"إن هذا النهر المبارك مع كثرة بركاته قد يأتي بأضرار عظيمة، فإذا غار شَرَقَت الأرض، وإذا فار غرقت الأرض، إلا أن فورانه وطغيانه أقل ضرراً من غوره ونقصانه".
بهذه العبارة صدرت صحيفة الحقوق عام 1887، وطبقاً لأرشيف الصحف الصادرة بالقرن التاسع عشر، والذي تنشر "بوابة الأهرام" مقتطفات منه، فقد بلغ إيراد مصر من المياه في فيضان عام 1887 نحو 150 مليار متر مكعب من الهضبة الإثيوبية، وقد تم تدوين قوته على معبد الكرنك بالأقصر، وهو أعلى إيراد من حصة إتفاقية تقسيم نهر النيل عبر التاريخ، وبلغ الفيضان من القوة بحيث حمل تياره جثث ضحاياه من السودان والصعيد حتى المصب، كما توقفت حركة المواصلات بين المحافظات بسبب طغيان النيل على السكك الحديدية.
نشرت مصلحة "البوسطة" إعلاناً صحافياً في 20 سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، قالت فيه: "نظراً لطغيان النيل، فإن قطارات الركاب الليلية التي تسافر مرتين من منطقة بولاق الدكرور إلى أسيوط توقفت، والإرساليات بين بولاق وأسيوط بالصعيد ستكون في القطار العادي الذي يتحرك في الصباح وليس الليل، أما الإرساليات الصادرة من الإسكندرية فيكون إرسالها كل إثنين وخميس من أيام الأسبوع فقط".
لم يكن فيضان 1887 هو آخر الفيضانات الجارفة التي شهدتها مصر قبل بدء بناء سدودها الحديثة، فقد تلته عدة فيضانات هادرة قبل أن ينخفض إيراد النيل عدة سنوات، ما دفع السلطات للبدء في مشروع مؤجل ببناء سد "خزان أسوان" الذي بدأ العمل فيه عام 1898 ليؤدي غرضي حماية الأراضي المصرية من الغرق في أوقات ارتفاع الفيضان وحمايتها من العطش في أوقات تراجعه.
عندما قامت ثورة يوليو عام 1952 فكر مجلس قيادة الثورة في إعادة رفع خزان أسوان للمرة الثالثة أو بناء سد جديد في مصر أو خارجها، واستقر الرأي على مشروع السد العالي بموقعه الحالي على بعد سبعة كيلومترات جنوب سد خزان أسوان القديم
كان خزان أسوان هو المشروع النهري الثاني من حيث الحجم والأهمية لأسرة محمد علي الحاكمة، تالياً على مشروع القناطر الخيرية التي كانت تستهد تنظيم مرور مياه الفيضان إلى أراضي الدلتا الواسعة والعالية الخصوبة. لكن بعد سنوات من إنشائه ورغم تعليته مرتين أولاهما في 1912 والثانية في 1926، لم يعد خزان أسوان قادراً على صد عنفوان النهر في السنوات السخية، وبات على الدولة أن تجد وسيلة جديدة لإنقاذ أرواح الناس، خاصة في الصعيد حيث يتكاثر عدد ضحايا الفيضان.
فكرة إنشاء السد العالي
عندما قامت ثورة يوليو عام 1952 فكر مجلس قيادة الثورة في إعادة رفع الخزان للمرة الثالثة أو بناء سد جديد في مصر أو خارجها، وكانت هناك أفكار عديدة لمشروعات متنوعة للتخزين بين البحيرات الإستوائية أو السودان، واستقر الرأي على مشروع السد العالي بموقعه الحالي على بعد سبعة كيلومترات جنوب سد خزان أسوان القديم، "حتى يكون تحت سيطرة مصر ولا تصبح البلاد رهينة لمشروعات مائية موجودة خارج حدودها"، حسبما يذكر سامي شرف، السكرتير الخاص لجمال عبد الناصر في كتابه "سنوات مع عبد الناصر".
بحسب شهادة شرف المسجلة في كتابه، فالفكرة لم تكن لضباط المجلس، وإنما لمواطن يوناني مصري، كتب شرف: "جاء رجل يوناني من أصول مصرية إسمه دانينوس عام 1955 وتقدم بمشروع اقتنع به مجلس قيادة الثورة، كما تولى دراسة المشروع البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وأخذ عبدالناصر يبحث عن مصادر لتمويله".
بعد انتهاء العدوان الثلاثي توجهت مصر إلى الاتحاد السوفياتي لاستكمال بناء السد، الذي اكتمل عام 1970 وافتتح رسمياً في 15 يناير/ كانون الثاني من العام 1971
وبعد مباحثات ومفاوضات ودراسات دولية، تم الإتفاق بين مصر والبنك الدولى والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في 8 فبراير/ شباط 1956 على تمويل السد العالي بتكلفه قدرها حوالى 1.3 مليار دولار، إلا أن أطراف الاتفاق قررت التراجع عنه، بعدما أخذ ناصر طريق تعميق العلاقات مع الاتحاد السوفياتي، وأخذ تعهدات منه للمساهمة في تمويل السد.
أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا الانسحاب من تمويل المشروع في 19 يوليو/ تموز من العام 1956، وتلاهما البنك الدولي الذي لم يجد ضامناً لنجاح المشروع بعد انسحاب أبرز مموليه، وبالطبع رد عبد الناصر بتأميم قناة السويس الذي أطلق في المقابل "العدوان الثلاثي" على مصر.
بعد انتهاء العدوان بسبب إدانة الأمم المتحدة وصمود المقاومة الشعبية في محافظات القناة في ظل غياب ملحوظ للجيش المصري وقتها، أعلن انسحاب أطراف العدوان الثلاثي (الفرنسي – البريطاني- إسرائيل) وتوجهت مصر إلى الاتحاد السوفياتي لاستكمال بناء السد، الذي اكتمل عام 1970 وافتتح رسمياً في 15 يناير/ كانون الثاني من العام 1971.
السد العالي في مواجهة سد النهضة
بحسب خبير الجيولوجيا والمياه الدكتور عباس شراقي، استطاع السد العالي منذ إنشائه أن ينقذ مصر من فترة جفاف بالغة بين عامي 1981 و1987 (سبع عجاف). كما كان السد نفسه حاجز أمان من تيار النهر الهادر خلال فيضانات 1988 و1998 و2001.
ووفقاً لتصريحات وزير الموارد المائية هاني سويلم، الذي أدلى بها في جلسة برلمانية حول مخاطر سد النهضة الإثيوبي، فإن الحكومة تخطط لاستخدام موارد السد العالي المخرنة في بحيرة ناصر لسداد الاحتياجات المائية للمصريين بعد استقطاع إثيوبيا – بقوة الأمر الواقع- مقداراً من حصة مصر في المياه المقدرة بـ55 مليار متر مكعب. ولم يفصح الوزير أمام البرلمان إذا كانت هناك أية خطط أو تحركات أخرى لمنع إثيوبيا من استقطاع حصص المياه المصرية كما لم يذكر خطة الحكومة لسداد الاحتياجات المائية بعد نفاد مخزون السد.
رئيس الوزراء الأثيوبي الأسبق ميلس زيناوي "أراد بناء سد يقترن إسمه باسم السد العالي، لذلك سماه سد الألفية باعتباره سيكون أكبر سد في الألفية الجديدة، ورفع قدرة التخزين إلى 74 مليار متر مكعب من المياه"
سد النهضة مشروع أمريكي قديم
وفقاً لورقة قدمها عباس شراقي إلى المؤتمر الدولي الخامس عشر لعلوم المحاصيل، يعد سد النهضة واحداً من أربعة مشروعات نهرية كبرى، قامت الولايات المتحدة بإعداد دراسات حول إمكانية إنشائها بين عامي 1958 و1964. ووضعته الدراسات الأمريكية تحت مسمى "سد الحدود".
بدأت إنشاءات السد في ديسمبر/ كانون الأول 2010 قبل أسابيع قليلة من الثورة المصرية التي يتهمها الرئيس الحالي بالمسؤولية عن تحركات إثيوبيا في مسألة السد.
وفي 11 إبريل/ نيسان 2011، وضع رئيس وزراء إثيوبيا الأسبق ميليس زيناوي حجر الأساس لبناء السد المقام على النيل الأزرق، حيث مصدر إمدادات مصر المائية. وتعثرت إثيوبيا في إيجاد التمويل للسد حتى نجحت عبر الإتفاقية الغطارية الموقعة مع رئيسي مصر والسودان في 2015 أن تستعيد ثقة مؤسسات واطراف دولية لتمضي سريعاً في بناء السد وتعليته مرات متتالية.
أعلنت وزارة الري والموارد المائية المصرية خلال المباحثات المصرية الأثيوبية السودانية حول سد النهضة، أن القاهرة "لديها مخاوف حقيقية بشأن سلامة سد النهضة الإثيوبي وطريقة تشييده"
في ورقته التي سبقت الإشارة إليها، يقول الدكتور عباس شراقي إن التصميم الأصلي للسد كان بسعة تخزين 11 مليار متر مكعب فقط، ومن الممكن تطويرها إلى 14 مليار متر مكعب، لكن رئيس الوزراء الأثيوبي الأسبق ميلس زيناوي "أراد بناء سد يقترن إسمه باسم السد العالي، لذلك سماه سد الألفية باعتباره سيكون أكبر سد في الألفية الجديدة، ورفع قدرة التخزين إلى 74 مليار متر مكعب من المياه".
وخلال المفاوضات الثلاثية، رفضت الحكومة الإثيوبية – ولا تزال ترفض- مشاركة أية معلومات حول سد النهضة مع دولتي المصب مصر والسودان، ومنها الرسومات الهندسية والدراسات الجيولوجية والمائية الخاصة به، وتسبب ذلك في خلاف بين الجهات الثلاثة نظراً لما قد يمثله السد من خطورة على دولتي المصب حال تعرضه لمشكلة.
وأعلنت وزارة الري والموارد المائية المصرية علي لسان الدكتور محمد عبد العاطي وزير الري الأسبق خلال المباحثات المصرية الأثيوبية السودانية حول سد النهضة، أن القاهرة "لديها مخاوف حقيقية بشأن سلامة سد النهضة الإثيوبي وطريقة تشييده"، ولفت إلى أن هناك ما يدعو للقلق لأن الجانب الإثيوبي "لم يقدم أي تقارير أو مستند تترجم تصريحاته ببناء السد بطريقة آمنة، وبالتالي لا يوجد لدينا ما يؤكد أن تلك الإجراءات تم اتخاذها".
وخلال الجلسة الختامية لأسبوع المياه الرابع استعرض الدكتور هشام العسكري، أستاذ علوم البيانات والاستشعار عن بعد بجامعة تشابمان بالولايات المتحدة الأميركية، دراسة عن استخدام الصور الرادارية والأقمار الصناعية حول سد النهضة، مشيراً إلى رصد "هبوط كبير فى البوابات التى تم فتحها لتصريف المياه"، وذهب إلى تاكيد مخاوف مصرية حول وجود عيوب في جسم السد وعدم الصلاحية الجيولوجية للاراضي التي أقيم عليها السد وخزانه.
وفي منتصف عام 2022، أطلقت المستشارة هايدي فاروق مستشارة ترسيم الحدود وعضو الجمعية الجغرافية المصرية، تحذيراً زعمت فيه "اقتراب تسريب سد النهضة بقوة من سد السرج الركامي المُكمل لسد النهضة". في تأكيد جديد على المخاوف المصرية من انهيار السد الإثيوبي، ما قد يشكل كارثة محققة على أراضي السودان بالدرجة الأولى ثم مصر.
مفتاح الأمان
خلال مؤتمر القاهرة الرابع للمياه الذي عقد في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، قال عبد العاطي إن الدولة المصرية تضع في حساباتها احتمال انهيار سد النهضة "ولو بنسبة واحد بالمليون"، وإن الحكومة تعمل على إنشاء بنية تحتية حول السد العالي فى أسوان تستطيع استيعاب كميات كبيرة من المياه تصل إلى بحيرة ناصر فى وقت قصير وغير محددة، كما تشمل البنية التحوط لعدم وصول المياه إلى بحيرة ناصر فى الوقت المحدد (أي الجفاف).
من هنا يعول المسؤولون المصريون على السد العالي في إنقاذ البلاد من نقص المياه الذي قد تتعرض له البلاد في السنوات المقبلة مع استمرار إعلاء السد الإثيوبي، ما يعني احتجاز المزيد من كميات المياه، وندرة المياه التي قد تحصل عليها مصر في السنوات العجاف للدورة النهرية، التي تتحول من الوفرة إلى الجفاف كل سبع سنوات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...