مصائب متتالية ترفض مغادرة العراق الذي اقترن اسمه بمصطلح "الأزمة الدائمة"، إذ لم يكد البلد يخرج من خناق أزمته السياسية التي استمرت لأكثر من عام كامل، حتى بدأت بوادر الأزمة الاقتصادية تظهر إلى العلن، بعد أن تهاوت عملته المحلية إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من 18 عاماً.
تسبب هذا الانهيار المالي باضطرابات كثيرة في الأسواق المالية والتجارية العراقية، ومع حلول رأس السنة الميلادية الجديدة، انخفضت قيمة الدينار العراقي بشكل جنوني، حتى وصلت إلى 1،700 دينار لكل دولار واحد، بعد أن لم تكن تتجاوز 1،270 ديناراً سابقاً، مسببةً أضراراً اقتصاديةً كبيرةً انعكست على المجتمع، على غرار ما يحصل في كُل من سوريا ولبنان.
ظلال الأزمة الحالية ذكّرت الناس بسنوات التقشف التي عاشوها قبل عام 2004، حينها كانت قيمة الدولار الواحد تساوي 3،000 دينار، قبل أن ينخفض تدريجياً منذ منتصف عام 2004.
عقوبات أمريكية
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أعلن البنك المركزي العراقي وقف تعاملاته المالية مع أربعة مصارف أهلية، وهي المصرف الأنصاري الإسلامي والقابض وآسيا العراق والشرق الأوسط، ولكنه لم يوضح سبب خطوته هذه، ولكن شائعات متداولةً أشارت إلى قرب فرض عقوبات أمريكية على بعض المصارف العراقية، ولكن البنك المركزي نفى حقيقة هذه الشائعات.
فرض البنك الفيدرالي في عام 2018، عقوبات على مصرف البلاد الإسلامي التابع لسياسي مقرب من طهران
لم تكن هذه الشائعات مفاجئةً في البلاد، إذ سبق أن وجّه البنك الفيدرالي الأمريكي تحذيرات إلى الجانب العراقي، بوقف تعاملات بعض المصارف في بورصة العملة الأجنبية، وتقييد تدفق الدولار إلى أسواقه، كما سبق أن فرض البنك الفيدرالي في عام 2018، عقوبات مشابهةً على مصرف البلاد الإسلامي التابع للسياسي المقرب من طهران أراس حبيب الفيلي، على خلفية تهريب أموال من المصرف إلى حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني.
بقي الدينار العراقي محافظاً على بعض قيمته، حتى منتصف شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بعد أن تسربت أخبار العقوبات المالية التي فرضها البنك الفيدرالي الأمريكي على 15 مصرفاً عراقياً خاصاً، وهي مصارف مقربة من أحزاب وشخصيات سياسية مقربة من الحكومة الإيرانية بحسب صحيفة لوفيغارو الفرنسية، وضمّهم إلى قائمة الولايات المتحدة السوداء للتعاملات المالية، واتهامها بالتورط في ظاهرة تهريب العملة الصعبة إلى خارج العراق.
ويتحكم البنك الفيدرالي الأمريكي بتدفق الدولار إلى العراق، عبر سيطرته على ودائع النفط العراقي الموجودة في حساب تابع لوزارة المالية في الولايات المتحدة، ويقوم البنك المركزي العراقي بحسب دراسة أعدّها مركز الإمارات للسياسات، منشورة في 24 كانون الثاني/ يناير الحالي، بشراء هذا الدولار من وزارة المالية ويحدد سعر طرحه في الأسواق، وفقاً لكمية الطلب عليه.
في مطلع العام الحالي، وصل سعر الصرف إلى 1،700 دينار لكل دولار واحد، نتيجةً للعقوبات الأمريكية، ولكن هذه العقوبات لم تكن السبب الوحيد خلف الأزمة المالية العراقية واختلال سعر الصرف الحاصل، إذ يعتقد مراقبون أن للسلوكيات الاقتصادية المعتمدة بعد العقوبات تأثيراً مباشراً على مسار الأزمة، لا سيما تلك المتعلقة باستمرار عمليات تهريب العملة الصعبة من البلاد.
حوالات سوداء
احتلت عمليات التهريب نصيبها من الاتهام، وعدّها البعض مسبباً رئيسياً لانهيار الأسواق المالية في البلاد، وتراجع قيمة عملته المحلية.
يشرح الباحث الاقتصادي نبيل جبار التميمي، عن تأثير تهريب العملة بالقول، إن "عمليات التهريب، والمسماة بالحوالات السوداء، تدخل بعد خروجها من العراق إلى الأنظمة المصرفية في دول الجوار، في حين تساهم في زيادة الطلب على العملة الأجنبية داخل البلد، وتسبب في ارتفاع أسعار الصرف مقابل العملة المحلية"، ويستند في رأيه إلى أن أسعار الصرف سرعان ما انخفضت بعد أول إجراء أمني ضد مكاتب الحوالات السوداء.
الحوالات السوداء، تدخل بعد خروجها من العراق إلى الأنظمة المصرفية في دول الجوار، في حين تساهم في زيادة الطلب على العملة الأجنبية داخل البلد، فكيف وإلى أين يتم تهريبها؟
وكانت الحكومة العراقية قد شنّت في 21 كانون الثاني/ يناير الجاري، حملةً أمنيةً ضد محال ومكاتب الصيرفة غير الشرعية في مناطق متعددة من العراق، ولا سيما في بورصتي الكفاح والحارثية.
ويطلَق وصف الحوالات السوداء على الأموال التي تُمرّر بطرق غير شرعية، إلى خارج النظام المصرفي العراقي، وغالباً ما يتم تهريبها براً وبوسائل غير تقليدية/ قانونية.
تهريب الدولار
تلجأ العديد من المصارف إلى تهريب أموالها إلى خارج العراق عبر هذه الحوالات، وقد دفعت الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءاتها الأخيرة، إذ يقول الباحث السياسي غانم العابد، إن "الولايات المتحدة وفي سبيل وقف مثل هذه العمليات، عمدت إلى تأسيس منصة مالية داخل البنك المركزي العراقي، وتحت إشرافها، لمراقبة الأموال العراقية وحوالات العملة الأجنبية".
هذه المنصة دفعت العديد من المصارف إلى الابتعاد عن التداول لدى البنك المركزي، بحسب تصريح العابد لرصيف22، و"بدأت باللجوء إلى الأسواق لشراء العملة الصعبة وتهريبها تالياً، ومن ثم قلّت مبيعات البنك المركزي، وهو ما دفع الدينار إلى الانخفاض أمام الدولار أيضاً".
قد يبدو لجوء بعض المصارف المشمولة بالعقوبات الأمريكية إلى شراء الدولار من الأسواق المحلية منطقياً، ولكن لماذا تلجأ باقي المصارف إلى مثل هذه الخطوات؟ يجيب عن هذا السؤال، مصدر مطلع في البنك المركزي العراقي، بالقول إن "المنصة التي استحدثتها الولايات المتحدة في البنك المركزي، تفرض على كافة المصارف المتعاملة معها، إبراز معلومات حول كافة تحويلاتها المالية والجهات المستفيدة منها، في حين تحاول أغلب المصارف العراقية تجنب الكشف عن هذه التعاملات".
لا يُهرّب الدولار إلى إيران فحسب، ولكن إلى تركيا والأردن وسوريا أيضاً، وتتراوح المبالغ بين 100 و250 مليون دولار أسبوعياً
ويوضح لرصيف22، أن الكثير من المصارف العراقية تعمل ضمن شبكات واسعة، ومرتبطة بشخصيات سياسية وأحزاب رفيعة المستوى، وهذه الشخصيات متورطة بشكل مباشر في عمليات غسيل الأموال، كما تمتلك أسهماً وشركات بأسماء وهمية، منخرطةً في مشاريع الدولة ومشاريع خارجية أيضاً. مثل هذا الجانب يدفعهم للابتعاد عن المراقبة التي فرضتها الولايات المتحدة عبر منصتها مع البنك المركزي العراقي، وتلجأ في سبيل التخلص من هذه المراقبة إلى نقل كميات طائلة من أموالها بصورتها السائلة إلى الخارج، خاصةً أنها تحاول تجنّب الكشف عن الجهات المستفيدة من حساباتها وحوالاتها المالية".
طرق التهريب ووجهتها
تشير معلومات متداولة بين المطلعين على واقع المصارف إلى أن الكثير من هذه المصارف تلجأ إلى تهريب العملة عبر البر أو الشحن الجوي وليس إلى إيران فحسب، ولكن إلى تركيا والأردن وسوريا أيضاً، وتُقدّر أن قيمة المبالغ المهرّبة تتراوح بين 100 و250 مليون دولار أسبوعياً.
وعن ذلك، يقول المصدر في البنك المركزي، إن "هذه المبالغ المعلنة غير دقيقة، وقد تتجاوز هذه الأرقام بكثير، ولكن البنك المركزي لا يمتلك أي إحصائية لإثبات قيمة هذه المبالغ"، ويفيد بأن "عمليات التهريب، غالباً ما تتم عبر وسطاء تابعين للأحزاب السياسية، كما أن الكثير من هذه الأموال يُعدّ من عائداتهم الشخصية أيضاً".
من جهته، ينوه مصدر في وزارة المالية (صرّح شريطة عدم ذكر اسمه)، بأن الوزارة سبق أن حذرت من احتمال فرض عقوبات مالية على المصارف المتهمة بالتهريب وغسيل الأموال نتيجة حجم المبالغ وبرغم عدم القدرة على تحديد كمياتها.
ويشير في حديثه لرصيف22، إلى أن "هذه العقوبات لا تقتصر على مصارف معينة، وشملت المواطنين والشركات أيضاً، التي غالباً ما تلجأ إلى نقل أموالها يدوياً عبر الحدود، وألزمت الجميع بتحويل أموالهم عبر المنافذ الرسمية، كما شددت على تدقيق كميات الأموال المنقولة فردياً ومنع حمل أكثر من 5،000 دولار في اليد، في أثناء السفر، والالتزام بنقل باقي الأموال عبر المصارف المختصة".
إضعاف أذرع إيران
يسود اعتقاد بأن ارتفاع سعر الصرف يرتبط بمحاولات أمريكية لإضعاف بعض الأحزاب الموالية لإيران، وإبعاد تأثيرها عن حكومة محمد شياع السوداني، خاصةً أن الكثير من عمليات التهريب كانت وجهتها إيران بالفعل، وتالياً الولايات المتحدة ترغب في زجّ نفسها في سياسة السوداني الداخلية، وأثارت هذه المحاولات انشقاقات داخل الإطار التنسيقي بالفعل.
وعليه، فإن دوافع واشنطن ورغبتها في إضعاف الدور الإيراني في البلاد غير مستبعدة حالياً، ولكن هذه الأزمة أثرت على المواطنين في الوقت ذاته، وساهمت في زيادة الاضطرابات الداخلية.
واحتشد غاضبون من الأزمة المالية الحالية أمام البنك المركزي العراقي في 25 كانون الثاني/ يناير، مطالبين الحكومة بإجراء إصلاحات من شأنها استعادة قيمة عملتهم المحلية.
الكثير من المصارف العراقية تعمل ضمن شبكات واسعة، ومرتبطة بشخصيات سياسية وأحزاب رفيعة المستوى متورطة بشكل مباشر في عمليات غسيل الأموال، وهكذا تعمل
وسبق أن بدأت الحكومة بسياسة لتلافي الأزمة، منها حملتها ضد مكاتب الصيرفة غير الشرعية، كما منعت بعض المصارف من تحويل أموالها الى خارج البلاد وتحديداً إلى المصارف المصرية، بحسب تقرير نشره ميدل إيست آي.
وفي غضون الأزمة، أقال رئيس الوزراء، محافظ البنك المركزي مصطفى غالب مخيف، وتمّ تعيين علي العلاق بدلاً منه، في 23 كانون الثاني/ يناير الحالي، بسبب ما يُحكى عن عدم اقتناع المسؤولين العراقيين بخطوات المحافظ السابق وسياساته للحد من آثار الأزمة، فيما تشير معلومات إلى أن هناك ضغوطاً سياسيةً مارسها الإطار التنسيقي على رئيس الوزراء من أجل إقالة مخيف، المقرب من الكاظمي والتيار الصدري في آن واحد، وإعادة علي العلاق، الذي سبق أن شغل المنصب نفسه بين عامي 2014 و2020، ويُتهم بالمساهمة في اختلاس ما يقارب 7 مليارات دولار خلال هذه الفترة.
وفي ظل كل هذه الخطوات، لا يزال مستقبل الاقتصاد العراقي مجهولاً، فهل سيتحول إلى رديف للاقتصادات التي طالتها عقوبات البنك الفيدرالي الأمريكي في المنطقة، أم سيغادرها قريباً، ومع كل هذه الاحتمالات، فإن ضغط الأزمة أثقل كاهل المواطنين في البلاد، وقد يشهد البلد اضطرابات شعبيةً جديدةً على غرار ثورة الخبز والجياع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...