه والبقعة التي وُلد فيها تعريفاً لتاريخه الشخصي الذي يتنقل معه. متى تحولت الجنسية الرسمية من تعريف إلى إهانة في بلادنا العربية المعاصرة؟

لا يخلو الحديث عن حياة العمال المهاجرين المصريين في الأردن من نداء "يا مصري"، "المصري"، و"مصري"، بشكل استعلائي وكتعزيز للاغتراب عن البيئة التي يعيش فيها العمال المصريون

أثناء جمع مواد للدراسة التي أشتغل عليها، من خلال توثيق ومحاولة فهم حياة العمال المهاجرين المصريين في الأردن، الذين عملوا أو يعملون في قطاع البناء والإنشاءات خصوصاً، وجدت أنه لا يخلو الحديث من حكايات عما يمثله نداء "يا مصري"، "المصري"، و"مصري"، كجزء لا يمكن إغفاله من حياتهم اليومية. أخذ المسألة بشكل سطحي لا يمثل لغز فهم حاملي الجنسية المصرية بالفعل، ولكن حتى في إلقاء نظرة عابرة على المسألة، يظل هناك شيء من الغرابة يحيط بذلك التقليد الذي أصبح متجذراً في مفردات الحياة اليومية في الأردن، إلى درجة أنه ليس عرضةً للنقد أو المراجعة.

"ولك يا مصري تعال نضفلي كندرتي"، و"ديتك يا مصري فنجان قهوة بالسفارة"، و"تعال هون يا مصري"، و"هو المصري إله إجازة؟"، و"أجيبلك مصري؟".

المصري في العامية الأردنية هو بشكل أوسع "العامل"، وبشكل أخص هو العامل الذي أتى إلى الأردن من مصر، وفي كثير من الأحيان كجزء من اغترابه عن المجتمع المضيف، يقع عليه ذلك النداء بشكل استعلائي وكتعزيز لاغترابه عن البيئة التي يعيش فيها، وفيه إيحاء يغمر حياته، ولا يُسقِط عنه تلك الغرابة حتى ولو قضى خمسةً وعشرين عاماً أو أكثر في البلد الذي يسكن أماكنه ويعمل فيه ويشارك في دفع ضرائبه التنازلية (أو كما يطلَق عليها بالترجمة الحرفية: ضريبة القيمة المضافة)، في مأكله وسكنه وملبسه، وضمن الفواتير التي يدفعها لتأمين معيشته، بجانب تصريح العمل السنوي ومصاريفه الطبية.

أتصور من كل ما قرأت وسمعت من العمال، من مادة عن الموضوع في المنطقة، أن تلك التوليفة الاستعلائية الكسولة التي قد تصل إلى حد المسبّة، لها جذور في الفترات التي كانت العبودية فيها ضمن التاريخ الرسمي لشعوب المنطقة. إلغاء العبودية رسمياً حديث نسبياً في العالم والمنطقة، مع حفظ الاختلافات بين أساليب الرقّ في الغرب والشرق.

فالمملكة العربية السعودية على سبيل المثال، ألغت العبودية رسمياً في عام 1962. كان الرقّ في المنطقة في الأساس انعكاساً للثراء والنفوذ، وكان البعض يأخذه كشكل من أشكال التديّن في الإسلام والاعتبار بالصحابة. ازدراء العبودية وتخطّيها كانا جزءاً من تصورات بعض الكتل في المجتمعات العربية التي لم يكن لها وزن مؤثر في الخطاب العام بين شعوب المنطقة، بدءاً من نهايات القرن التاسع عشر ووصولاً إلى ستينيات القرن العشرين.

يتحول تقليد الإشارة إلى العمال المهاجرين، ومناداتهم بجنسياتهم إعادة إحياء لشبح نداء المستعبدين، كما نادى أجدادنا عبيدهم: "يا سوداني"، و"يا حبشي"، ففي رواسب تلك الثقافة ينادي السادة المعاصرون من يستعلون عليهم من عمال: "يا مصري"

التردد في تكوين مدّ قوي يعمل على إنهاء العبودية، كان يرتكز على خلفيته الدينية التي أصبحت الضلع الرئيسي في مقاومة ما حاولت قوى الاحتلال الإنكليزي تطبيقه من معايير غربية، ضمن موجة إنهاء العبودية التي أتت بها إلى المنطقة على مستوى التشريع في نهايات القرن التاسع عشر.

تعدّدت الآراء بين الرفض للعبودية على أساس أن عتق الرقاب يُثاب عليه المرء في الخطاب الإسلامي، وتالياً استحسان العتق يشير إلى ازدراء العبودية، وأن حرية الفرد هي أساس العيش الكريم، بينما لجأ آخرون إلى المنطق نفسه ليتّخذوه مبرراً لاستمرار العبودية، كممارسة ذات قيود محددة ومصدر لتحصيل الثواب لا يصح أن تُحرم منه الأجيال، كما تحدث عن المسألة باستفاضة ويليام كلارنس-سميث، في ورقته البحثية "العبودية وتجارة الرق في المحيط الهندي والعوالم العربية: وصال وانفصال عالمي". ذلك التردد له رواسبه في مجتمعاتنا ويطرح بعض الأسئلة في تأمّل العمالة المهاجرة في سياقاتنا العربية المعاصرة في عصور ما بعد العبودية.

نقطة الفصل لعقود من الزمن تمركزت حول كون من يصلحون للاستعباد غير مسلمين (الغرباء)، ومن يثبت أن أجدادهم من المستعبدين أو أسرى حرب، غايتها نشر الإسلام (أيضاً الغرباء). يحتفظ السياق الرسمي المناهض للعبودية في تصريحاته التي تحابي الصوابية السياسية الغربية، بالتعامل مع "الغريب/ة" أو "المغترب/ة" أو بصيغة أوضح "المغترب/ة الفقير/ة ذي/ذات البشرة السمراء"، في شرنقة من القوانين الموازية لما يصح أو لا يصح في أثناء تواجده/ا في البيئة المحلية، والتعامل الإنساني المتدني، فتستمر نسخة مستحدثة من سلب فئات "المستعبدين" سلفاً في ثوب جوهره مماثل لما سبقه تاريخياً.

ضمن تعزيز حالة الاغتراب في زمننا المعاصر، يكون سلب السياق الحميمي المألوف لدى المغترب/ة بشكل مبدئي وبدائي هو عدم الاعتبار لاسمه/ا. تحيط التشريعات التعسفية التي تعزّز تلك الأيديولوجيا العنصرية بالأساس في القوانين المجحفة والترحيل الذي تسقط الصوابية السياسية أمامه صريعةً، وعندما تتحول لغة السلطة في مأسسة التغريب ويمتلكها المواطن، فتتبناها لغة الشارع وتتحول إلى منافذ لفظية استعلائية، تصبح الجنسية نداءً بديلاً لنداءات تنمّ عن الندية والاحترام، مثل "أستاذ" أو "عمو" أو "أخي" أو "حضرة".

علاقات الاحتياج الاقتصادي وما تنتج من فجوات تملأها العمالة المهاجرة أساس للتجارة والربح في عصر العولمة والتغريب والإفقار في نطاق يتخطى الحدود الجغرافية، وهو ضلع أساسي في سوق العمل العالمي، والدول العربية جزء من هذا السياق، وتلك هي نكهتها الخاصة.

ضمن تعزيز حالة الاغتراب في زمننا المعاصر، يكون سلب السياق الحميمي المألوف لدى المغترب/ة، بشكل مبدئي وبدائي، هو عدم الاعتبار لاسمه/ا

ضمن إطار الدراسة التي أعمل عليها، لجأت إلى حقوقيين في مجال العمالة المهاجرة، ومن ضمن الأماكن المهمة التي عثرت عليها، مركز تمكين للدعم والمساندة المعني بشؤون العمالة المهاجرة في الأردن. أشارت لندا الكلش، رئيسة المركز، في مقابلة بيننا العام الماضي، إن "ثقافة المِلكية" ما زالت تتحكم في علاقات العمل في سياق العمالة المهاجرة في الأردن. كما أشارت المحامية مي الطراورة، إلى أحوال العمالة المهاجرة في الكويت، في فيلم أنتجته البي بي سي، بعنوان سيليكون فالي: سوق رقمي للرق ((Silicon Valley’s Online Slave Market، بأن كل ما يحدث من انتهاكات للعمال يُرجعنا إلى فكرة أساسية مغلوطة في هذا النوع من علاقات العمل، وهي عدم فهم أن ما يؤمنه المجتمع المضيف لنفسه من خدمات العامل/ة، لا يعني امتلاكه للشخص نفسه.

يتحول هذا التقليد في الإشارة إلى العمال المهاجرين، ومناداتهم بجنسياتهم إعادة إحياء لشبح نداء المستعبدين، كما نادى أجدادنا عبيدهم: "يا سوداني"، و"يا حبشي"، وكذا ففي رواسب تلك الثقافة ينادي السادة المعاصرون من يستعلون عليهم من عمال: "يا مصري".

تعزيز السخرة واستمراريتها بأشكالها المعاصرة نموذج قديم لخلق منظومة تمتص الاستعانة بالعمالة "الخارجية" للعمل تحت ظروف صعبة بأجور مجحفة لفترات طويلة من الزمن، كما أشار بينيدكت أندرسون، في شرح النموذج الكولونيالي للسخرة متخذاً سيام (تايلاند حالياً)، تحت حكم شولالونكورن (1886-1910)، ومقارناً إياه بنموذج المملكة العربية السعودية، حيث تتخذ تلك النماذج، قديمةً كانت أو معاصرةً، الاعتماد على طبقة عاجزة من العمال (impotent working class)، لبناء البلاد المضيفة ومدها بما تحتاج من خدمات.

كما أشار دايفيد جرايبر أيضاً، في كتابه "المديونية: الخمسة آلاف سنة الأولى"، إلى أن من ضمن سمات التغريب للعمالة المهاجرة، نزع السياق الحميمي من حولها حتى يكون العامل/ة و كأنه/ا يحاول/تحاول البقاء دوماً في سياق لا يمكن له امتلاكه بشكل إنساني وحقوقي، وأعتقد أن ضمن ذلك التغريب عدم اعتبار اسم الشخص أو الإشارة إليه ككائن مبهم لا يعبأ المجتمع إلا بتعبئته رسمياً، ولعلها أيضاً الطريقة الأكثر أماناً من حيث المساءلة والتبرّؤ من تلك المسؤولية بالاستناد إلى لغة الإحصاء، بالإشارة إلى الجنسية الأصلية في هذه الحالة التي تندرج نظامياً تحت مظلة الرسميات.

في الحلقة الأولى من مسلسل "اللوتس البيضاء" White Lotus، يخاطب مدير المنتجع متدربةً جديدةً، وينصحها بجوهر معايير إدارة المنتجع. قال لها في خطابه، إن العمال لا بد أن يحتذوا بمفهوم قديم في الثقافة اليابانية، حيث يختفي العامل خلف قناع، بحيث لا يستطيع العميل تمييزه عن غيره، حتى تصبح الخدمة هي الحدث المحوري بعيداً عن الشخص الذي يؤديها، فتتحول الخدمة إلى شيء/ سحر يتحقق ليحيط بالعميل من دون تفاصيل إنسانية أو شخصية، فيصبح العمل نتاج عالم من الأشباح، كل هدفه تحقيق نتيجة مرجوة من دون أن يعبأ أحد، وخاصةً المتلقي، بآدمية القائمين عليه.

أنهى خطبته عن التفوق في العمل بنزعة النيو-ليبرالية التي تحمل الكثير من تاريخ العبودية، بأن العمال لا بد أن يعدّوا عملهم نوعاً من أنواع الكابوكي، فهو في الأساس تنكر لأشخاصهم/ن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image