شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ربما سوريا كانت وطناً لهذا السبب

ربما سوريا كانت وطناً لهذا السبب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الجمعة 3 فبراير 202311:27 ص

تتسلل أشعة الشمس عبر زجاج النافذة، وتتسلق سريري لتعتلي وجهي. ربما الساعة السابعة أو الثامنة صباحاً. لا أعلم فما زلت طفلاً يتعلم قراءة الساعة. تنتشر رائحة القهوة في أرجاء المنزل، ثم بضعة أصوات مشوشة من الراديو لتبدأ فيروز بالغناء.

في ذاك الوقت، كنت طفلاً ذا سبع سنوات، أفرك عيني بيدي وأنهض من سريري. أمشي كالثمل متمايلاً بخطواتٍ متثاقلة إلى غرفة الجلوس لتشتدّ رائحة القهوة والهال مع كلّ خطوة تقرّبني من والدتي التي تجلس بهدوء تستمتع بقهوتها متلهفةً لسماع أغنية "سلملي عليه". تنتظر تلك الأغنية كلّ صباح، ففيروز تغنّي لوالدتي هذه الأغنية يومياً، لتحمل شوقها بصوتها العذب لأخي المغترب خارج سوريا لغرض التعلم. ها قد وصلتُ لتستقبلني والدتي بابتسامتها العذبة وقبلاتها فتجلسني في حضنها مكملةً قهوتها. حسناً فيروز، نحن مستعدون. تباشر فيروز غناء أغنية والدتي لتبدأ أمي بالغناء معها: "سلملي عليه وقله إني بسلّم عليه وبوّسلي عينيه وقلّه إني ببوّس عينيه"، وأنا جالسٌ في حضنها فتنهال عليّ بمزيد من القبلات.

لربما هذه الذاكرة أعظم تعبيرٍ عندي لكلمة وطن. ربما سوريا كانت وطناً لهذا السبب.

لربما هذه الذاكرة أعظم تعبيرٍ عندي لكلمة وطن. ربما سوريا كانت وطناً لهذا السبب.

لم أكن أعلم أين تقع أوكرانيا، ولا أعلم عنها سوى أن أخي يدرس فيها. لقد أحببت تلك البلد لأنها احتضنت من أحب، إذ كنت في كلّ سنة أبدأ بالعدّ التنازلي للأيام وأكتبها على دفاتر مدرستي في انتظار الوصول إلى اليوم صفر، وهو يوم زيارة أخي لسوريا في عطلته. كان الصيف ممتعاً ولا يبدأ من منظوري مع نهاية العام الدراسي، بل مع وصول أخي إلى سوريا ليقصّ عليّ الكثير من الحكايات الممتعة، وبالطبع يجلب لي بعض الهدايا والألعاب. كانت غرفتي مملكتي كلّ السنة، أما في الصيف فكنت أتشاركها معه فتمتلئ بالحياة. أحياناً ضحك وفي أحيانٍ أخرى صراعات.

اليوم وأنا أقارب الثلاثين من عمري، وأعيش في ألمانيا، جلّ ما تعنيه كلمة وطن لي هي تلك اللحظات. لا الخطابات الرنانة، ولا الياسمين، ولا القومية، ولا مشاعر الفخر أو التفاخر. وطني هو تلك اللحظات البسيطة الدافئة مع أخي وأختي ووالدَيّ.

كثيرون ممن يُقالُ عنهم مفكرين يستحقرون ذلك، ففي نظرهم الوطن هو حالة جماعية يجب علينا كلنا الموت في سبيلها، إذ لا قيمة للأفراد أو لذكرياتهم أمام أكذوبة الصالح العام

كثيرون ممن يُقالُ عنهم مفكرين يستحقرون ذلك، ففي نظرهم الوطن هو حالة جماعية يجب علينا كلنا الموت في سبيلها، إذ لا قيمة للأفراد أو لذكرياتهم أمام أكذوبة الصالح العام. كل ما قرأته من نتاجات مفكري اليسار واليمين في بلدي، يتلخص في ذلك. اليوم ما زلت أستمع إلى أغنية صديقتي فيروز لأسترجع تلك اللحظات، من دون منزلي في سوريا. وبعد أن توفي أخي، ما زالت فيروز تحمل في ثنايا صوتها بعضاً من الوطن. وطني أنا وليس وطن المضطهدين ومغسولي الدماغ. وطني ذلك لم يطلب مني أن أضحّي في سبيل ما لا قناعة لي به، بل دفعني إلى تحقيق ما أقتنع به، ما أراه يعبّر عن أفكاري.

في عمري الحالي، توصلت إلى استنتاجاتٍ جديدة: الوطن هو الحرية والأمل. في أثناء تعدادي أيام غياب أخي، كنتُ واثقاً من استقباله في اليوم صفر، وعند استيقاظي صباحاً على صوت فيروز كنتُ واثقاً من استقبال والدتي لي في غرفة الجلوس، وموقناً أنّ دفء حضنها في انتظاري. كنتُ حرّاً لأن أجول في خيالي وأسرح متصوراً المستقبل. اليوم يتم تقييد حريتنا فما عاد خيالنا خصباً لأننا كلّ يومٍ نُصدَم بالواقع.

حتى أوكرانيا التي احتضنت أخي وجعلتني متلهفاً إلى زيارتها والمشي في كلّ الأماكن التي جالها أخي فيها، تتعرض اليوم لاجتياحٍ قذر ويعاني أفرادها من التهجير وانعدام أساسيات العيش

حتى أوكرانيا التي احتضنت أخي وجعلتني متلهفاً إلى زيارتها والمشي في كلّ الأماكن التي جالها أخي فيها، تتعرض اليوم لاجتياحٍ قذر ويعاني أفرادها من التهجير وانعدام أساسيات العيش. المسبب نفسه: أصحاب الفكر الجماعي يرفضون الاعتراف بنا كأفراد، ويرغموننا على أن نخضع لتصنيفاتهم كفئة، أو مجموعة، أو أمّة من تصميمهم الخاص. يسرقون حريتنا بحجج لا يألفها عاقل، ويحاولون جاهدين إظهار أنفسهم كمنقذين ومخلصين.

العالم لا يُبنى بحذاءٍ عسكري فوق الرؤوس، بل بمصافحة الأيدي وعقد الاتفاقيات بشكلٍ طوعي بين الأفراد. البناء يتطلب الحرية والتبادل التجاري الطوعي والتنقل الحر.

الحرية والفردية لا تتجزآن. الأفراد هم الأحرار، وهم من يصنعون الدول، وهم من ينشئون المجتمعات. لا دولة أهم منهم ولا مجتمع، فلا وجود لدولة أو لمجتمع أو أمة من دونهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بين دروب المنفى وذكريات الوطن

خلف كلّ مُهاجرٍ ولاجئ، حياة دُمِّرت وطموحاتٌ أصبحت ذكرياتٍ غابرةً، نُشرت في شتات الأرض قسراً. لكن لكلّ مهاجرٍ ولاجئ التمس السلامة في أرضٍ غريبة، الحقّ أيضاً في العيش بكرامةٍ بعد كلّ ما قاساه.

لذلك هنا، في رصيف22، نسعى إلى تسليط الضوء على نضالات المهاجرين/ ات واللاجئين/ ات والتنويه بحقوقهم/ نّ الإنسانية، فالتغاضي عن هذا الحق قد يؤدّي طرديّاً إلى مفاقمة أزمتهم والإمعان في نكبتهم. 

Website by WhiteBeard
Popup Image