تعد سوريا من المواطن الشهيرة في إنتاج العنب، كأرض كانت ولا زالت حُبلى بنشوة الكرمة، واحتفالات الربيع.
لذلك، كانت تاريخياً من أوائل البلاد التي عرفت شتى أنواع الخمور المنتجة من أعنابها المميزة، لتوافرها على التربة المناسبة والمناخ المُلائم لتلك الزراعة التي بقيت لعهود طويلة تحمل طابعاً تقديسياً منذ الحضارة الفينيقية، حيث ارتبط النبيذ باسم الإله أدونيس وبالخمر وإنتاجه، تحديداً، في مناطق الساحل السوري. وكان الشراب المُفضل على موائد القياصرة الرومان، لا سيما نبيذ القلمون ومعلولا وعنبها المعروف بـالـ"عبيدي".
كلُ النبيذ محرمٌ إلا النبيذ الصرخد
أحد أسماءه الشهيرة هو "بارجيلوس"، وهي التسمية الهلنستية اليونانية لجبال اللاذقية حالياً. والتي اعتمدها الأخوان ساندرو وكريم سعادة لنبيذهما لدى إنشاء معملهما في محافظة اللاذقية عام 2003، والذي يحصل على كرمته من مزرعة خاصة في ريف المحافظة الشمالي.
يتم تصدير هذا النوع الفاخر إلى الأسواق الأوروبية، وإلى أبرز فنادق لندن ( لاتولييه جويل روبيشون، كلاريدج، دورتشستر).
اليوم ليست هناك أرقام دقيقة حول كمية الصادرات السورية للخارج من النبيذ الأحمر، فبسبب العقوبات الخارجية والحصار الاقتصادي المفروض فمعظم ما يُنتج يتم استهلاكه محلياً.
يعلّق الذواقة الفرنسي وصانع النبيذ الشهير "ستيفان دورينونكور" على العنب السوري في تلك المنطقة بالقول: "لديهم نوعان من التربة، كما أن الهواء بارد، مع وجود فوارق كبيرة في درجات الحرارة بين الصباح والمساء، كل ذلك ملائم جداً لإنتاج أفضل حبات العنب وأفخر أنواع النبيذ".
في المقابل، هناك دائماً منافسة طريفة بين منتجي الأعناب في منطقتي جبل العرب والساحل. حيث يستشهد أهل الجبل بقول امرؤ القيس في شعره: "كُلُ النبيذ محرمٌ إلا النبيذ الصرخد"، ويقصد هنا منطقة صرخد في الجبل.
كيف يُصنع النبيذ
أبو فاضل (55 عاماً) والذي يسكن في قرية قرب مصياف، مزارع وواحد من أفضل صناع النبيذ في المنطقة، يتحدث لرصيف22 حول أول مراحل هذه الصناعة العتيقة التي تبدأ مع نهاية الصيف وبداية الخريف من العام.
هناك منافسة دائمة بين منتجي الأعناب في منطقتي جبل العرب والساحل، ويستشهد أهل الجبل بقول امرؤ القيس "كُل النبيذ محرمٌ إلا النبيذ الصرخد"، ويقصد بها منطقة صرخد في الجبل
بعد قطاف المحصول من الأعناب مكتملة النضوج ذات اللون الأحمر أو الأسود أو الأزرق الداكن مرتفع الحلاوة، يتم انتقاء الحبّات بدقة وترك "الحمشول" -أي الحبّات المهترئة والزبيب-، تترك حبات العنب المنتقاة دون أن تُغسل مطلقاً بسبب حساسية العنب للماء في عملية التخمير اللاحقة ما قد يؤدي إلى حموضته.
ثم يُصار إلى فرشها تحت أشعة الشمس لمدة تتراوح من 4 إلى 10 أيام، خلال هذه الفترة يُعمل على تقليبها باستمرار بغية التخلص من الرطوبة وتركيز نسبة السكر وتنشيط الخميرة التي يحتويها العنب بصورة طبيعية.
ثم تُجمع الأعناب ويتم عصرها إما بالأيدي أو الأرجل بعد ارتداء أحذية أو أكياس نظيفة ويوضع العصير في أوعية خاصة و"قطارميز" من البلاستيك حسب الكمية بـ"كبيسها ومعصورها"أي العصير والقشور معاً لتبدأ مرحلة "التخمير اللاهوائي".
تغلق تلك الأوعية بإحكام بواسطة النايلون، ويشير أبو فاضل أنه يجب في هذه المرحلة عدم تعبئة الأوعية بالكامل لئلا يفور محتواها إلى خارجها. كذلك يُثقب النايلون بقلم رصاص وإدخال خرطوم بلاستيك يتم وصله بقنينة ماء، تسمح هذه العملية بخروج الهواء والغازات الناتجة عن عملية التخمير من العنب دون أن يدخل الهواء من الخارج إلى داخل الوعاء.
تترك حبات العنب المنتقاة دون أن تُغسل بسبب حساسية العنب للماء في عملية التخمير اللاحقة ما قد يؤدي إلى حموضته، ثم يُصار إلى فرشها تحت الشمس لمدة تتراوح من 4 إلى 10 أيام
تتراوح مدة هذه المرحلة ما بين عشرة إلى عشرين يوماً، حتى تتوقف حركة تلك الفقاعات الغازية. وبالتالي، تؤخذ نواتج عملية التخمير التي يُصار إلى عصرها وتنقيتها بدون قشورها لتدخل مرحلتها الأخيرة عبر التخمير البطيء الذي تترواح مدته بين 20 إلى 40 يوماً، بعد ذلك يمكننا القول بأن النبيذ أو ملك المشروبات الروحية قد أصبح جاهزاً.
يتم تعبئته في زجاجات النبيذ الخاصة معتمة اللون، ويتم إغلاقها بإحكام باستخدام الفلين وتوضع بشكل منبطح، والغرض من ذلك ترسب بقايا النبيذ في قعر القنينة، وقد يعبأ في عبوة زجاجية أكبر سعتها "أربع ليترات إلا ثلثاً" وتسمى شعبياً بـ"الدبجانة".
يحفظ النبيذ المنتج في مكان معتم بعيداً عن عوامل الحرارة وأشعة الشمس والرطوبة. يقول أبو فاضل أنه يمتهن هذه الصناعة لأغراض التجارة الضيقة ضمن محيطه الاجتماعي، حيث يبلغ سعر الليتر الواحد من 7000 إلى 9000 ليرة سورية أي ما يعادل 1.5 دولار.
فك اللغز في الحلو والمزّ
ما هو الفرق بين النبيذ الجاف أو المزّ الذي يتمتع بطعم لاذع، والنبيذ الحلو؟ يجيب أبو فاضل عن هذه النقطة المُحيرة لغير العارفين بخصوصيات النبيذ، فالنبيذ المزّ يُصنع من عنبٍ غير ناضج أو مكتمل التخمير تحول سكر أعنابه إلى كحول بالكامل، فلا تتعدى نسبة السُكر فيه 1%.
فيدخل في مرحلة التخمير الهوائي لمدة أسبوع تقريباً ليسمح الأوكسجين بتحويل السكريات إلى كحول أو "إيثانول" علمياً، قبل أن يدخل مرحلة التخمير اللاهوائي.
أما الحلو والذي يسميه بعض الشريبة بـ"شراب السيدات"، فهو العنب الذي يتم سحبه قبل اكتمال نضوجه وترتفع نسبة سُكره لتصل ما بين 10 إلى 15%، ولا تتجاوز مدة تخميره 40 يوماً لدى البعض دون أن يدخل في مرحلة "التخمير الهوائي".
النبيذ المزّ يُصنع من عنبٍ غير ناضج أو مكتمل التخمير، تحول سكر أعنابه إلى كحول بالكامل، فلا تتعدى نسبة السُكر فيه 1%، أما الحلو فهو العنب الذي تم سحبه قبل اكتمال نضوجه وترتفع نسبة سُكره لتصل ما بين 10 إلى 15%
نبيذ صباحي للفلاحين
يأتي النبيذ وعاداته سوياً، فهو ليس بالمشروب الذي يرضى بالقليل، فالكأس الذي يشرب فيه بعنق طويلة وقاعدة زجاجية مدورة، حيث يتم تعبئته بأناة حتى ثلثه، وشربه عبر مسكه من العنق أو القاعدة، ويُشرب بارداً دون أية أضافات كالثلج أو الماء، بعد طقس التذوق الذي يسبقه تحريك الكأس لـ"تهوية" النبيذ، ومن ثم شمه وتذوقه.
البعض يدللونه بوضع قطعة فاكهة في الكأس، مع صحن من الأجبان كـ"مزة" مُفضلة عن غيرها بقربه. ويتم طرق الكؤوس ببعضها وتبادل الأنخاب، للتقرب من النديم والاحتفاء به، لكن هذا الطقس "النخبوي" للشراب قليل الممارسة شعبياً، إذ يغلب استخدام الفواكه والمكسرات كمازة إلى جانب الشراب.
كان كبار السن من الفلاحين يشربون كأساً من النبيذ قبل خروجهم إلى حقولهم في صباحات الشتاء البادرة لتدفئة أجسادهم ومنحهم الطاقة على اعتبار أنه مشروب شتوي كما يقول أبو محمد (45 عاماً) لرصيف22 والذي يعمل موظفاً. فبالنسبة للرجل الأربعيني لا يخضع هو ولا ندماه للـ"إتيكيت" المتبع، فجلسات النبيذ تأخذ لديهم طابعاً يومياً، فإلى جانب ما يضيفه من مازات كالمكسرات وبعض الفواكه المجففة المتوفرة كالزبيب. يرافق ضرب الإنخاب وتبادلها أحياناً، العزف على آلة العود وغناء المواويل والعتابات في محاولة لتناسي همومهم اليومية والمعيشية بشيء من السلطنة الممزوجة بالشرب الممتع.
كان كبار السن من الفلاحين يشربون كأساً من النبيذ قبل خروجهم إلى الحقول في صباحات الشتاء لتدفئة أجسادهم ومنحهم الطاقة
هنالك العديد من التفسيرات التاريخية لعادة تبادل الأنخاب أو "كاسك"، أكثرها شهرة الذي يقول أن أصلها يعود إلى تأكيد الاتفاقيات والمعاهدات بين المتحاربين عبر اختلاط الأنبذة في الكؤوس، فإذا كان أحدهم قد وضع سماً في كأس الآخر، نزل في كأسه منه عبر قرع الكؤوس ودمج شرابها.
تحمل طقوس الشراب طابعاً دينياً أيضاً، يتحدث وديع (40 عاماً)، وهو طالب جامعي لرصيف22، أن النبيذ يُقدم في قداديس الآحاد بعد "لكّه" وتغميسه بالخبز للمصلين. الخبز يرمز إلى جسد المسيح والنبيذ إلى دمه، ويُسمى بـالـ"قربان المقدس". كذلك يُقدم في حفلات الزواج الكنسية دون خبز ويُسمى بـ"سر الزواج".
يُشير وديع أيضاً إلى مقولة منسوبة للمسيح" قليل من الخمر تُفرح قلب الإنسان"، دون أن ترد في أي من الأناجيل المعروفة، والتي يعتبرها البعض حجة لهم في تناول الخمر والإفراط به. فلا يرد في الأناجيل إلا ما نصح به بولس الرسول تلميذه ثيموثي قائلاً: "استعمل الخمر قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" (23:5).
"أقبل الليلُ فهيّا للمُدام"
لم يغب النبيذ عن عتابات ومواويل وموشحات أهل المنطقة، حتى دخل في وجدانهم وموروثهم. فهي "خمرة الحب"، وهي المناداة بالمناجاة إما لساقٍ ننادمه بـ"المُشتكى". أو نضرب الكؤوس بعضها ببعض مترنمين بشجو "أنا في سُكرين من خمر وعين".
لا يخرج وصف الخمرة، عما ذهبت إليه التواشيح الساحرة. فهذا عاشقٌ يشكو قلة حظه في الحُب متعللاً:
شربتي يا بنت خمري وميتي
وتركتي الروح تلفانة وميتي
أو هذا الموال الذي يتردد كثيراً في سهرات الأصدقاء:
شربت الخمر من صافي شفاها
طريق العشق يبدا من شفاها
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.