في كانون الأول/ديسمبر 2018، أي قبل موته بعامين تقريباً (14 تشرين الثاني/نوفمبر 2020) اتصلت بالكاتب سعيد الكفراوي، استأذنه في إجراء حوار صحافي لجريدة مصرية، فرحب بي، لكنه رفض أن يكون بيننا مقابلة، مطالباً بأن أرسل الأسئلة إليه عبر الإيميل، ليجيب عنها كتابةً.
رفضت في البداية، إيماناً بأن المقابلة الحوارية تكون أكثر صدقاً وتلقائية، وكثيراً ما يكشف لنا الجواب المرتجل عن سؤال أكثر أهمية من سابقه المعدّ سلفاً، لكن أمام إصراره، لم أجد غير أن أرسل له أسئلةَ الحوار.
انتظرت بعدها بضعة أيام، ثم هاتفته متسائلاً عن إجاباته، وإمكانية إرسالها عبر الإيميل، لكن ربما لأن قصة الحوار كانت تحتاج إلى بُعد درامي آخر، فقد فاجأني بأن طلب مني الحضور إلى منزله بحي "المقطم" لعدم قدرته على إرسالها، فالرّجل الثمانيني، ربّما لعدم إجادته الكتابة على الكمبيوتر، أو لتعلّقه بزمن عشق فيه رائحة الحبر، وحفيف الورق، فقد كتب إجاباته على ورق أبيض بخطّ منمق وواضح.
كرم الفلاحين
كانت شقة الكاتب الكبير بحيّ المقطم، تحمل صبغة ًمن الأصالة والطابع العربي، أو ربما تلك الموشحات الأندلسية التي كانت تملأ أسماعنا هي ما حملتني على الشعور بذلك، فهي بمثابة عالم صغير لكاتبنا، نظنّ أنه قد حمل داخله ما يجعلها مناسبة لكاتب خرج لتوّه من قصته التي أبدعها عبر ثمانية عقود.
على الأرفف كتب كثيرة، تنوعت ما بين التراث، وروايات، وقصص كتاب معاصرين، والكثير من الأدب المترجم لـدوستويفكسي، وكافكا، وهيمنغواى، وفوكنر، وتولستوي، وأيضاً: بورخيس، وماركيز، وخوان رولفو. هؤلاء "الخواجات" الذين قال عنهم: "شيوخي في الكتابة".
برغم مرضه آنذاك، وخلو البيت، فإنه أصرّ على إحضار مشروب لي على سبيل "كرم الضيافة". فالكفراوي حتى وفاته، لم يتخلّ عن كرم الفلاحين، حيث ميلاده في قرية كفر حجازي بالمحلة الكبرى سنة 1939، التي نشأ فيها، وبدأ بالقرب منها اهتمامه بالأدب، مكوّناً في بداية الستينيات نادياً أدبياً في قصر ثقافة المحلة الكبرى، مع أصدقائه جابر عصفور، ومحمد المنسي قنديل، وصنع الله إبراهيم، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد صالح، وفريد أبو سعدة، قبل أن يعرف طريقه إلى مجلس نجيب محفوظ على مقهى "ريش" بالقاهرة.
جلس سعيد الكفراوي إلى مكتبه، ممسكاً بقلم "كوريكت أبيض" لينقح الحوار، سواءً من كلمات رآها حشواً، أو من جملة في غير موضعها. كنت أراه بشعره الأبيض كأن سنواتِه الثمانين تجسدت أمامي، أو كأن صاحب "مدينة الموت الجميل"، و"ستر العورة"، و"سدرة المنتهى"، و"مجرى العيون"، و"دوائر من حنين" يعيد كتابةَ مجموعاته القصصية.
أثناء ذلك، دار بيننا حوار حول أبناء جيله وأساتذته، ومكتبه ومكتبته، استأذنته أن أسجله عبر هاتفي المحمول، ولم ينشر ضمن ما نشر في جريدة "الدستور" المصرية بتاريخ 2 آذار/مارس 2019. التقينا بعدها لمرّات في منطقة وسط البلد بالقاهرة. كانت لقاءات قصيرة تبادلنا فيها السلامات، سواءً لقاءً عابراً في الشارع، أو أثناء حضوره لـ"قعدة الجمعة" على مقهى "زهرة البستان".
بقي حوارنا المسجل حبيس الأدراج، أسمعه من حين لآخر، يخرج منه صوت كاتبنا الكبير كعادته حكّاء لقصص أشبه بـ"حواديت" الجدات، بها من السّحر ما هو قادر على سرق انتباهنا، بينما في الخلفية بعض الأغاني والمقطوعات الموسيقية التي اعتاد سماعها.
أعدت الاستماع إلى الحوار كثيراً بنية إعداده للنشر حتى فوجئت بخبر رحيله في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، عن عمر ناهز الـ 81 عاماً، بعد صراع طويل مع المرض.
حين خرجت من المعتقل ذهبت إلى المقهى فوراً، وكان نجيب محفوظ يعلم بأمر اعتقالي. انتحى بي جانباً، وطلب مني أن أحكي له
فجع الوسط الثقافي المصري لموت سعيد الكفراوي، ونعاه الكثيرون، بينهم وزيرة الثقافة المصرية آنذاك، التي وصفته بأنه "أحد أبرز فرسان القصة القصيرة في مصر والوطن العربي، وأعماله شكلت عالماً أدبياً خاصاً ومتفرداً". أما أنا فرجعت إلى ذلك التسجيل، مسترجعاً حكاياته، ومستمعاً إلى صوت الحكاء العظيم.
انتمى سعيد الكفراوي إلى جيل الستينيات، لكن أولى مجموعاته القصصية لم تُنشر إلا في الثمانينيات. وقد عاش مخلصاً لكتابة القصة القصيرة، فاقتصرت أعماله عليها دون غيرها، وإن أشار كثيراً إلى شروعه في كتابة رواية وحيدة، لم تخرج إلى النور في حياته، وربما لم ينته من كتابتها أيضاً.
نال الكفراوي عدداً من الجوائز، منها: جائزة السلطان قابوس بن سعيد للقصة القصيرة عن مجموعته القصصية "البغدادية"، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب (مصر، 2016). وكما أخلص للقصة القصيرة، فلم يقبل أن يشاركه فيها فنّ آخر، حملته هي بدورها إلى عوالم أخرى، وبلدان بعيدة، فقد استحق مشروعه الترجمة إلى لغات عدة، منها: الإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والسويدية والدانماركية.
المعتقل مكان بلا قلب
قبل الدخول إلى أسئلة اللقاء الذي ينشر لأول مرة، في الذكرى الثانية لوفاة سعيد الكفراوي، بقي أن أذكر أن الكاتب الراحل كان قد كتب أيضاً مقدمةَ الحوار بخط يدّه، ضمن ما كتب، ربما كانت محاولة منه للوقوف بجانب صحافي شاب، وهي التي أنشرها الآن واضعاً لها سؤالاً متخيلاً، عن علاقته بالقصة القصيرة، ذلك بعدما رفض نشرها في المرة الأولى، واستعنت بأخرى كتبتها... إلى نص الحوار:
كشاهد على علاقتهما، إذا أردت أن تكتب عن علاقة سعيد الكفراوي بالقصة القصيرة ماذا تقول؟
من الشائع أنها عمره على نحو أكيد؛ تتقاطع مع سنينه مثل لقفة النفس. ذلك الذي أفنى حياته رفيقاً لإبداع كان له مثل الغواية. إنها ذلك الزواج الأرثوذكسي الذي لا فصام بعده.
"القصة القصيرة" هي التي دفعته للإيمان بأن قصة جيدة، هي في الحقيقة حياة كاملة، هي صوت الفرد يأتي عبر الأماد البعيدة بسؤال المصير.
رفقة سعيد الكفراوي لهذا الشكل من الكتابة تثير العجب. 12 مجموعة قصصية تؤكد أن على كاتبها الهمام أن يختار لحظة كتابتها باهتمام بالغ، وأن يبحث عن إيقاعها الخاص، وأن يعرف أن البلاغة تفسدها.
عالم من القصص، تتجسد عبر سردها شخصيات من هامش الحياة. هؤلاء المجروحون في الروح، الباحثون عن الستر. عوالم تجوس في الماضي على ضفاف قرى أسطورية، ومدينة تتكدس فيها الأحلام المحبطة من غير عزاء.
"مدينة الموت الجميل"، "ستر العورة"، "سدرة المنتهى"، "دوائر من حنين" و"البغدادية"؛ قصص كثيرة شكلت في متن حداثة القصة تياراً لصاحبها الذي أمضى عمره باذلاً ما يستطيع من جهد لكتابة مثل تلك القصص.
أما عن شخصية سعيد الكفراوي نفسه، ماذا تكتب؟
صدقني كتبت عن "سعيد الكفراوي" الإنسان، الطفل والشاب، الكهل والعجوز، في كلّ ما كتبته من قصص. حياة كاملة نثرتها على الورق، وفقط يحيرني الإثمار. هل يتحقق هذا الإثمار عبر حلم طويل مارسته طوال الحياة؟
نبدأ بشيء من الطفولة، فجميعنا تربى على قصص الجدات وحكاياتهن. إلى أي مدى ظهر ذلك في قصصك؟
تزدحم قصصي بالجدات، وصوت إنشادهن على الغائبين، وصوت الندب على الموتى، وانتظار من غابوا؛ صوت نشيد دائم في قصصي. والسارد في ما أكتبه كثيراً ما يتمثل صوت جدته. في القصة الطويلة "يا قلب مين يشتريك" كان دائماً، عبر الخيال، يسمع عديد جدّته وهي ترثي جدّه الغائب، بنشيد دائماً ما كان يثير حزنه.
لك تجربة مع الاعتقال في فترة حكم جمال عبد الناصر، وهي التي قلت إن نجيب محفوظ صاغها في روايته "الكرنك"، فما هي تفاصيل تلك الواقعة؟
الحقيقة أنني أجبت كثيراً عن هذا السؤال. أتمنى أن ينساه من يسألني، والحكاية اعتقلت بعد رحيل عبد الناصر بأيام، أخذوني من المحلة الكبرى إلى معتقل القلعة العتيد، وعبر شهور ستة من السجن الانفرادي، أحسست بمعنى الظلم، واحتجاز إنسانية الإنسان، وأن المعتقل في كلّ أحواله تربص بالإنسان واحتجازه في مكان لممارسة الرعب عليه. مكان بلا قلب.
حين خرجت ذهبت لمقهى "ريش"، من المعتقل إلى المقهى فوراً. كان الروائي الكبير (نجيب محفوظ) يعلم بأمر اعتقالي. انتحى بي جانباً، وطلب مني أن أحكي له ما جرى بالتفصيل، وقد كان. وإنني لا أنسى وجهه وهو ينطوي على ألم وحزن، عندها قال لي: انسَ هذا الأمر، وقصّه من حياتك تماماً.
بعد مرور شهور، صدرت رواية "الكرنك"، وكنت قرأتها، وعلمت أن شخصية "إسماعيل الشيخ" التي جسدها في الفيلم المرحوم نور الشريف تتطابق مع ماجرى لي، بعد ذلك "عمّنا" وضع يده على كتفي، وقال: "على فكرة يا كفراوي أنت إسماعيل الشيخ في الرواية".
ذكرت ذلك مرة، فهاج علي القوم، واتهموني بالادعاء والخيال، وأنني كاتب قصص وحكّاء، وأن الأمر كله من بنات أفكاري، حتى أصدر الرجل الطيب الأستاذ إبراهيم عبد العزيز مذكراته الضخمة "ليالي نجيب محفوظ في شبرد"، سجل فيها الحكاية من "طأطأ لسلامو عليكو"، بالأسئلة التي وجهت للأستاذ عن تلك الواقعة، وتأكيد الأستاذ لها، و"حكاية تفوت ولا حد يموت!" في كل الأحوال.
في فترة من عمر الأدب المصري كان يوسف إدريس هو القطب الموازي لنجيب محفوظ، والجميع يعرفون علاقتك بمحفوظ. فماذا عن ذكرياتك مع إدريس؟
سافرت مع يوسف إدريس ثلاث مرات، لكنه لم يكن على علاقة بأحد، فهو "أنا أنا أنا"، كما في حواره مع سلوى نعيمي، المنشور في مجلة "الكرمل". وتحضرني من ذكرياتنا معه ليلة كنا في أتيليه القاهرة، وكانت ليلة عيد ميلاده، ولم يكن أحد يملك المال، فدفع هو لشراء شراب، واجتمعنا، واحتفلنا به حتى الفجر.
علاقة جدتي بالبقرة غريبة، وقد غابت عن البيت فامتنعت البقرة عن الحليب، حتى أحضر جدّي السكين ليضربها ضربة لبن... وعندما عادت جدتي، وسمعت البقرة صوتها، نزل الحليب، "والكتابة عندي تعني من مصدر الصوت إلى انهمار اللبن"
كان يحبنا جداً، لكنه كان يغار من هذا الجيل، كما يشعر بالمرارة لعدم اعترافهم به، رافعين شعار "نحن جيل بلا أساتذة". تلك الصيحة التي أطلقها محمد حافظ رجب، وقد كانوا ينظرون إليه باعتباره مرحلةً في الأدب المصري، كما ننظر نحن الآن إلى الأجيال الجديدة على اعتبارهم امتداداً آخر غيرنا، لكننا في الحقيقة داخلهم على نحو من الأنحاء، قرأونا وتعلموا من كتاباتنا، ولكن ما يكتبونه شيء مختلف.
ما قلته يجعلني أتساءل بشأن قول البعض بأن نجيب محفوظ تأثر بأسلوب محمد حافظ رجب حدّ "السرقة" في كتابة بعض أعماله، لا سيما روايته "ثرثرة فوق النيل". فكيف ترى تلك التهمة؟
نجيب محفوظ لم يسرق أحداً، بل قرأ الجيل كاملاً وهضمه؛ فمثلاً "تحت المظلة" سوريالية على معقول، فهي كتابة ما فوق الواقع. فنجيب قرأ الشباب وهضمه وكتب عالمه المحفوظي بمواضيعه وشخوصه، فنجد السكارى والفتوات والموظفين، أما الشكل فهو ستيني.
وهناك أكثر من شخص من جيلي، لم يتهموا محفوظ، بل قالوا إنه استفاد من ملازمته لهم، وأنا أرى أنه لم يكن يكتب "أصداء السيرة الذاتية" و"أحلام فترة النقاهة" لولا معرفته بكتابة الستينيات؛ تلك الكتابة التي تمت من أوائل الستينيات وحتى موت البساطي.
على ذكر "أصداء السيرة الذاتية"، أرى أنها الأقرب إلى شكل القصة القصيرة جداً. فلماذا هجومك إذاً على هذا الشكل الأدبي؟
أنا لست ضدّها كشكل أدبي، ولكن بشرط أن تكون جيدة، لكن أيضاً أنا ضدّ النص الذي يكون عبارة عن 3 سطور، ما إن تبدأ في قراءته إلا وينتهي، لا شخصيات ولا بناء ولا معنى. حالة شعرية ليست بشعر، ولا قصة قصيرة جداً. وهناك قصص قصيرة جداً أحبها، ولكن عند الخواجات، فأنا لدي في مكتبتي مجموعة إسبانية فاتنة، تجد فيها حدثاً، وبناءً، ووقائع تذكرها.
في كتاباتك نجد البيئة الريفية حاضرة بقوة، وهي كتابة خاصة تماماً، في حين أنك دائماً ما تنتصر لكتابة الغرب، حتى إنك تقول "أنا ابن الخواجات". فكيف ذلك؟
مهمتك ككاتب أن تعرف، ومن خلال تلك المعرفة تكتب نصّك، سواءً قرية كان أم مدينة، هامشاً، موتاً، أم حياة. مثلاً ذهبنا إلى فرنسا أنا وإبراهيم عبدالمجيد، وسلوى بكر، وإدوارد، والبساطي، بمناسبة ذكرى الثورة الفرنسية، وكان ضرورياً أن نقيم ندوة بمعهد العالم العربي، وهو مركز للثقافة العربية يحضره فرنسيون وغيرهم، وكانت الندوة عن تجاربنا، فتحدث الجميع عن البنيوية والمذاهب الحداثية، وذلك شغل فرنسا، فتثائب الفرنسيون، فتلك بضاعتهم رُدّت إليهم.
فلما جاء دوري قلت لهم: أنا فلاح من قرية مصرية، عمرها بالسنين الآلاف، وهي مليئة بالتراث والطقوس والرموز، لي جدة علاقتها بالبقرة غريبة، وقد غابت عن البيت فامتنعت البقرة عن الحليب، حتى أحضر جدي السكين ليضربها ضربة لبن، وهي ضربة توجه لها لتفرغ ما بها من لبن محبوس. لكنه وقبل أن يفعل عادت جدتي، فرأت الجمع، فتساءلتْ عما يحدث. حينها سمعت البقرة صوتَ جدّتي، فنزل الحليب. والكتابة عندي تعني من مصدر الصوت إلى انهمار اللبن، فصفق الفرنسيون لدقائق، لأنهم اندهشوا بتراثك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...