شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
واحد صفر عزيزي القارئ... ليس مهماً لصالح من

واحد صفر عزيزي القارئ... ليس مهماً لصالح من

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الأربعاء 1 فبراير 202301:40 م

"الكتابة هي فنّ إلقاء القبض على القارئ". هذا تعريف تقني يبدو في ظاهره صحيحاً، لكنه يحمل في طياته الكثير من التعالي، والكثير من اللصوصية. هو تعريف أمني، أو في أحسن الأحوال، يجوز أن يكون تعريفاً تجارياً، يرغب من خلاله الكاتب أن يستحوذ على القارئ المفترض.

ليس من المعقول أن يكون قارئاً ما، هو من صاغ هذا التعريف. فالصياغة، لا شك، تبدو صادرة عن كاتب يظن أن وظيفته تسويقية بالأساس. ففي السوق تستطيع أن تبيع بضاعتك وأن "تقبض" ثمنها، وحين يتعذّر عليك أن تقبض هذا الثمن، فليس أمامك إلا أن تقبض على المشتري نفسه، وهو القارئ في هذه الحالة.

لماذا يعتقد الكاتب الذي يؤمن بهذا التعريف أن القارئ متهم، ويجب عليه الانصياع لتعليماته؟ لأنه لم "يتربى" على أن يكون قارئاً، أو لأنه لم يجرّب ذلك.
من الواضح أن التعريف أعلاه غير موفق، وعلينا أن نجرب تعريفاً مختلفاً. لنقل إن الكتابة حالة وعي، أو حالة من الفهم، توصّل إليها الكاتب عبر تجربته الطويلة في القراءة. يبدو هذا جيداً بما فيه الكفاية، لنقول إنه لا يمكن أن تكون كاتباً مرموقاً إن لم تكن قارئاً مرموقاً أيضاً، وفي هذه الحالة لست بحاجة لأن تقبض على أحد، فعلاقتك مع القارئ علاقة تشاركية إن جاز التعبير.

أنت توصلت، عبر قراءاتك بالأساس، إلى فهم معين حول قضية معينة، وتريد أن تشاركه هذا الفهم. لست معنياً أبداً لا باصطفافه إلى جانبك ولا بتمترسه ضدك أو في جهة أعدائك. إن أعجبته الفكرة التي كتبتها له فهذا جيد، وإن لم تعجبه فهذا جيد أيضاً. هو حر وأنت عليك أن تحترم هذه الحرية. لكنك تتفاجأ، في كثير من الأحيان، أن القارئ الذي رفضت أن تكون من الصنف الذي يقبض عليه، يريد أن يقبض عليك هو. لا يكتفي بعدم الإعجاب بفكرتك، أو برفضها، بل يبدأ بكيل الاتهامات لك، ويبدأ بتصنيفك. فأنت إما تتبع لجماعة ما، أو مموّل من جهة ما، أو في أحسن الأحوال، يتم استغلالك واستغلال قلمك من قِبل الأعداء دون أن تدري.

هو يريد كاتباً على مقاسه أو على مقاس فكرته، كاتباً يؤكّد له أن معارفه صحيحة واعتقاداته لا تشوبها شائبة. لماذا يفعل ذلك؟ لأنه "تربّى" على نفس المقولات التي جعلته فرداً لائقاً في الجماعة

هو يريد كاتباً على مقاسه أو على مقاس فكرته، كاتباً يؤكّد له أن معارفه صحيحة واعتقاداته لا تشوبها شائبة. لماذا يفعل ذلك؟ لأنه "تربّى" على نفس المقولات التي جعلته فرداً لائقاً في الجماعة. يسمع صباحاً نفس الكلام الذي تسمعه الجماعة، ويسمع مساءً نفس الكلام المحفوظ جيداً، وحتى في القبر يعرف مسبقاً الأسئلة التي ستُطرح عليه، وهي نفسها التي ستُطرح على أفراد الجماعة. كيف تجرؤ أيها الكاتب الذي توصل إلى فكرة مختلفة أن تطرحها بهذه السهولة؟
التعريف السابق إشكالي أيضاً ويندرج تحت المختلف اللامقبول، لنجرّب تعريفاً ثالثاً، ولنقل إن الكتابة حالة التزام مع الذات ومع القراء. لا أعني هنا الالتزام الزمني أو المتواتر، بقدر ما أعني الالتزام الأخلاقي. أن تتبنى خطاً قيمياً أو فكرياً تعتقد أنه يساهم في تغيير القارئ نحو الأفضل. لكن هذا التعريف يصطدم بخداع الذات من أجل العيش، والكاتب ماهر دوماً بخداع ذاته ليستطيع الاستمرار. هو يدير علاقة متشابكة وغير صحية مع أناه؛ لها الصباح وله المساء، لها الشعر وله السياسة، لها الحكمة وله السخرية. لكنه في اللحظة التي يجلس فيها مع ذاته ليتناقشا، أو ليتوصلا إلى تفاهم ما، تتحوّل هذه العلاقة إلى سأم وملل. تصير مثل علاقة زوجية باردة أو مثل صلة رحم بائسة.
هذا التعريف يفشي أسرار الكاتب لقرّائه، وهو غير مضطر لذلك إلا في حالة العوز أو قلة الموهبة.

لنبحث عن تعريف آخر أكثر علمية ولا يستدرّ عواطف من كنا نريد القبض عليهم. لنتفق أن الكتابة حالة ترميز عليا، أو هي حالة تشفير متقنة. إنها لغة جديدة تطوّرت بالطريقة ذاتها التي تطوّرت بها اللغات البشرية الأولى. لقد كان الإنسان القديم يقول لابنه: احضر لي شيئاً قليل الصلابة وقليل الحجم ولا يوجد على سطحه نتوءات تجرح، أريد أن أضعه تحت رأسي كي أنام. تطوّرت لغة الإنسان هذا عبر تطور أدواته، وعبر صياغة مصطلحات جديدة وصار يقول: اعطني وسادة. لقد قام بترميز لغته واختصارها، ولم يعد بحاجة للشرح المطوّل للفعل الذي قام به أو يريد القيام به. لقد أطلق على الأشياء مسميات تناسبها، ثم تبنى هذه المسميات كل أفراد الجماعة.

كان القارئ يستغرق 13 ثانية ليقرر الاستمرار في قراءة مقال ما أو قلب الصفحة. أما الآن، فالدراسات تشير إلى أن القارئ يصرف من 3 إلى 5 ثوان فقط، فيا عزيزي الكاتب المغرم بالقبض على القراء، لديك ثلاث ثوان فقط لتفعل ذلك قبل أن يطيروا

بعد ذلك بزمن طويل، جاء علماء الرياضيات الزعران واكتشفوا ترميزاً جديداً للغة. لا يعنيهم أن تقول لهم: انطلق فلان بسيارته من رام الله متوجهاً إلى نابلس، وكان يسير بسرعة ثلاثين كيلومتراً في الساعة... الخ. كل هذه الجملة لا يريدونها ولا يلزمهم سماعها. هي بالنسبة لهم "س"، وأنت أيها القارئ عليك أن تعرف "ص". لكن ليس كل القراء زعران رياضيات ويمكنهم استنتاج "ص". هم أصلاً لم يستطيعوا، بعد، فهم المُعرّف وهو "س" فكيف لهم أن يكتشفوا المجهول "ص"؟ لهذا السبب فإن الرياضيات علم مكروه من غالبية الناس، رغم أنه علم الأذكياء كما هو معروف. لكنني أستطيع التنازل عن ذكائي، ولا أريده، إن كان عليّ أن أتحدث بلغة الأحرف هذه.

في حارتنا يتحدثون بلغة مفهومة للجميع؛ لغة فيها فلان الذي قاد سيارته من رام الله إلى نابلس. وصل أو لم يصل، سنعرف حين يعود، فمن أنت لتطلب منا معرفة الدقيقة المتوقعة لوصوله عبر "سيناتك" و"صاداتك"؟ في حارتنا نودعه بالكلام ذاته ونستقبله بالكلام ذاته، وإن صار وتعرض لحادث، لا سمح الله، فإن أسئلة القبر هي ذاتها. سهلة وإجاباتها معروفة، ولا تتطلب منا إلا الحفظ.
بعد زعران الرياضيات جاء مجانين الكمبيوتر، واستغنوا عن "السينات" و"الصادات"، حتى قبل أن نفهمها. لقد حملوا هذه اللغة وألقوا بها في سلة المهملات على شاشة الكمبيوتر، وجاءوا لنا بلغة جديدة كلياً، عناصرها الصفر والواحد فقط (01). كل العالم يتحدث الآن لغة مكوّنة من رقمين لا أكثر. الصفر والواحد ليسا رقمين منطوقين في هذه اللغة، بل هما اللغة ذاتها التي يتحدث بواسطتها العالم.
بواسطة الصفر والواحد يكتب الكُتّاب، على شاشة الكمبيوتر، ويقرأ القرّاء. بعض الكتاب يريد القبض على أكبر عدد من القراء، ولكنه يفقد هذه القدرة بسبب النزق الذي خلقته الشاشات عند القارئ.

فمنذ سنوات كان القارئ يستغرق 13 ثانية ليقرر الاستمرار في قراءة مقال ما أو قلب الصفحة، أقصد الشاشة، إلى موضوع آخر. مع الوقت وكثرة الضجيج في وسائل التواصل انخفض هذا الزمن إلى 7 ثوان لا غير. أما الآن، فكل الدراسات تشير إلى أن القارئ يصرف من وقته من 3 إلى 5 ثوان فقط، ليقرّر إن كان سيستمر في القراءة، أو سيذهب إلى موضوع مختلف، عبر حركة صغيرة من إصبعه. فيا عزيزي الكاتب المغرم بالقبض على القراء، لديك ثلاث ثوان فقط لتفعل ذلك قبل أن يطيروا.
للخروج من معضلة الثواني القليلة، اخترع لنا العلم فكرة التمويل. يستطيع الكاتب أن يموّل مقاله ليظهر عند أكبر عدد من القراء، تماماً كما يفعل من يروّج لصنف شامبو أو لحفلة إفطار رمضاني. وهكذا صار لدينا فئة تعتقد أنها تكتب، وفئة أخرى تعتقد أنها تقرأ، والنتيجة... واحد صفر يا عزيزي، ليس مهماً لصالح من.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard