إذا كان التاريخ يذكر أن أقدم عمل للمرأة في العالم القديم هو القابِلات أو المولِّدات، ويُطلَق عليهن "الدايات"، فإن "الندَّابات" هن الوجه الآخر للقابلات في الوجود الإنساني، إذ ارتبط وجودهن بالبكائيات في مرحلة الوداع والغياب.
و"العدِّيد" بمثابة مجموعة من المشاعر المضغوطة التي اختمرت في نفسية "المعدِّدَة" أو "الندَّابة"، لتستقطب بها مع البكاء ميراثاً عريضاً من الضغط والخسف، ويصف الشاعر درويش الأسيوطي العدودة في دراسته عن أشكال العديد في صعيد مصر بأنها: "نهر حزن بلا مصب يجرى منذ آلاف السنين ولن يجف أبداً"٫ و يقول أحمد رشدي صالح في كتابه فنون الأدب الشعبي: "ليس أمراً شاذاً أن تكون البكائيات فن التسرية لدى المرأة كلما خلت إلى نفسها أو همت إلى بعض شئونها".
ويروي جيمس هنري بريستيد في كتابه فجر الضمير واصفاً صيغ "الندب" و"العدّيد" في مصر الفرعونية: "نجد أن أبرز شيء في هذه المتون هو الاحتجاج الملح بل الاحتجاج الحماسي ضد الموت، ويمكن اعتبارها صورة لأقدم ثورة عظيمة قام بها الإنسان ضد الظلمة والسكون العظيمين اللذين لم ينج منهما أحد".
"التعديد" في عصور الدولة الفرعونية الوسطي علي جدران المقابر
كانت "الندابات" أصحاب إمبراطورية "النحيب" في مصر يتشحن بالسواد عبر عباءة مهترئة، إذ يستدعيهن أهل الميت أو أصدقاؤه لتبكية الحضور، فيتواجدن على رأس كل "ميت" يرددن عبارات التبكية الصارخة. وهن امتهن "الندب" واحترفن أداءه وأصبح مصدراً لرزقهن، وقد اشتهرن في مصر القديمة والحديثة لمدة طويلة، كما كان لهن وجود فى بعض المناطق من الجزيرة العربية وبلاد الشام، ولا يزال لهن وجود فى بعض دول إفريقيا مثل غانا، ومع تطور العصور بدأت تنحصر مهنتهن إلا أنها لا يزال لها صدى في بعض الأوساط الريفية في القرى والنجوع خاصة في صعيد مصر .
تمثال امرأة -غالبا إيزيس- في وضع متفجع من القرن الخامس عشر أو الرابع عشر ق.م
ويرى عالم المصريات الدكتور "أحمد صالح" أن فن العدِّيد كان معروفاً فى العصور المصرية القديمة، وتعتبر مقبرة (رع-مس) أو (عموزا) بالأقصر من أهم المقابر التي تمثل هذه مناظر (الندب) وتصورها، ولذلك أطلق عليها مقبرة الندهات، واعتبر أن أولى "معددتين" في التاريخ هي الإلهة "إيزيس" زوجة "أوزوريس" الذي قتله أخوه بحسب الأسطورة المصرية القديمة، وأخته "نفتيس".
"النائحات" في مصر الفرعونية يطلبن الرحمة للمتوفي من مقبرة "رعموزا" بالأقصر
ويقول "وليم نظير" في كتابه "العادات المصرية بين الأمس واليوم" عن تلك الأسطورة الشهيرة: "بعدما استطاعت إيزيس جمع أشلاء زوجها المتناثرة وصنعت منها أولى المومياوات بمساعدة نفتيس وأنوبيس، وانتقل أوزير بعد ذلك إلى عالم الأموات حيث تم دفنه على أنغام مراثي إيزيس ونفتيس، قالت إيزيس:
تعال نحو بيتك، أنت يا من لم يعد له أعداء، أيها اليافع الجميل. تعال إلى بيتك لكي تراني. أنا أختك التي تحبها. لا تبتعد عني. تعال إلى بيتك.
أنا لا أراك، ومع ذلك قلبي يصبو إلى لقياك، وعيناي تلتمسان رؤياك، ما أروع أن أتأملك.
تعال إلى من تحبك... تعال إلى جوار أختك
"بكائي يُسمع في السماء٬ ولكن ألا تسمع صوتي؟"
تعال إلى جوار زوجتك، أنت يا من لم يعد قلبه يخفق
لا تبتعد عني، الآلهة والناس اتجهوا بوجوههم نحوك وكلهم يبكونك معاً لأنهم يروني.
أناديك وأبكيك بحرقة حتى أن بكائي يُسمع في السماء٬ ولكن ألا تسمع صوتي؟".
طقوس الندب و العدِّيد في الأقوام الأولي
ونقل الدكتور محمد شحاته في كتابه أغاني النساء في صعيد مصر أن المؤرخ الإغريقي هيرودوت قد كتب عن تقاليد الندب في مصر القديمة فقال: "إذا كان في بيت من البيوت رجل ذو شأن لطخت كل نساء هذا البيت الرأس أو الوجه بالطين، ثم يتركن الجثة في الدار، ويجلن في المدينة لاطماتٍ، وقد شمرن عن أذرعهن، وكشفن عن صدورهن، ومعهن كل أقاربهن".
وتعود طقوس النحيب والندب عند المصريين لأكثر من سبعة آلاف عام، إذ كان المصري القديم يهتم بحياته الأخرى بعد الموت أكثر من دنياه لأنها هي الحياة الأبدية وفق معتقده، فبرع بتصوير ما يتم من شعائر وتقاليد خاصة بالمتوفى وجنازته عبر تزيين المقابر بالزخارف والكتابات ومعلومات قيمة عن الجنازة، منها أن أعداد الندابات كانت تتراوح ما بين مائتين و ثلاثمائة سيدة، يطفن حول المدينة وينشدن أناشيد في حسن خلق الملك أو الحاكم والحديث الطيب عنه، ثم يهيلن التراب على رؤوسهم، وهو ما تم تناقله جيلاً بعد جيل ليظل باقياً إلي يومنا هذا في العديد من مظاهر الحزن بمختلف الأماكن.
"النساء العربيات كنّ يمزقن الجزء العلوي من أرديتهن ويخدشن وجوههن وصدورهن بأظافرهن ويضربن أنفسهن بالأحذية ويقصصن شعورهن، فعندما توفي خالد بن الوليد لم تكن هناك سيدة واحدة من قبيلته بني المغيرة إلا وقصت شعرها ووضعته عند قبره"
وفي أسفار موسى الخمسة التي ذاعت في أورشليم عام 621 ق.م، وبالتحديد في "سفر التثنية: الإصحاح الرابع عشر" نقرأ: "أنتم أولاد الرب إلهكم، لا تخمشوا أجسامكم، ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميت، لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب إلهك لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين علي وجه الأرض".
كما كان العرب قبل الإسلام شأنهم شأن اليهود يلطمون الخدود ويشقون الجيوب، وطبقاً للكاتب محمد شحاته في كتابه أغاني النساء في صعيد مصر: "فالنساء العربيات كن يمزقن الجزء العلوي من أرديتهن ويخدشن وجوههن وصدورهن بأظافرهن ويضربن أنفسهن بالأحذية ويقصصن شعورهن، فعندما توفي القائد العظيم خالد بن الوليد لم تكن هناك سيدة واحدة من قبيلته بني المغيرة إلا وقصت شعرها ووضعته عند قبره".
ويقول شحاته في كتابه إن العادة عند الإسرائيليين القدماء كانت أن يظهروا حزنهم على وفاة أصدقائهم عن طريق قطع أجسامهم وقص جزء من شعورهم بحيث تبدو صلعات فوق رؤوسهم، ويبدو أن عادة التجريح وحلق الشعر كانت مألوفة لدى اليهود وجيرانهم وهم الفلسطينيون والمؤابيون.
وقد نهت الأديان عن تلك العادات لما رأته من اعتراض على إرادة الله في الخلق فيها، فكما عرضنا قد حذر موسى قومه، ونهى الرسول محمد عن القيام بتلك الأفعال أيضاً قائلاً: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
ويختلف العديد من مكان لآخر حسب ثقافات المكان، كما يختلف أسلوبه باختلاف جنس وعمر وصلة وظروف وديانة ومكانة وطريقة موت المتوفى، كما يختلف أيضاً في مراحل الموت المختلفة (المرض - الاحتضار - ما بعد خروج الروح - الغسل - التكفين٬ إلخ).
الندب في صعيد مصر
تسجل أوراق المؤرخين والباحثين في صعيد مصر التي نقلها الشارع درويش الأسيوطي في كتابه أن العدودة المصرية المعروفة أيضاً بالمعددة، التي اشتهرت في المشاهد الجنائزية، ظلت حاضرة بمآثرها الموروثة التي تنعى فيها المرأة الصعيدية فقيدها لحظة الوداع.
مشهد من "نحيب" النساء في صعيد مصر
والعدودة جزء من الموروث الشفاهي، ولها طبيعتها الخاصة، فهي إبداع نسائي خالص، فالمرأة المصرية تردده دائماً كلون من الغناء الشجي، وكلما خلت إلى نفسها وفاض صدرها بمعاناتها الشخصية، انعكس ذلك في صورة عديد، وقبل أن تبكى من مات من الأحبة تبكي حالها هي وما تعانيه من ضغوط عائلية ومجتمعية خانقة.
قالوا شجية (شقية)… جُلت (قلت) من يومي
قسموا النوايب... طلع الكبير كومي
يا مرة أبويا... يا عُجدة (عقدة) اللحلاح
ميتي تموتي وامسك المفتاح
(من كتاب أشكال العديد في صعيد مصر).
والعدودة فن يلازم مزاج الصعايدة في الحزن، لاستثارة المشاعر عند المعزيات، والتحريض على البكاء، وإثارة الأحزان، مقابل حصول "العدودة" على بدل مادي بسيط مقابل إحياء مراسم الجنازة. وللعدودة" مكان مخصص، إذ تتقدم المشيعات للجنازة حتى باب المنزل، وتتوسطهن وهي تؤدي أغاني تعبر عن الحزن على فراق الأحبة .
العدودة فن يلازم مزاج الصعايدة في الحزن، لاستثارة المشاعر عند المعزيات، والتحريض على البكاء، مقابل حصول العدودة على بدل مادي بسيط مقابل إحياء مراسم الجنازة. وللعدودة مكان مخصص، إذ تتقدم المشيعات للجنازة حتى باب المنزل، وتتوسطهن وهي تؤدي أغاني تعبر عن الحزن
ومن المألوف في التعديد عند أهل الصعيد تصوير الموت وملاكه (عزرائيل) بيده منجله، الذي يحش ويقطع به رقاب العباد كما يُحشُّ نبات الملوخية:
حشيتهم يا موت حش الملوخية
اللي بارم شنبه لية على لية
وهدومهم ع الغسل مرمِّيَّة
وعندما يكون الميت شاباً تقول "الندابة":
شاب يا عود القرنفل... يا روايح للتياب
قالولو يا شاب روح... قال نويت على الغياب
يا شابنا يا كبير... جودك علينا زي بحر النيل
يا شاب عاود لهم عاود... دا انت طويل البال ومهاود
(من كتاب الشعر الشعبي الفولكلوري: دراسة ونماذج).
وفي بعض النصوص تعاهد الندابة الدف الذي تضرب به، قائلة إنها ستشتري له حناء وتحنيه إذا ما عاد بالميت الغالي!
أحنيه يا طاري... إن جبت الغالي
نشتري حنة ونحنيك
ونعمل قرني لك معلاج
ونعاهد ما نرميك
(من كتاب الشعر الشعبي الفولكلوري: دراسة ونماذج).
والندب هو بداية المحفزات للأخذ بثأر المقتول من قاتليه في الصعيد، وحين تسأل الندابة عن سبب الوفاة معددة لهم أدوات القتل، متسائلة هل قتل بالسكين أم ضرب بالرصاص، فهي تستهدف إثارة المشاعر، نساءً ورجالاً.
فين الرجالة السدَّادة... اضربوا عز القيالة
فين الرجالة المسمية... اضربوا عز الضهرية
(من كتاب أشكال العديد في صعيد مصر).
كما تتحدث "النائحة" أحياناً بلسان الفقيدة، وعما يحدث لها:
الغاسلة قعدت ورا أكتافي
حلت ضفايرى... وبللت راسي
والغاسلة… قعدت ورا ضهري
حلت ضفايرى وبللت شعري
مالك تكبي... المية على عيني
إياك لقيتي... بعدي حبيب غيري
مالك تكبي… المية على وشي
إياك لقيني… بعدي حبيب خلفي
ومن عديد المرأة على زوجها تقول:
عدمك خسارة يا جسر بين بلدين
أحترت من بعدك أنا أروح فين
مالقيت حيلة بكيت بدمع العين
(من كتاب أشكال العديد في صعيد مصر).
كما أن تصوير المفقود بالوردة شائع في ندب الصعايدة كما يقول الدكتور "أحمد خالد توفيق" في دراسته ( أغنيات الفراق... تراث الحزن في صعيد مصر ):
عدمك خسارة يا ورد في جنينه... يا عمود بيتك يا زهرة العيلة
عدمك خسارة يا ورد في مشنه... يا عمود بيتك يا زهرة الجنة
وهكذا نجد أن العدِّيد رصد شعري رائع يدفع بالدموع إلى العيون، ثم جرت في النهر المياه التي نعرفها، فكاد يذهب كل هذا التراث لولا بقية باقية من قدماء الرواة، وبضع بيئات مجتمعية تحافظ على الحد الأدنى لتلك الثقافة الشعبية الأصيلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...