توفيّ خالي وحزنت على قطعة من طفولتي وشبابي وكهولتي ارتبطت بتواجده قربي وبتلك التجمعات العائلية الدافئة التي تتكرر روتينياً لكنها تلوّن المعيشة بالودّ والسلام الذي لا يوفرّه نوع آخر من العلاقات. نريد أن نهرب من الموت، لكنه موجود مع الحياة جنباً إلى جنب. يظهر فجأة، ويذكّرنا بقصر أيامنا في هذه الحياة وقيمة أن نعيشها كما يجب.
لكن كآبة مراسم التشييع، هنا في دمشق، تذكّر بقيمة الموت أكثر من قيمة الحياة. ليس لأن معيشتنا صارت قليلة القيمة أصلاً بسبب طول سنين الحرب وسوء الأحوال بل لأن طريقتنا في فرض الاكئآب عجيبة وخصوصاً على الجزء المقموع أصلاً من المجتمع: النساء.
وعندما يفاجئنا الموت في مدينة مثل دمشق، لا تفاجئنا الطقوس المصاحبة له. فقد تكررت أمامنا آلاف المرّات، ولا تفاجئنا الصدمة الأولية والانضمام إلى عائلة الفقيد أو الفقيدة ومشاركتها الحزن ومحاولة التخفيف عنها، وكل ما يتلو ذلك من طقوس طويلة تبدأ بالتغسيل والتكفين والحمل إلى دار العبادة للصلاة بسيارة تنتقل بين الشوارع ليصرخ المنادي بأعلى صوته: "ترحموا على روح الفقيد(ة)"، مارّاً ببيته(ا) ليتسنّى لنساء العائلة توديعه(ا) من وراء أخدارهن، لأن النساء لا تشاركن بالجنازة ولا تصلين على الميت في المسجد ولا تحضرن الدفن مهما كانت صلة القربى بالميت.
وفي مقابرنا البشعة التي صارت محاطة بالمناطق السكنية من كل الاتجاهات بسبب تمدد المناطق السكنية والتوسع الطبيعي للمدينة، يتسنّى للميت أخيراً أن يرتاح في قبر قديم لأحد أسلافه، لأن المقابر لم تعد تتسّع لقبور جديدة وساكنو المدينة يعتبرون مواقع القبور مقدّسة ويجب المحافظة عليها وتزويدها أيضاً بكل الموتى المعاصرين. هكذا، تحولت مواقع القبور التقليدية إلى مناطق تزدحم بالنائمين كما تزدحم البيوت بساكنيها. وصارت زيارة المقابر مخاطرة حقيقية لأن المنطقة وعرة تماماً تنعدم فيها الممرات المقبولة للعبور وتضيع فيها خرائط قبور الموتى.
وحتى هذه اللحظة، يبقى الأمر مقبولاً. رغم كل شيء. فقد تُرك المرحوم بحاله أخيراً وقدّم الرجال كل ما يتوجب عليهم تقديمه بالدعاء له وإيداعه تحت تراب وطنه المقدّس في مقبرة أجداده المقدّسة.
وهنا تبدأ مراسم العزاء التي تُفصل فيها النساء عن الرجال كلياً. وعادة، تسمّى مناسبة تقديم العزاء للسيدات بـ"العصرية"، نسبة إلى توقيتها الذي يمتد من صلاة العصر إلى صلاة المغرب. وكانت في الماضي تقام في البيوت لكنها حالياً انتقلت إلى الصالات العامة لكنّ خصوصيتها لم تتغير للنساء، وإنْ اضطر أصحاب العزاء أحياناً إلى تغيير المواعيد على أن تبقى خلال النهار.
"تتسلّط ‘آنسات’ الدين على مجالس العزاء (في دمشق)... إذ ترتبط معظم العائلات الدمشقية بمعلمات دين معروفات، وكلّما ارتفع مقدار العائلة كلما تكثّف حضور الشيخات... وهكذا تتحول المناسبة إلى درس ديني مكثّف"
وتدخل النساء في مجموعة من سيدتين أو ثلاث إلى غرفة تجلس فيها حلقة من النساء الصامتات الملتحفات بغطاء أبيض وهن قريبات الفقيد(ة) وتجلسن لدقيقتين بمواجهتهن ثم تخرجن كما دخلن وتدخل مجموعة أخرى... وتحيّي حلقة النساء المعزيات الداخلات عليهن بالوقوف عند دخولهن والوقوف ثانية عند خروجهن. يجري كل ذلك بجو من السكوت المطبق. وعادة ما تجلس النساء في الحلقة حسب ترتيب قرابتهن للفقيد(ة) تبدأ من القرابة الأولية في صدر المجلس وتتدرج حتى الأطراف.
وتتسلّط "آنسات" الدين على مجالس العزاء وتسيطرن على الموقف بمجرد تواجدهن إذ ترتبط معظم العائلات الدمشقية بمعلمات دين معروفات، وكلّما ارتفع مقدار العائلة كلما تكثّف حضور الشيخات ليقمن بالدعاء للميت(ة) كما ينبغي. وهكذا تتحول المناسبة إلى درس ديني مكثّف. وتحيط أجواء جهنمية بالمكان ويتحول الدعاء للميت بالرحمة إلى دعاء للحضور بالمغفرة وتذكير بعذاب الآخرة.
ولا أدري لماذا يصرّ الجميع على تفعيل هذا الجو المشحون بالندم والشعور بالذنب والاعتراف بآثام البشرية وكأن أهل الفقيد(ة) لم يتشبّعوا من كل أحزان الماضي والحاضر منذ أن تلقوا صدمة موت عزيزهم.
ويبقى أن نقول إنه إذا كان الفقيد رجلاً فإن زوجته ستقوم بقضاء محكومية بالحبس في بيتها وهي فترة العدّة التي تمتّد لأربعة أشهر وعشرة أيام بالنسبة إلى سيدة تجاوزت مرحلة الشباب. هذا فوق مصابها ووحدتها بفراق رفيق عمرها الذي لم يعد معها في نفس البيت. وتتفنّن خبيرات الدين في تفصيل التعليمات القاسية التي يجب اتّباعها خلال هذه الفترة والتي تتوارثها أجيال النساء بدون أي مراجعة منطقية، مثل منع فتح النوافذ ومنع صبغة الشعر التي تعتبر بالنسبة للنساء فوق الخمسين هروباً رئيسياً من الشعر الأبيض ومظهر الشيخوخة ويمنع عليها المبيت خارج بيتها ولو عند أبنائها أو بناتها أو أهلها. والقائمة تطول ووسائل التضييق متعددة. والجائزة أن ثواب الصبر على قسوة فترة العدّة كبير، وتعد الشيخات به مرددات أحاديث وأقوال يختلط فيها الغثّ بالسمين، ويُستبعد هنا استعمال العقل نهائياً.
"حان الوقت للتغيير. نحن بحاجة إلى البحث عن تعابير إيجابية للتنفيس عن أحزاننا. نحن بحاجة إلى نبذ نفاق مدّعي ومدّعيات تحميل الدين تعليمات هو بريء منها. ونحن بحاجة إلى الثورة على عادات موروثة عن زمن الحريم"
وإذا كانت الفقيدة امرأة فيفضّل ألا يحزن عليها زوجها طويلاً ويسمح له بالطبع بعقد قرانه على أخرى ويُنصح بذلك لأن الزواج صيانة للأعراض ولأن الرجل بحاجة إلى مَن تواسيه وتؤنس وحدته.
ويتلقّى الرجال العزاء بعد صلاة العشاء وتدعى المناسبة بـ"التمساية: يقف أقرباء الفقيد(ة) في صف واحد خارج صالة العزاء ويسلمون على المعزّين ويُسمح للرجال بالدخول والاستراحة وتبادل الأحاديث داخل الصالة قبل أن يخرجوا ويسلمّوا على أقرباء الفقيد(ة) ويتبادلوا معهم كلمات المواساة. وبالطبع، يتواجد المشايخ حسب قيمة العائلة، ليلقوا أيضاً دروساً دينية وجلسات أدعية مطوّلة لرحمة الميت.
لا عجب أننا مرتبطون بالموت كثقافة. فتاريخنا حافل بالصراعات والاقتتال ولكن أن يكون الموت مناسبة لتكريس همومنا في الدنيا والآخرة وأن يكون ما نفعله ونردده خلال هذه المناسبات كماً هائلاً من الإحباطات والمشاعر السلبية فهنا تكمن الطامّة الكبرى.
حان الوقت للتغيير. نحن بحاجة إلى البحث عن تعابير إيجابية للتنفيس عن أحزاننا. نحن بحاجة إلى نبذ نفاق مدّعي ومدّعيات تحميل الدين تعليمات هو بريء منها. ونحن بحاجة إلى الثورة على عادات موروثة عن زمن الحريم الموغل في بعده عن احتياجاتنا وظروفنا الحالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...