نوستالجيا خفيفة
منذ سنوات طويلة لم أسمع محطة إذاعة بي بي سي، لا دقة ساعة "بيغ بن" المهيبة، ولا "هنا لندن"، ولا الصوت الرزين والنبرة المميزة لمذيعي هذه المحطة، ولاسيما منهم مذيعي الأخبار.
غبت من زمن بعيد عن هذه المحطة ذات العيار الثقيل، التي حافظتْ حتى آخر عهدها على أن تبقى بعيدة عن لوثة السوق وخالية من الإعلانات التجارية، ولكن حين قرأت خبر إقفالها شعرت بالخسارة، دون أن أدري ماذا خسرت بالفعل، أقصد دون أن أدري ما هي خسارتي الشخصية من إغلاق محطة لا أسمعها أو لم أعد أسمعها إلا ما قل وندر. وحين حاولت أن أتأمل لأعرف سبب هذا الشعور، دلّني الحزن على الطريق. حزن الإحساس بذوبان وتلاشي تدريجي لرموز العالم الذي تكوّنتُ فيه.
لم أخسر بي بي سي بوصفها إذاعة، فأنا، كما قلت، لم أستمع إليها منذ زمن غير قليل، وهناك من الوسائل اليوم ما يغنيك عنها. هناك تنوّع وتعدّد هائل بالمصادر التي تصل إلى يديك عبر جهاز يناسب قبضة اليد، وتقدّم لك الخبر بسرعة، مع الصورة والتعليق وإمكانية التفاعل. أنت لم تخسر إذن المصدر الإخباري، ما خسرته هو قدر من الاطمئنان يوازي قيمة هذه الإذاعة ضمن عناصر العالم الذي أحاط بك في مرحلة من العمر. ولكن أي اطمئنان هذا الذي خسرته؟
كانت بي بي سي المحطة المفضلة لكبار العائلة، وعلى اعتبار أنه لم يكن في البيت من وسيلة تواصل مع العالم سوى جهاز الراديو، وكان، فوق ذلك، جهازاً وحيداً، فلم يكن للصغار إلا أن يسمعوا ما يختاره الكبار.
لم أخسر بي بي سي بوصفها إذاعة. ما خسرته هو قدر من الاطمئنان يوازي قيمة هذه الإذاعة ضمن عناصر العالم الذي أحاط بي في مرحلة من العمر... مجاز
الأخبار، على عكس الحكايات، لا تعني الصغار بشيء، ولكن صوت نشرة أخبار بي بي سي ملأت آذاننا منذ الصغر، كما ملأت أبصارنا هيئة الكبار وهم يصغون باهتمام ويطالبوننا بالصمت. على أن عمي الكبير، وقد كان هادئاً بطبعه ويميل إلى التأمل والتحرر العقلاني مما هو سائد.
عبّر ذات يوم عن عدم رضاه عن المحطة، وقال تلك العبارة التي ارتبطت به في ذهني، لأني لم أكن قد سمعتها من أحد غيره من قبل: "إنها تضع السمّ في الدسم"، لم أدر ما الذي دفعه إلى قول ذلك، ولكني لاحظت إنه لم يمتنع، مع ذلك، عن متابعتها كسابق عهده. وكما ارتبطت هذه العبارة بعمي، ارتبطت أيضاً بالمحطة المذكورة. "لكي تضع السم الذي تريد، يجب أن يكون لديك قدراً لا بأس به من الدسم"، هكذا علق أحد كبار العائلة. أما أنا فأدركت حينها أن السم قد يكون شيئاً تسمعه ويمر عبر الأذن وليس عبر الفم.
في الصباح، في فترة الاستعداد للذهاب إلى المدرسة، يخفّف الراديو من وجومه ويصبح أكثر قرباً إلى القلب، مع برنامج مشبع بصوت فيروز. كان يجتمع على هذا مزاجنا مع مزاج الكبار. ولكن الأيام طوت هذا البرنامج هو الآخر قبل سنين طويلة من انطفاء صوت الإذاعة ذات الحروف الثلاثة المنفصلة. هكذا تتغير المعالم. هي عملية هدم وتبدل تثير الحزن في عيون، ولكنها عملية تجدّد وحيوية تثير السعادة، في عيون أخرى ينتظرها الحزن بعد حين.
بي بي سي كانت تقدم أيضاً حكايات وليس فقط نشرات أخبار، تقدم مسلسلات إذاعية ذات سحر خاص، أذكر على سبيل المثال مسلسل "النوق البيض" ومسلسل "الثأر". في موعد المسلسل، في الخامسة عصراً، يوضع جهاز الراديو على الأرض في الوضعية التي يستقر فيها الصوت دون وشيش، يتوقف اللعب والأحاديث وتسكت أصوات المطبخ، ثم نجتمع حول الجهاز نصغي ونستعجل موسيقا المقدمة متشوقين لمعرفة ما سيجري لعصام، الفتى اليتيم المنتمي إلى قبيلة لا يقبل أهلها الضيم، "غرامهم مطاردة الأعادي، وعزّهم الأسنة والسهام"، الفتى الذي قُتل أبوه غدراً على يد رجل آخر، نكتشف إنه والد علياء التي ترتبط بعصام برابط لا ينفك من الحب.
ما الذي سيجري حين سيعلم عصام، من أمه، وقد بلغ عمر الشباب وبات فارساً لا يجاريه فارس، أن أباه قد مات قتلاً، وأن عليه أن يثأر لمقتل أبيه، كيلا "يعيبه العرب الكرام"، وأن غريمه ليس إلا أبا حبيبته علياء؟
هي أضواء تنطفئ. صحيح أنها لا تترك المكان للعتمة، فالأضواء التي تولد أكثر من تلك التي تستقيل، ولكن ما من ضوء يملأ فراغ ضوء آخر احتل مكاناً في وجدانك... مجاز
يأخذنا توالي الأحداث، تضطرب قلوبنا ونحن نتابع المنازلة التي لا مهرب منها. حمحمة خيل ورنين تصادم السيوف. نخاف أن يفشل عصام في الثأر وأن يُقتل هو الآخر، ولكننا نتحسب أيضاً لوقع مقتل غريمه على قلب حبيبته. ثم تنفجر المأساة كالشلال، كما ينبغي أن تكون رسالة المسلسل. يسقط الغريم صريعاً، وتطالب علياء حبيبها بالثأر من قاتل أبيها دون أن تدري من هو القاتل، فيعدها عصام بالثأر ويقتل نفسه على الفور، وما كان من علياء وهي في ذهول ما حدث إلا أن فعلت الشيء نفسه بالسيف نفسه. هكذا كانت تقدم بي بي سي مسلسلات ذات هيبة توازي هيبتها.
نكبر، نتحرر من سيطرة الكبار، نختار من الإذاعات ما يروق لنا، ويروق لنا أن نتمرّد على ما كان يفرض علينا حين لم يكن بيدنا أن نختار. تعجبنا إذاعة مونت كارلو المتحررة من جدية وجمود بي بي سي التي تبدو كأنها جندي لا يعرف الضحك، في حالة استعداد دائم. في مونت كارلو مذيعون مرحون يخاطبون بعضهم البعض بالاسم الأول كأصدقاء، وفيها مذيعات متمكنات يضحكن ويتكلمن اللغة المحكية بعفوية تجعلك تشعر بالراحة. الحرية والتلقائية في مقابل الانضباط والحدود المرسومة بعناية.
صرنا نسخر من بي بي سي على أنها "محطة العجائز"، لكنها مع ذلك ظلت جزءاً عزيزاً من عالمنا الشخصي، يستمر فينا دون أن ننتبه إليه إلا حين يغيب.
صحيح إنه لم يعد لمحطة بي بي سي حضور مباشر في حياتك اليومية كما كان في مرحلة مبكرة من العمر، ولكنها كانت موجودة دائماً في محيط الكادر المباشر لحياتنا، كغيرها من ثوابت الوسط والبيئة التي نشأنا فيها. كان استمرارها سنداً لاستمرار هذا الكادر دون أن تكون مرئية فيه. هي من تلك الأشياء التي يصدمك قرار إغلاقها ويشعرك بالضيق دون أن تستدل على سبب مباشر لذلك.
هي أضواء تنطفئ. صحيح أنها لا تترك المكان للعتمة، فالأضواء التي تولد أكثر من تلك التي تستقيل، ولكن ما من ضوء يملأ فراغ ضوء آخر احتل مكاناً في وجدانك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...