بعد أن يجوبا أراضي زراعيةً ومساحات واسعةً في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ينتظر أبو أحمد ولدَيه يومياً، ليعودا حاملَين معهما كيسين من قطع الكرتون وأغصان الزيتون و"تواليع"، كما يسميها، وهي قصاصات خشب صغيرة ليوقد بها النهار. ينتظر قدومهما بفارغ الصبر، ليشعل مدفأة بيته المتضعضع بفعل القذائف والصواريخ التي أثرت على الكثير من الأبنية في تلك المنطقة، ومناطق كثيرة في سوريا.
يتحدث أبو أحمد (55 عاماً) إلى رصيف22، عن الحال الذي وصل إليه السكان في بلدته وعموم بلدات الريف الدمشقي، ويقول: "هذا أشد شتاء يمرّ عليّ، أيام ‘المربعانية’ لا يُمكن أن تُنسى في الغوطة، هنا لن تجد سوى أجساد متعبة ترتدي طبقات من الملابس المهترئة لمواجهة البرد، مع النقص الحاد للمحروقات والتقنين الكهربائي وارتفاع سعر الحطب".
يضيف: "بالنسبة لي، ولكل من عايش فترة الحصار التي عانت منها منطقتنا، فإن هذه الأيام لا تختلف أبداً عن تلك سنوات، لا بل أستطيع القول إن سنوات الحصار أفضل من حيث توفر الحطب، فالسلطات اليوم تمنع قطع الأشجار وإن وجدته فالأسعار باهظة. على أي حال، يمكن ملاحظة الأزمة الشديدة من خلال الشوراع الخالية من المارة، التي تخبرك عن الواقع المرير".
بات الرجل الخمسيني يعتمد اليوم على ولديه في جمع كُل ما يصلح للحرق، فقد سبق أن أحرق الكثير زمن الحصار، ومما أحرقه ليُدفئ عائلته، الكثير من كتبه الغالية التي كانت تُشكل له في السابق مكتبةً يبنيها كتاباً كتاباً. اليوم تبدلت الأدوار، إذ يُمضي ولداه ساعات عديدةً في جمع كل ما يصلح للاحتراق من أحذية ونايلون وجذور البربار (نبات سريع الاشتعال)، لتدفئة بيت تلعب فيه الرياح ويسكن الصقيع زواياه، و"كأننا نعيش في عصر ما قبل الجاهلية".
توقّع خبراء الأرصاد الجوية السورية، أن شتاء 2023، سيكون أكثر برودةً من الموسم الماضي، الذي سجل حالات وفاة عدة
يعتمد أبو أحمد على راتبه التقاعدي الذي لا يتجاوز 150 ألف ليرة، أي ما يعادل 25 دولاراً، في الوقت الذي وصل فيه سعر طن جفت الزيتون (تفل الزيتون)، إلى 190 دولاراً، وهو من المخلفات الخطيرة والرديئة المستخدمة للتدفئة، بينما وصل سعر شوال (كيس من خيش) روث البقر ذي الرائحة الكريهة إلى دولار ونصف تقريباً.
لا مهرب من الصقيع
لا تقف ارتدادات البرد والصقيع على المعاناة في توفير وسائل التدفئة فقط، بل تتعداها إلى أنواع معينة من الأدوية التي يزداد الطلب عليها في موسم الشتاء، خاصةً تلك التي توصف للأطفال عند التهاب البلعوم وقصبات الصدر وعدوى الأنفلونزا، إذ يقول صيدلاني من منطقة النشابية في ريف دمشق، لرصيف22، إن "نقص الأدوية يعود إلى عمليات احتكار المافيات وتحكمها بتجارة الدواء، مستغلةً حاجة الناس الماسة إلى الأدوية وإقبالهم الواسع عليها، وتحديداً التي تعالج الأمراض الناتجة عن البرد".
ويلفت الصيدلاني الذي طلب عدم ذكر اسمه خوفاً من الملاحقة، إلى أن "ما زاد الطين بلّةً، هو انتشار فيروس ‘متحور يوم القيامة’ القاتل والذي تُعدّ موجة الصقيع سبباً رئيسياً له، إذ ارتفعت بنتيجته الإصابات التنفسية وأمراض حساسية الصدر، وسط غياب الأدوية المناعية اللازمة، والاقتصار فقط على جلسات الرذاذ".
وتوقّع خبراء الأرصاد الجوية السورية، أن شتاء 2023، في سوريا، سيكون أكثر برودةً من الموسم الماضي، الذي سجل حالات وفاة متعددةً جراء البرد القارس. وأثار تصريح الممثل الموالي، حسام تحسين بيك، استغراباً واسعاً بعد ظهوره في لقاء إذاعي، وحديثه عن قراره بالتوقف عن العمل في الفن برغم حصوله على بعض العروض، بسبب البرد القارس.
إلى الشمال درّ
هناك على الطرف الشمالي السوري، مركز تجمّع معارضي النظام، المتاخم للحدود التركية والذي يُعدّ الأشد برودةً من بين المناطق السورية، لا يبدو الواقع أفضل من مناطق سيطرة النظام، خاصةً في المخيمات المتناثرة على امتداد إدلب وريفها وريف حلب الشمالي، إذ تداول ناشطون مقطعاً نشرته "قناة الجزيرة" يتناول بكاء المذيعة بعد مشهد طفل سوري في خيمة رثّة، يبكي بمرارة، ويكتفي بقول: "الله بيدبّر"، عند سؤال المراسل له عن تدابيره عندما يشتد البرد.
وكان ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، قد أشار إلى أن الشتاء الحالي من أصعب المواسم على النازحين السوريين، وأن ستة ملايين شخص في سوريا سيكونون بحاجة ماسة إلى مساعدة للتصدي لظروف الشتاء القاسية.
من جهته، لفت "فريق منسقو استجابة سوريا" (فريق إحصائي تقييمي شمال سوريا)، إلى أن 35.2% من النازحين حصلوا على مواد تدفئة مقابل 64.8% لم يحصلوا على مخصصات أو مواد تدفئة للشتاء الحالي، محذراً من تسجيل حالات وفيات بين الأطفال وكبار السن في ظل الانخفاض الكبير في درجات الحرارة، خاصةً مع تسجيل عدد من الوفيات بين الأطفال العام الفائت نتيجة الحرارة المتدنية.
انفصال عن الواقع
كان السوريون يعتمدون عموماً في مناطق سيطرة النظام على الكهرباء في تدفئة بيوتهم في ظل غياب المحروقات، إلا أنه مع غياب المحروقات والتقنين في ساعاتها الذي وصل إلى 22 ساعةً مقابل ساعتين غير منتظمتين، صارت التدفئة على الكهرباء ضرباً من الخيال، في حين أن حكومة النظام تبدو عاجزةً عن تقديم أي مساعدة، خاصةً بعد انقطاع النفط الإيراني عن مناطق النظام، ولا يبدو في الأفق أن احتمال وصول بعض منه سيكون قريباً.
هذا أشد شتاء يمرّ عليّ، أيام ‘المربعانية’ لا يُمكن أن تُنسى في الغوطة، هنا لن تجد سوى أجساد متعبة ترتدي طبقات من الملابس المهترئة لمواجهة البرد، فإلى أين نهرب؟
وقال عضو مجلس الشعب، محمد خير العكام، في حديث تلفزيوني، إن "الكهرباء في حال توفرت لمدة 24 ساعةً متواصلةً في اليوم، فإن المواطن لن يتمكن من دفع الفاتورة التي قد تصل إلى مئتي ألف ليرة، وإنه في ظل التقنين الفاتورة ستصل حالياً إلى أربعين ألف ليرة"، وختم ردّاً على سؤال أحد الحاضرين: "لا، دخيلك ما بدنا كهربا".
أما في الشمال السوري، فقد أزالت "حكومة الإنقاذ" (ذراع هيئة تحرير الشام المدنية)، لافتات انتشرت على الطرق في مدينة إدلب كُتب عليها: "الشتاء اختبار للفقير بصبره"، بعد موجة احتجاجات على وسائل التواصل الاجتماعي، تتهم تحرير الشام باستفزاز الأهالي، ودعوتهم للصبر والرضا بالأمر الواقع في حين أن أمراء تحرير الشام يتنعمون بالدفء، وسط تجاهل تحرير الشام لأوضاع المخيمات، وعدم التماس أي مساعدة منهم لمواجهة الشتاء البارد، برغم العوائد المالية الضخمة في خزينتها وإنفاقها والذي قدّره "مركز جسور للدراسات" (مقره تركيا)، في دراسة تحليلية، بما بين 2 و2.5 مليون دولار شهرياً.
يرى الباحث الاقتصادي، عبد الرحمن أنيس، أن "أي سلطة عندما تعجز عن إدارة مناطقها، تلجأ إلى التبرير، وحينما تبرر تلك السلطات عجزها، فإنها لا تكون أكثر ذكاءً من المتلقين، لأنها تدرك أن القوة بيدها وأن الشعب ضعيف لا حول له ولا قوة"، واصفاً هذه التبريرات بـ"السخيفة والتي تعبّر عن استخفاف حكومة النظام من جهة، وسلطات الأمر الواقع من جهة أخرى، بالشعب، وبفضل ضعفه وسكوته عن الانتفاض ضدهم، فإن تلك السلطات ماضية في حكم هؤلاء المساكين".
المواجهة بمخلّفات قاتلة
لا يبدو أن أيام "أبو أحمد" في الغوطة -والذي يمثّل شريحةً هي الأكبر في مناطق سيطرة النظام- تختلف عن الأيام التي يعيشها قرابة أربعة ملايين مهجر شمال سوريا، بينهم 1.8 مليون طفل ضمن 1،633 مخيماً تفتفر إلى أدنى مقومات الحياة وفي مقدمتها وسائل التدفئة.
"مخيم الضياء"، واحدٌ من تلك المخيمات ويضم 613 عائلةً مهجرةً من ريف إدلب الجنوبي، تكافح البرد القارس بخيام مهترئة منذ أربع سنوات، وسط غياب تام للمنظمات الإغاثية، إذ أشار عماد الحوشي، مدير المخيم، لرصيف22، إلى أن "البرد في كل عام يجدد معاناة عوائل المخيم، خاصةً هذا العام مع موجة الصقيع التي حوّلت الخيام إلى غرف شبيهة بغرف الموتى".
تشير التقديرات إلى أن 35.2% من النازحين حصلوا على مواد تدفئة مقابل 64.8% لم يحصلوا على مخصصات أو مواد تدفئة للشتاء الحالي
ويضيف: "كثيرة هي الخيام التي من دون مدفأة وتمضي العائلات ليلها في ظلام دامس ملتحفةً ببطانيات، أما الأسر التي تملك مدفأةً فتعتمد في تشغيلها على كل ما هو صالح للحرق، من ملابس وبلاستيك وكل ما يمكن أن يشتعل".
ويتحدث الحوشي عن غياب الدعم في كل المجالات عن المخيم منذ تأسيسه وخاصةً الدعم الطبي، لافتاً إلى تعرّض نسبة كبيرة من أهالي المخيم وتحديداً الأطفال لنزلات برد قاسية والتهاب القصبات والسعال الشديد ما أودى بكثيرين منهم إلى المشافي أياماً عديدةً.
من جهته، يشير الناشط فيصل عكلة، المطّلع على أوضاع المدنيين، إلى أن أكثر ما يعانيه قاطنو المخيم هو نقص ما يُعينهم على احتمال برد الشتاء القارس، حيث لا ألبسة شتويةً ولا أغطية، وحتى خيامهم مهترئة، ولا يقتصر الأمر على المخيمات فحتى من استبدل سقف الخيمة بغرف طينية لا يستطيع الفرار من البرد بسبب غياب الدعم المقدّم، لافتاً إلى أن أرباب الأسر والأطفال ينتظرون اليوم المشرق لتسلّق الجبال والتقاط الأعواد والجذور والنايلون لإشعالها في لياليهم.
وبالنسبة إلى المنظمات الإنسانية، فقد تراجع دعمها بشكل كبير هذا الشتاء، وهو ما دعا الأسر إلى الاعتماد على مخلفات ضارّة لإشعالها، أدت إلى أضرار صحية جسيمة عليهم خاصةً على أطفالهم، فبحسب عكلة، "من يدخل مساءً إلى الخيام السورية لا يستطيع الرؤية بسبب الدخان الأسود الكثيف، فإما الموت برداً أو اختناقاً".
وكان الدفاع المدني السوري في ريف حلب الشمالي، قد أكد مقتل طفل وإصابة ثلاثة أطفال أشقّاء، الشهر الجاري، إثر انفجار مقذوف من مخلفات الحرب بعد إشعالهم مدفأةً في منزل يقطنونه في خربة ندة شرق مدينة أعزاز، وفي اليوم ذاته، أصيب طفلان وامرأة إثر انفجار مجهول السبب في مدفأة داخل خيمتهم في مخيم عشوائي في ريف إدلب الشرقي، ويعود ذلك إلى بحث النازحين في محيط المخيمات والأراضي الزراعية عن كل ما يمكن إحراقه من أكياس ومخلفات وحطب وبلاستيك، والتي قد تتضمن أحياناً مخلّفات حربية".
بالنظر إلى الأحوال التي وصل إليها المواطنون السوريون في المناطق التابعة لأطراف النزاع السوري، يُمكن القول إن البقاء في الفراش وقت البرد، والتحاف ما توفر من أغطية، أو تحمّل رائحة دخان المواد المشتعلة، هو القاسم المشترك بين كل السوريين موالاةً ومعارضةً، في السنة الثانية عشرة لاندلاع الثورة السورية، مع ما فُرض عليهم من خيارات كارثية، ليعيشوا بؤساً على المستوى المعيشي والخدماتي وصولاً إلى حالة العوز والموت.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون