شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
من ينقذني من شخوص روايتي الجديدة؟

من ينقذني من شخوص روايتي الجديدة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 26 يناير 202304:19 م

عشتُ تجربة مثيرة. أصحو صباحاً فتصحو معي شخوص روايتي التي أنا بصدد استكمالها "خلوة الإموجي". تشاركني فطوري. إعدادَ البنات للمدرسة. تهيئةَ أمي التّي كانت مشلولة، قبل أن تنتقل إلى جوار ربّها. الخروجَ للتبضع. الذهابَ إلى جلسات العمل الثّقافيّة.

مرّةً، بينما كنت أحمّم أمّي، قالت لي: من هؤلاء الذّين معك؟

- أنا وحدي.

- محال.

- أقسم إنّني وحدي.

تفطن شخوص الرّواية فتغادر الدوش. وإذا بالرّاوي الذّي كان الوحيد الذي لم يفرح بعودتي إلى استكمال الكتابة ولم يستقبلني، يدخل من غير إذن، ويشرع في تحميم أمي معي.

قالت: اليوم حمّمتني جيّداً. كأنّ رجلين اشتركا في ذلك.

لا أملك وقتاً يخلو من التّشويش أكتب فيه ما عدا السّاعات الأولى للفجر إذ ينام الجميع بمن فيهنّ أمّي التّي كانت تقضي اللّيل تتلوّى على عظامها الهشّة، فأصحو لأجلها كلّ ربع ساعة.

في السّابق، كنت أمتشق حقيبة الظّهر وأسافر. أو أخلق لي خلوةً أكون فيها قريباً من البيت، بحيث أكون في المتناول عند النّوازل، فأجد وشخوصي حريتَنا في الحركة والسّكون.

قال لي الرّاوي: غبتَ عنّا شهوراً. لم تنتبه إلى مأساة بقائنا مخزّنين في الجهاز. لا أنت كتبتَنا فحرَّرتنا بأن نصير حقيقةً، ولا أنت أعدمتَ المخطوط، فأعفيتَنا من علقم الانتظار.

كنتُ أبتهج، قال، كلما فتحتَ الجهاز ظنّاً منّي أنّك ستواصل الكتابة، لكنّني كنت أخيب إذ كنت تكتب أشياءَ أخرى عادةً ما تتعلّق بما تسمّيه نضالاً ثقافياً. لقد أضحى الطّفل الذّي وُلد عشيةَ شرعتَ في هذه الرّواية يتسلّق الكلمات، فلماذا هذه القسوة؟ ما معنى أن تقول إنّك تناضل من أجل أن تجد كتاباتُ الآخرين طريقها إلى القراءة، بينما تترك كتاباتك أنت حبيسة الجهاز؟ حتّى كتبك السّابقة نفدت من المكتبات من غير أن تعمل على إعادة نشرها. كثيرون تابعوك في منابرك المختلفة وتعلّقوا بك تعلقاً جعلهم يرغبون في القراءة لك، لكنّهم لا يجدون كتبك في السّوق. أنت صديق النّاشرين. بل إنّ بعض دور النّشر انتعشت بخدماتك، فلماذا لم تعِدْ نشرَ كتبك؟ هل تستمتع بخنق شخوصك قبل النّشر وبعده؟ اسمع. (لم أسمح لنفسي بالرّد لعلمي أنّه محتاج إلى التّطهّر بالعتاب. الرّاوي الذّي لا يُفرغ حمولة العتاب ينتقم إمّا بالانسحاب أو بالثّرثرة المخلّة بالسّرد أثناء الكتابة) إذا سكت عليك الرّواة الذّين سبقوني، فأنا لن أسكت. أرفض أن أستمرّ معك.

لا أملك وقتاً يخلو من التّشويش أكتب فيه ما عدا السّاعات الأولى للفجر إذ ينام الجميع بمن فيهنّ أمّي التّي كانت تقضي اللّيل تتلوّى على عظامها الهشّة، فأصحو لأجلها كلّ ربع ساعة

قلت: لن أتخلّى هذه المرّة.

- لكنّك عدتَ بغير شروط الخلوة التّي تقتضيها الكتابة.

- كن إنسانيّاً. هل تريدني أن أسافر أو أتوارى بعيداً عن البيت، فأترك أمّي لعظامها الهشّة؟ إنّها لا تستطيع أن تقضي حاجةً من الحاجات من دوني.

- كان بإمكانك أن تستغلّ ذهابها إلى بيت أخيها، في الكتابة عوضاً عن ذهابك إلى مهرجان المسرح.

- كان يجب أن أذهب. لا أستطيع أن أتخلّى عن شركاء في النّضال الثّقافيّ احتاجوا إليّ.

- ها أنت تعترف بأنّ أصحابك أولى من شخوص روايتك. وهذا ما عطّل كتابتنا. اسمع. لديّ اقتراح لك. تخلَّ عن الكاتب وتفرّغ للنّاشط فيك. هكذا تصبح عادلاً.

- مستحيل.

- أعدمنا بأن تحرق المخطوط.

- مستحيل.

- إذن التزم.

- بماذا؟

- بالكتابة.

- وهل تراني ملتزماً بغيرها يا أحمق؟ لأجلها أعفيت نفسي من كلّ الالتزامات؛ حتّى أنّي أعيش بعيداً عن المناصب والإدارات والاجتماعات الرّسميّة. أنا ربّ الأسرة المتكوِّنة من سبعة أفراد.

- كنتُ سأصدّقك لو كنت تنشر رواية كلّ عام.

- أنشر متى شئت. لست ملزماً بموعد معيّن. أنا حرّ.

سيُنسى كلّ ما تعتقد أنّه نضال ثقافيّ. هل نسيت أنك في الوطن العربيّ؟ يمدحونك في فيسبوك ويغتابونك في المسنجر. وستجد نفسك، بعد رحيل العمر، بلا رصيد أدبيّ، فتصبح لعبةً لأطفال الكتابة. تعرف كثيرين مضوا إلى هذا المصير

- ثمّة من شرع في الكتابة بعدك. وربّما تأثراً بك، فنال جوائزَ. وضمن حضوراً، بينما بقيتَ أنت ظاهرةً إعلاميّة.

- هنيئاً له.

- أنت مجرد فقاعة من الأكاذيب على نفسك.

- ماذا دهاك؟

- سيُنسى كلّ ما تعتقد أنّه نضال ثقافيّ. هل نسيت أنك في الوطن العربيّ؟ يمدحونك في فيسبوك ويغتابونك في المسنجر. وستجد نفسك، بعد رحيل العمر، بلا رصيد أدبيّ، فتصبح لعبةً لأطفال الكتابة. تعرف كثيرين مضوا إلى هذا المصير.

- ما دخلك؟

- تبّاً لك ولأمّك.

لم أفكّر في أنّني سأوقظ أمّي وقد نامت بعد أرق صاهل. لم أفكّر في أنّني سأتلف الهاتف ولا أملك ثمن إصلاحه؛ فقذفته به. هرب إلى المطبخ، فاستنجدتُ بالمواعين على رأسه. توقفتُ في لحظة أحسست فيها بأنّي سأصحِي العمارة كلَّها. تذكّرت شتيمته، فواصلتُ ضربي له والاستنجادَ بقاموس "الكفاءة في البذاءة". ثمّ فجأةً توقّف كلّ شيء. تجمّد كلانا. نظر إليّ. نظرت إليه. التصقتُ به. التصق بي: أمّي كيف استطعت أن تغادري السّرير؟.

- من هذا الكلب الذّي يضربك بالمواعين؟

في السّابق، كنت أجد صعوبةً في حمل أمّي إذا انزاحت عن سريرها؛ كانت تزن 117 كيلوغراماً، فأدهشني كوني لم أجد تلك الصّعوبة في تلك المرّة. كيف حصل هذا يا ربّي؟

قال الرّاوي: أرأيت؟ تصرّ على نسيان وجودي إلى درجة أنّك لم تلتفت إلى أنّني ساعدتك في حمل أمّك.

- أنت شتمتنا. لم أعد أنتظر منك شيئاً.

- ستخسر الرّواية.

- لن أخسرها.

- تكتبها من دوني؟

- سأخلق راوياً جديداً.

- فإن طال مجيئه؟

- تعوّدت انتظار الرّواة لسنوات. سأحكي لك هذه: من عادتي في كلّ رحلة إلى تونس أن أزور جامع الزّيتونة المعمور، فأمكث فيه ساعاتٍ كلَّ صباح. وحدث لي في زيارتي الأولى أن قصدته من باب لا يُفتح، في الأيّام العادية، فانتظرت أربع ساعات.

لم تهن عليّ المغادرة من غير أن أدخله؛ فبيّتُّّ في نفسي أن أبقى عند الباب حتّى يفتح ولو بعد أيّام.

ما إن أسندت ظهري إلى إحدى الدّفتين، حتّى فُتحت الأخرى. كان الفاتح شابّاً ثلاثينيّاً. قال إنّه ليس في العادة أن يفتحوا ذلك الباب. دخلتُ. أغلق الدّفّة. أشار علي بأن أتبعه. قطعنا الصّحن المبلّط، حيث مهوى الحَمام، دخل بي إلى غرفة وسيعة من الجهة الجنوبيّة للجامع. تربّع في وسطها، فغفلتُ عنه بتحيّة المسجد. التفتّ فإذا بطعام بين يديه. جلست إليه وشرعنا في الأكل من غير أن يكون بيننا حديث ما عدا البسملة والحمدلة. رُفع أذان الظهر، فقمنا إلى قاعة الصّلاة. التمستُه بعدها، فلم أعثر له على أثر.

بعدها بسبع سنوات، زرت مدينة دوز، 540 كليومتراً إلى الجنوب من تونس العاصمة، في إطار المهرجان العربيّ للمسرح، فظهر لي، ذات صباحٍ، أن أدخل إلى إحدى الواحات. كانت ثريّة بالتّمور والطّيور. وكنتُ ثريّاً بمشاعرَ غيرِ مصنّفةٍ، لكنّها تنتمي إلى عائلة التّحليق.

تفاديتُ الرّهبة التّي شحنني بها خلوُّ الواحة من البشر بأن صحت: "هل من أحد؟"، فظهر لي شابّ من بعيد يحمل شيئاً في قطعة قماش حمراء.

كان تمراً. وكان الحامل شابّ جامع الزيتونة.

طبعَ قبلةً حِرِّيرَةً على عنقي أحسستُ معها بالحياة تنزرع في وجداني. التفتُ لأرصد الجمرةَ على شفتيه، فإذا هي زوجتي أمّ علياء تقول لي: يبدو لي أنّك لن تكمل هذه الرّواية حتّى تُصاب بالجنون

هممتُ بأن أسأله: أين اختفيتَ يا شيخ؟ لقد التمستك في كلّ جنبات الجامع لكنّني بلعتُ سؤالي، وقد رأيته تربّع على الأرض وطرح القماشة ودعاني بعينيه إلى الأكل. ثم إنّني رأيت أنّه من التفاهة أن أسأله في لحظة ظهوره عن سبب اختفائه (كانت رسالةً للرّاوي: كيف تحاسبني عن ذهابي في الوقت الذّي عدت فيه؟ ثمّن العودة في ذاتها).

مددت يدي إلى التّمرة التّي وقعت سابقاً، فشدّ عليها: اتركها. فما سقطت إلّا ليأكلها غيرُنا. هل اعتنى بك العمّ منصور الصغيّر جيّداً؟

هممت بأن أسأله كيف عرف كوني ضيفاً على مهرجان المسرح العربيّ الذّي يُعدّ العمّ منصور من المشرفين عليه، فبلعتُ السّؤال أيضاً. تريثْ يا رجل. ليس من الانسجام مع اللّحظة أن تسأل. هذا مقام يقين لا مقام حيرة. ثمّ إنّ الرّجل سألك فأجبه.

قلت: كريم قصد كراماً. قال: أولئك لا يكذبون. إذ ما أكثر المتاجرين بالفنّ هذه الأيّام. قلت: كنتُ عابراً فوجدت نفسي أدخل واحتَك من غير أن أدري. قال: كان لا بدّ أن نلتقي. دعوت ربّي أن ألتقيك، بعد أن افترقنا قبل سبعة أعوام. قلت: لقد حزّ في نفسي أن عدت إلى الجزائر من غير أن أراك مرّة أخرى. قال: هل كنت تشكّ في لقائنا ثانيةً؟ قلت: زرت مقام سيّدي عبد الرّحمن الثّعالبيّ في الجزائر العاصمة، بعد ثلاثة أيّام من عودتي من تونس، لأكتب على مقعد خشبيّ في الحديقة التّي على مدخله، فأنا أحبّ أن أكتب هناك، ولمحتك تدخل المزار أو كأنّني لمحتك، حتّى أنّي لحقت بك، لكنّني لم أجدك، قال: الأرواح تسافر وتتجلّى. كنت أيامئذ في خلوة مفتوحة، وكنت أسافر روحيّاً إلى بقاعٍ أشتاقها، فأصحو من نومتي وفي ذهني ووجداني أشياءُ منها كأنّني زرتها فعلاً.

التفتّ إلى الرّاوي: قال إنّ لقبه الإيموجي نسبةً إلى جدٍّ له في القرن السّادس عشر كان يُرى في أماكنَ متعدّدةٍ في الوقت نفسِه.

- خلوة الإيموجي. الآن فهمت خلفية عنوان الرواية.

- تجهل خلفيّة عنوان الرّواية التّي أنت سيّد سردها. مع ذلك تهدّد الكاتب بالمغادرة.

- أكمل. ماذا قال لك الفتى التّونسيّ أيضاً؟

- إذا أجبتك أصبحتُ أنا الرّاوي. هل عرفتَ الآن كوني أستطيع أن أحلّ محلّك؛ فتنتفي جدوى وجودك؟ أنا سارد لا يقبل الابتزاز يا عزيزي، لأنّه عارف بشغله وأدواته وله من التّقنيات ما يجعله حرّاً. فقط أحبّ أن أعطّل فمي لصالح أفواه شخوص نصوصي. سأحكي لك هذه: خلعتُ ذات يوم ضرساً. وهو ما كان يجب أن أفعله قبل زمن لولا الهيبة.

بعد أن وضعت الطّبيبة ذاتُ العينين اللّتين تشرّبتا اخضرار الرّبيع كلَّه المخدّرَ الموضعيَّ، وطلبت منّي أن أنتظر وقتاً في القاعة، أحسستُ بأنّني فقدت فمي، فهممتُ بالبحث عنه. لقد عشت تجربة أن أبحث عن فمي. هذا الفم الذّي لا شكّ في أنّه قال يومًا ما لا يجب أن يُقال، وصمت عمّا لا يُصمت عنه، لم يعد هنا.. يا لها من تجربة رائعة.

حين طلبت منّي الطّبيبة أن أعود، كنت غارقاً في هذا الخيال: ماذا لو يفقد العرب جميعاً أفواههم؟ هل ستتحرّك أذرعُهم قليلاً؟

حين طلبت منّي الطّبيبة أن أعود، كنت غارقاً في هذا الخيال: ماذا لو يفقد العرب جميعاً أفواههم؟ هل ستتحرّك أذرعُهم قليلاً؟

غادرتُ وأنا ألملمُ مخّي: هل فقدتُ الإحساسَ بالألم بسبب مفعول المخدّر أم بسبب غرقي في ربيع العينين؟ لقد رأيت الجنّة تطلّ من عين خضراء.

- ماذا أرت أن تقول؟

- لقد تحيّنتُ فرصةً للعودة إلى استكمال روايتي، على مدار شهور مديدة، في ظلّ انشغالي بالعمل الثقافيّ ولواحقه، فلا أقبل أن يعرقلني أحد، وقد وجدتها بعد طول انتظار. إمّا أن تسايرني وتلعب دورك بصفتك راوياً، أو سألعب أنا هذا الدّور أو أكلّف غيرك من شخوص الرّواية بذلك.

لم أنتبه إلى أنّ بقيّة الشّخوص قد احتشدت خلف الباب تسترق السمع، وقد تطلّعت نفوس بعضها إلى أن تحل محلّ الرّاوي الأوّل، إلّا بعد أن صدرت نحنحات مفادها "نحن هنا"، فسرت إليها بما يوحي بكوني سأختار أحدَها؛ فاحتضنني الرّاوي من الخلف: انتظرْ. سأواصل معك. لكن بشرط.

- لم أعد أقبل أيَّ ابتزاز.

- شرط ستقبله نفسُك.

- قل.

- ألا تتوقف عن الكتابة هذه المرة.

- لن أتوقف.

طبعَ قبلةً حِرِّيرَةً على عنقي أحسستُ معها بالحياة تنزرع في وجداني. التفتُ لأرصد الجمرةَ على شفتيه، فإذا هي زوجتي أمّ علياء تقول لي: يبدو لي أنّك لن تكمل هذه الرّواية حتّى تُصاب بالجنون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image