شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لقمة العيش في كتابة الظل... حياة الكاتب الشبح

لقمة العيش في كتابة الظل... حياة الكاتب الشبح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 9 يناير 202310:37 ص

حين يصدر عمل أدبي جديد أو كتاب مطبوع فإن كاتبه يصفه غالباً بـ"المولود"، ويسمي كُتّاب أعمالهم بالأبناء لشدة اعتزازهم بها، لكن البعض أحياناً يستسلمون لتيارات اليأس، والركض وراء لقمة العيش، مما يدفعهم ليكونوا كتاب أشباح يمتهنون "كتابة الظل".

وتعني "كتابة الظل" استعانة المؤلف بكاتب آخر لكتابة الأعمال الأدبية والسيرة الذاتية والمذكرات الشخصية أو الخطابات أو المقالات الصحافية، كما يستعين بعض كتاب السيناريو بكُتَاب مغمورين لإكمال نصوصهم، أو تأليف قطع موسيقية لهم، بشرط السرية عبر العقد المبرم بين كاتب الظل والمؤلف الذي يُلزم الأول بأن يبقى مجهولاً.

حكايتي

قبل اثني عشر عاماً كنت لا أزال طالبة بكلية الإعلام، أتخبط على سلم صاحبة الجلالة، بين مكتب لصحيفة عربية ومقر لموقع إلكتروني، أكتسب خبرات، وأعمل دون مقابل في معظم الأوقات أو أتقاضى حفنة قليلة من الجنيهات، حينها قدّم إليّ أحد أساتذتي في الصحافة عرض عمل يتناسب مع حبي للكتابة.

آنذاك، كانت روايتي الأولى حبيسة الأدراج لنحو أربع سنوات، وكنت أختلط بالوسط الثقافي على استحياء، ولم أعرف بعد فكرة أن تصير كاتباً شبحاً.

قصدتُ مكتب الصحيفة، أخبرني الصحافي الذي يقترب عمره من عمر أبي، أن العمل المطلوب مني هو تفريغ تسجيلات صوتية لشخصية كويتية مرموقة، وتحويلها إلى سيرة ذاتية مكتوبة بأسلوب أدبي مقابل ألف وخمسمئة جنيه مصري، لم أعرف أن ما حصلتُ عليه كان شحيحاً مقارنة بأسعار كتابات الظل آنذاك.

عرفت وقتها أن "مستر إكس" خاصتنا هو اللواء الركن أ. ع. الذي أصبح بعد سنوات من الواقعة رئيساً لهيئة سيادية ببلاده، ولم تتسن لي مقابلته، بل استمر الوسيط في إمدادي بتسجيلات صوتية لمقابلات أجراها معه، واستمر العمل لثلاثة أشهر، قبل أن يتوقف فجأة لأن الشخص المرموق غيّر رأيه بشأن إصدار السيرة الذاتية، وعاد إلى بلاده دون إبداء أسباب.

ما الضمانات التي يحصل عليها العملاء "المؤلفون"؟

وخلال رحلة بحثنا عن أسرار عمل الكُتّاب الأشباح أو أدباء الظل، علم رصيف22 أن هناك عشرات الأدباء الشباب العرب يعملون في هذا المجال، ويتقاضون بدل بيع كتاب واحد أجراً يراوح بين 544.71 و 817.06 يورو، وبين 636.59 و 954.88 دولاراً أمريكياً، وتتفاوت الأسعار، وفقاً لمدى جودة العمل وتمكّن كاتبه من أدواته.

وتتنوع الأعمال التي يجري بيعها بين الروايات، قصص قصيرة، مقالات، أعمال تاريخية، مؤلفات متنوعة، أدب ساخر، كما يعمل بعض كُتاب الظل على كتابة المحتوى المتنوع لليوتيوب والمواقع والمدونات، والتحرير الأدبي، وإعادة الصياغة لمختلف أنواع الأعمال الأدبية.

ويضم المجال وسطاء يعملون على توصيل العميل بعارض الخدمة/ الكاتب الشبح، ويحدد مقدم الخدمة سعرها، وتتم المعاملات المالية بين العميل ومقدم الخدمة، عبر الوسيط، في سرية تامة، ويحصل العملاء على ضمانات للسرية وألاّ يتم تداول بياناتهم أو الإشارة إليها مطلقاً.

موهبة في الظل

مؤخراً، أعلنت الروائية المصرية منال عبد الحميد المعروفة بكتاباتها في أدب الرعب، بدئها العمل ككاتبة ظل، متعهدة بالسرية المطلقة سواءً تم الاتفاق بين الطرفين، أو لم يتم.

وحول أسرار عمل الكاتب الخفي تؤكد منال عبد الحميد لرصيف22 أن ما يدفع أصحاب المواهب الأدبية لبيع إنتاجهم الأدبي تحت مسمى كاتب الظل هو الإحباط، والتجاهل، وسوء تعامل بعض دور النشر مع الموهوبين، خاصة الجدد منهم، وانعدام الفرص في الأقاليم المصرية، بعيداً عن القاهرة، مضيفة: "أنا شخصياً عانيت ولا زلت أعاني من تلك النقطة الأخيرة، بجانب الرغبة في جني المال كفائدة بديلة، ما دام الجهد الصادق يذهب هباءً منثوراً في معظم الأحايين".

عشرات الأدباء الشباب العرب يعملون في السر بشكل مجهول، أو ما يعرف بالكاتب الشبح، ويتقاضون بدل بيع كتاب واحد أجراً يراوح بين 636.59 و 954.88 دولاراً أمريكياً... هل هذا أجر عادل؟ هل مهنة الكاتب الشبح عادلة بالأساس؟

كما تُحمّل منال عدة جهات المسؤولية، كدور النشر التي تتجاهل كثيراً من الأعمال الجيدة لكتاب غير معروفين أو ليس لديهم جيش من المتابعين، أو لا يملكون مالاً لدفعه مقابل عملية النشر، وسوق القراءة الراكد عموماً في دولنا العربية، والأوضاع المعيشية القاسية، التي تدفع البعض للتخلي عن أعمالهم، والسماح للغير بأن يضع اسمه عليها مقابل حفنة من النقود.

وتوضّح الروائية أن عمل المحرر الأدبي يختلف عن كتابة الظل؛ فالأول يقوم بإعادة كتابة وتجهيز العمل الأدبي للنشر، وعلاج عيوب ومثالب النص الكثيرة، لكن الثاني يقوم بعمليات التحرير الأدبي الكاملة، مضيفة: "وقد قمت بذلك بالفعل عدة مرات لأعمال كتاب آخرين"، كما يشمل بيع أعمال جاهزة ومعدة للنشر والطباعة، أو كتابة الأفكار حسب الطلب وهكذا.

أسباب انتقال ظاهرة كتابة الظل إلى مجتمعاتنا العربية، بحسب منال، كثيرة، منها العوز المالي، والإحباط الناجم عن تجاهل دور النشر للكثير من الموهوبين، في مقابل فتح الباب على مصراعيه لأنصاف المواهب والأدعياء، ومن يملكون القدرة على الترويج لأعمالهم حتى لو كانت غثة ورديئة، لافتةً إلى أن بعض مشاهير الكتاب الغرب لديهم هيئة مساعدين، تضم في معظمها كتاباً يقومون بكتابة الأفكار التي يكلفهم المؤلف الشهير بها، بدون أن تظهر أسماءهم.

ما الفرق بين المحرر والكاتب الشبح؟

كشفت الكاتبة المصرية هند عبد الله، الشهيرة بـ"نور مانجا"، لرصيف22 عن أنها عملت لسنوات كاتبة شبح قبل أن تصبح معروفة كمبدعة في الوسط الثقافي.

وتوضّح هند أن كُتّاب الظل على الرغم من غرابة أوضاعهم فإن مهنتهم ليست مهنة حديثة، فبمراجعة بسيطة للتاريخ سنجد ظلاً في كل شيء فيه إبداع، مثلاً توماس أديسون ما كان ليصبح مخترعاً عظيماً لولا مخترعو الظل، وهناك أعمال موسيقية عظيمة تسببت في شهرة الكثيرين وأثرت الحياة الفنية، لكنها نسبت لغير أصحابها، وفي الكتابة سنجد مشاهير من الأدباء لم يكتبوا حرفاً في عمرهم بفضل كتاب الظل.

وترى الكاتبة أن انتقال تلك الظاهرة إلى المجتمعات العربية جاء "نتيجة لتردي أوضاع المبدعين العرب، وعدم حصولهم على مكاسب مادية تعينهم على التفرغ للكتابة، مما يدفعهم لبيع أعمالهم بمقابل مادي لتنشر بأسماء أشخاص آخرين، وحتى الكُتاب الذين ينشرون أعمالهم الأدبية باسمهم، يكونون مضطرين للعمل في مهن أخرى غير الكتابة لأنها وحدها لا تكفي للقمة العيش، لا تحدثني عن الإبداع بينما أنا أفكر في كيفية الوفاء بالتزاماتي الأساسية".

ما يدفع أصحاب المواهب الأدبية لبيع إنتاجهم الأدبي تحت مسمى كاتب الظل هو الإحباط، والتجاهل، وسوء تعامل بعض دور النشر مع الموهوبين، خاصة الجدد منهم، وانعدام الفرص في الأقاليم المصرية... تعرف على تجارب كتاب معروفين اختبروا حالة "الكاتب الشبح"؟

وتضيف مانجا: "عمل المحرر الأدبي يختلف عن عمل الكاتب الشبح، فالأول شخص يوضع اسمه على العمل كمشارك في إعداده وإخراجه وعادة ما يكون كاتباً معروفاً، أما كاتب الظل فأهم صفاته أن يظل شبحاً لا اسم له ولا رابط بينه وبين العمل".

وتشير إلى أن هناك بعض مشاهير الأدب والسيناريو لم يكتبوا حرفاً واحداً في حياتهم، معتبرة أن المسؤول عن تردي أوضاع الموهوبين وتوجههم للظل هو "منظومة كاملة تبدأ من وزارات ثقافة لا تعير الأديب اهتمامًا إلى دور نشر تتفنن في هضم حقوق الكاتب، مرة بحجة ضعف المبيعات ومرات بحجة سوء الأحوال إلى أن نصل إلى مافيا تزوير الكتب التي تساهم بدورها في إضعاف مكاسب بيع الكتاب، وبالتالي التأثير على القدر القليل الذي يحصل عليه الكاتب".

وتختتم الكاتبة حديثها: "في النهاية الأفضل بالنسبة لي أن أبيع عملي ككاتبة ظل من أن أقف أمام ناشر يقول لي: "ماذا أفعل لكِ؟ كتابكِ لم يُبع، الغريب أن الكتب تنجح جداً حينما تنشر بأسماء الآخرين؛ فحتى القارئ يساهم في ظلم المبدع دون قصد".

ما قيمة الكاتب الشبح؟

ويعتبر الكاتب المصري صبري ممدوح أن ظاهرة الكاتب الشبح أو كاتب الظل، ليست غربية، وأنه قديماً كان هناك مفهوم للسرقات الأدبية في التراث العربي منذ عصر ما قبل الإسلام وزمن امرؤ القيس، وكان يُعرف بـ"الإغارة" وهو يعني أن يسطو شاعر على بيت شعر لشاعر غيره أو يشتريه منه، وأنها ظاهرة عربية بامتياز، وهي أمر مستهجن في الوسط الثقافي؛ لكن ما جعل تلك الظاهرة تطفو على السطح هو وجود مواقع التواصل الاجتماعي التي أعادت تسليط الضوء عليها من جديد.

يقول ممدوح: "لا أصف ما أكتبه ككاتب ظل بأنه إنتاج أدبي بقدر ما هو عمل "تفصيل أدبي"؛ فصاحب فكرة العمل يأتيني بملخص لها من خمس أو ست صفحات، يخبرني فيه بمحتوياتها التي يرغب في وضعها بالنص، وأنا أقوم بكتابتها وفقاً لما يريد، مثل: كتابة السير الذاتية لأشخاص من العرب والمصريين".

يكمل ممدوح مدافعاً عن كاتب الظل: "صاحب تلك المهنة يتعلم تلوين وتنويع أسلوبه، وأراه عملاً يشبه عمل الصحافي؛ حين يحرر خبراً ولا يتم وضع اسمه عليه، ولا أرى داعياً لتلك النظرة المستهجنة من المجتمع، وهناك خيط رفيع يفصل عمل المحرر الأدبي عن كاتب الظل. فأحياناً تعاد صياغة رواية مرة أخرى من قبل المحرر، ونجد سيراً ذاتية ودراسات نقدية منشورة كانت تحتاج إلى إعادة تحرير".

ويعيد ممدوح تعريف العمليتين الكتابتين قائلاً: "المحرر الأدبي يعيد الترتيب والتنقيح، أما كاتب الظل يقلب العمل رأساً على عقب أو يبدأ عملاً من أوله لآخره".

ويضيف: "بعض الكتاب يضطرون للعمل في الظل بسبب ظروفهم المادية، ولأنهم يرغبون في عمل يحبونه، أما بالنسبة لي فقد أصبحت تلك المهنة مهنتي منذ سنوات".

وعن دور كتاب الظل، يكمل ممدوح: "هناك الكثير من الأدباء والسيناريست الذين اشتهروا بفضل كتاب ظل، عددهم يفوق تصور أي أحد، والوضع صعب ومُعقد لأن هناك تعاقداً قانونياً بين كاتب الظل ومن ينشر اسمه على العمل، تحت مسمى "اتفاق سرية" بصيغة قانونية، بموجبها يصبح كل ما هو تسجيل للملكية بدار الكتب والشهر العقاري ملغياً لكاتب العمل، ويلزم الكاتب بدفع غرامة كبيرة إذا أشار من قريب أو بعيد للعمل بالسرقة، وهذا يكون بالأدلة".

أما عن دافع اختيار بعض الموهوبين لأن يكونوا كتاب ظل، فيقول ممدوح: "لأنشر ما أريد سأصطدم بآخرين، ويحتاج الأمر لدفع المال أو التحلي بكثير من الصبر، وغالباً ما يدخل كاتب الظل المجال عن طريق عمله كمراجع لغوي أو محرر أدبي، أو أن يكتب كاتب مشهور لكاتب مغمور".

مشاهير كتبوا في "الظلّ"

لا يعد الكاتب الشبح ظاهرة جديدة، غير أن مواقع التواصل الاجتماعي والمنتديات الثقافية ومواقع العمل الحر عبر الإنترنت قد أعادتها إلى السطح بقوة.

ولا تقتصر المهنة على الكُتاب المغمورين، بل إن بعض المشاهير عملوا بها في بداياتهم، ومنهم عملاق الكتابة المسرحية بديع خيري، الذي كان في فترة من حياته كاتب ظل للكاتب المسرحي أمين صدقي، قبل أن يعلم بأمره نجيب الريحاني ويستعين به لكتابة مسرحياته، وهو ما كشفته مذكرات الريحاني التي أصدرتها "دار الهلال" بعد رحيله بعدة سنوات.

ولا يعلم كثيرون أن الموسيقار الكبير بليغ حمدي كان شاعراً، واضطر خلال سنوات الغربة في نهاية الثمانينيات إلى أن يتنازل عن اسمه كشاعر، ويكتفي فقط بأن تُنسب الأغاني إليه كملحن، وكتب على أغانيه اسم شاعر آخر، وهو ما ذكره الشاعر الغنائي "محمد حمزة"، وجاء في كتاب "سلطان الألحان بليغ حمدي" للكاتب الصحافي أيمن الحكيم.

درامياً، سلّطت المسرحية الكوميدية الاجتماعية "جلفدان هانم" الضوء على "كتابة الظل" عبر قصة سليلة إحدى العائلات العريقة، التي تسعى ليصبح حفيدها أديباً كبيراً ومشهوراً مثل جده الراحل، لكنه يستغل صداقته بالأديب المغمور "عاطف الأشموني" ويشتري إحدى رواياته، وينسبها إلى نفسه في مقابل مبلغ كبير، ويتم عمل دعاية كبيرة للرواية حتى ذاع صيتها، وهو ما يثير حفيظة وغيرة "الأشموني".

كتابات الظل والتدوين الرقمي

وخلال السنوات الأخيرة تطورت مهنة كتابة الظل لتضم مجالات أخرى تتجاوز الكتابة الأدبية وكتابة السيناريو والأغاني والنصوص المسرحية؛ إذ تشمل أيضاً: كتب التنمية البشرية وأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه وكتابة التدوينات والمقالات لقاء مقابل مادي دون وضع اسم المؤلف الحقيقي.

فأصبح الكاتب الشبح مألوفاً جداً في عالم التدوين الرقمي، فيمكنك أن تجد العشرات منهم يعملون بشكل حر، ويعرضون خدماتهم في الكتابة بمختلف المجالات، ويتلقون عروضاً من العملاء تتفاوت قيمتها، عبر مواقع مثل: مستقـل أو خمسـات أو حسوب أو أنا أو بعيد، ولا تخلو تلك المواقع من أدباء عرب وأساتذة جامعيين لا يجدون مشكلة في الكتابة من الباطن لغيرهم.

وفي النهاية يبقى الكُتّاب الأشباح محل خلاف في الأوساط الثقافية، التي تتعامل مع تلك القضية بطريقة دفن الرأس في الرمال، وتفضل تجاهلها رغم كونها حقيقة راسخة، ويبقى الحكم للقارئ الذي يُفرّق بين الغثّ والسمين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image