شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الجسد لا يكذب أبداً"... "علقة" الطفولة المنسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 28 يناير 202302:50 م

"لا أحبّ والدي ولا أحترمه".

صدمت كلمات محمود سعد عن والده الكثير من العرب. بينما جادل البعض بأنها مسألة شخصية، أيد آخرون حقه في التعبير عن نفسه، طالبه كثيرون بالتستر حتى لو تعرض للظلم، ورآه آخرون وقحاً، وتساءلوا من هو المخطئ حقاً؟

في موقف مماثل، تذكر الأخصّائيّة النفسية السويسرية من أصل بولندي، أليس ميلر (1923 – 2010)، أنّه لمّا نشرت مجلة "شتيرن" الألمانية سنة 1987 مقالًا لابن الجنرال النازي، هانس فرانك، وهو أحد أهمّ رجالات النظام النازيّ، يُدين فيه أفعال والده، دون أن يحاول أن يلطّف أو يسامح، ودون أن يعتبر نفسه مذنباً لما صرّح به.

تسبّب المقال في موجة عنيفة من الغضب والاستياء.

نادى النّاس بعقوق الابن، وأنه مهما أقدم عليه هانس فرانك فإنّ أكثر شيء جلب له العار هو إنجابه لمثل ذلك الابن العاق، وأنه كان يحقّ لأيّ كان أن يكتب هذا المقال، إلّا الابن الذي يتصرّف دون إنسانية، تماماً مثل والده.

ظروف مختلفة عن ظروف محمود سعد حتماً، لكنّ النتيجة هي ذاتها: الأبناء والبنات مطالبون بالسكوت عن إساءة الآباء والأمّهات، وإلّا اتُّهِموا بالعقوق. ليس لهم أكثر من خيارين: الكذب أو العقوق.

المشكلة في هذا الحلّ الذي أوصى به المجتمع المصريّ محمود سعد، كما أوصى به المجتمع الألماني ابن هانس فرانك، هو أنّه حتّى لو خضع الأبناء للوصيّة، وكذبوا أمام غيرهم متستّرين على الحقيقة، فلن يتمكّنوا من خداع أنفسهم لأنّ "جسدنا لا يكذب أبداً"، وهذا عنوان أحد كتب ميلر.

حسب الأخصائية النفسية أليس ميلر، لا يمكن إخفاء حقيقة إساءة الوالدين عن أجسادنا.

الأبناء والبنات مطالبون بالسكوت عن إساءة الآباء والأمّهات، ليس لهم أكثر من خيارين: الكذب أو العقوق. كيف يمكن أن نلاحظ ذلك عند الكتاب البارزين، حتى لو لم يبوحوا؟

كرّست أليس ميلر حياتها للكتابة عن إنكار معاناة الأطفال، وأصدرت في هذا السياق عدّة كتب، دعت فيها إلى الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر الأطفال، وتقدير معاناتهم من تربية الوالدين المبنية على الإذلال أو الضرب أو الإهمال، الماديّ أو العاطفي على حد سواء، ونادت بالكفّ عن الاصطفاف بطريقة آليّة في صفّ الوالدين، بحجّة أنهما يريدان الأفضل لأطفالهما.

عندما يكون الطفل قد تعرّض إلى سوء معاملة، وحدهما الكبت الضخم، والانفصال عن الأحاسيس الحقيقية يسمحان للشخص باحترام إحدى الوصايا العشر

توضح ميلر في كتاب "جسدنا لا يكذب أبدًا" (2004) إن تجربتها الشخصية في العلاج النفسي وتجربة الآخرين أثبتت لها أنه عندما يكون الطفل قد تعرّض إلى سوء معاملة، وحدهما الكبت الضخم، والانفصال عن الأحاسيس الحقيقية يسمحان للشخص باحترام إحدى الوصايا العشر حسب التراث اليهودي المسيحيّ، ألا وهي "أكرم أباك وأمّك".

عندما يحاول شخص أن يشعر بما "يجب عليه" أن يشعر به، في حين يمتنع عن الشعور بما يشعر به حقّاً، فإنه يمرض.

الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو أن يجعل أطفالَه يدفعون الثمن من خلال إسقاط أحاسيسه المكبوتة عليهم، فتتواصل عندئذٍ عبر الأجيال سلسلة الإساءة للأطفال أو التربية المروّعة لهم، والتي تطلق عليها ميلر اسم " البيداغوجيا السوداء".

أمراض الأدباء معاناة الطفل المختبئة

تجد ميلر أنّ هناك علاقة مباشرة بين إساءة الأولياء من جهة، والأمراض غير المبرَّرة أو الموت المبكّر لدى الكهول الذين كانوا أطفالاً لمثل هؤلاء الأولياء، من جهة أخرى.

واهتمّت أيضاً في كتاب "جسدنا لا يكذب أبداً" بتحليل حيوات عدّة أدباء، لتقارن بين كتاباتهم الأدبية التي تظهر فيها صورة الأب أو الأمّ، وبين حياتهم الشخصية بما فيها من حقائق عن حالتهم الصحية وعن أهلهم، لتجد كتّاباً لا يُشهرون نفورهم أو غضبهم من الوالدين المسيئين ولا يذكرون ذلك على العلن، لكن صورة الأب المسيء أو الأمّ المسيئة تظهر في كتاباتهم الأدبية دون أن يتجرّأوا على انتقادهما في الواقع، بل هم يحافظون في أغلب الحالات على الصورة المثالية للوالدين في مراسلاتهم الشخصية، ويعاني معظمهم من أمراض مزمنة، متسائلة عن وجود علاقة بين أمراضهم هذه والمعاملة التي تلقونها في الصغر.

من أبرز هؤلاء الكتاب:

1 - مارسيل بروست

تربط ميلر بين معاناة الكاتب الفرنسي مارسيل بروست من مرض الربو ووفاته اختناقاً في سنّ الأربعين، وبين والدته المسيطرة، التي كان همّها الوحيد أن تعيش في المجتمع البورجوازي، وأن تكون هي وذرّيتها مقبولتين منه، إذ لم تترك والدة بروست لابنها مجالاً كي يعيش، وقد حاول طيلة حياته أن يراعي مشاعرها، بل يكتُب هو ذاته متوجّهاً إلى أمّه "أستنشق هواء كثيراً لكن ليس لي الحق في أن أزفره. لا بدّ أنّ كل ما تعطيني أنت إياه نافع، حتّى لو كنت أختنق به".

2 - جيمس جويس

تتساءل ميلر أيضاً عمّا لم يكن مسموحاً لجيمس جويس بأن يراه أو يشعر به كي يُطوّرَ جسده مرضاً جعله يضطر إلى إجراء خمس عشرة عملية جراحية في عينيه، وترى أنّ لهذه العمليات الجراحية علاقة بعنف والده المدمن على الكحول.

في إحدى رسائله، يمتدح جويس والده ويُبرزه كرجل يتمتّع بروح فكاهة عالية، ويزعم أنه أحبّه دوماً وأحبّ حتّى عيوبه.

3 - شيللر

كذلك تعتمد ميلر على مثال الشاعر الألماني شيلر لتفسّر العلاقة بين تعنيف الأولياء لأطفالهم والأمراض المزمنة التي يعانون منها في سنّ الكهولة، وتقول إنه ما دامت هذه العلاقة مخفيّة ومحجوبة، فإن الناس سيستمرون في زعمهم أن تعنيف أوليائهم لهم خلال طفولتهم لم يسبّب لهم أيّ ضرر، وإنما كان لصالحهم.

عانى شيلر من والدٍ عنيف وقاسٍ، ومن مدرّسة ثانوية بنفس القسوة، واشتكى في كهولته من تشنّجات عضلية مؤلمة جدّاً، ثمّ من أمراض خطيرة ومزمنة قبل أن يوافيه الأجل في سنّ السادسة والأربعين.

من طفولة نجيب محفوظ

نظراً إلى سلطة العائلة في المجتمعات العربية، قلّما سنجد سِيرًا ذاتية أو مراسلات أو حوارات منشورة لأدباء عرب ينتقدون فيها إساءة الوالدين، وذلك رغم معرفتنا جميعاً بانتشار "البيداغوجيا السوداء" في المجتمعات العربية.

الاستثناء الوحيد هو محمد شكري طبعاً، الذي أطلق صيحة فزع في أدبه وخاصة في "الخبز الحافي" ضدّ تجبّر الأب وتسلّطه، ولم يتخفّ في هذا الكتاب وراء الشخصية الروائية، وإنّما صرّح بأنّها تسرد أحداث حقيقية من حياته.

نجيب محفوظ الحائز جائزة نوبل، كتب في ثلاثيّته حكاية أسرة تتقاطع في العديد من تفاصيلها مع حياته الشخصية

في المقابل، فإنّ الأديب المصريّ نجيب محفوظ الحائز جائزة نوبل، كتب في ثلاثيّته حكاية أسرة تتقاطع في العديد من تفاصيلها مع حياته الشخصية، وكان محفوظ قد صرّح حرفيّاً في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" للناقد المصري رجاء النقاش، أنّ " شخصية كمال عبد الجواد تتشابه معه إلى حدّ كبير، حتّى في قصّة حبّه الأوّل"، وكذلك تبدو شخصيات الإخوة والأخوات في الثلاثية.

نشأ محفوظ مع شقيقين وأربع أخوات بينه وبينهم فارق سنّ كبير، وكذلك كان بين كمال عبد الجوّاد وأخواته ياسين وفهمي وخديجة وعائشة فارق كبير في السنّ.

ويذكر النقاش أيضاً عشق أمه لسيدنا الحسين، تمامًا مثل الأمّ، أمينة، التي تجازف في رواية "بين القصرين" بالخروج عن أوامر زوجها "أحمد عبد الجوّاد" كي تزور مقام الحسين، قبل أن ينكشف أمرها.

لكن عندما يتعلّق الأمر بوالده، فإنّ نجيب محفوظ يصرّح في كتاب النقاش أن "شخصية والده تتحلّى بقدر كبير من المرونة والتسامح والديمقراطية وليس فيها استبداد أو عنف، ولا علاقة لها بشخصية أحمد عبد الجواد بطل "الثلاثية" وأنّ الشخصية الروائية مستوحاة من الجار الذي كان يسكن قبالة بيت أهله".

ويكرّر في كتاب جمال الغيطاني "نجيب محفوظ يتذكّر" أنه استوحى الشخصية من جار الأسرة، في حين أنّ عدّة ملامح لوالد الكاتب المصريّ تتقاطع مع شخصية أحمد عبد الجواد، وقد عدّد الغيطاني بعضاً منها في كتابه، مثل ميول الأب الفنية، وعمله في بورسعيد.

ذكريات منسية أم متناسية

في رواية بين القصرين، يتصرّف الأب، السيد أحمد عبد الجواد، بصرامة وعنف شديدين، ويمنع ابنه كمال من اللعب. ورغم أنّ الطفل الصغير كان "يرتعد فَرَقًا من أبيه (...) ولا يتصوّر أنّه يخاف العفريت لو طلع له، أكثر منه إذا زعق به غاضبًا"، إلا أنّه كان يندفع نحو شتى ألوان اللهو فتتستّر عليه العائلة إلّا إذا ضاقوا بغلوّه وإفراطه فيشون به إلى الأب، وتتستّر عليه أمه إلا إذا ما عرّض نفسه إلى الخطر. عندئذ تشتكيه إلى والده فيعاقبه بالضرب على قدميه حتى يستعصي عليه المشي.

هل كانت تلك حقاً العلقة الوحيدة التي ضرب بها والد نجيب محفوظ ابنه، فمثل هذا النوع القاسي من الضرب يشي في الغالب بممارسة منتظمة له؟ هل كان أبو نجيب يشبه شخصية "سي السيد"، وتلك هي الأجواء التي نشأ فيها؟

ومن الغريب أن يشبه هذا المقطع من رواية بين القصرين، مشهد "العلقة" التي يقول محفوظ إنها الوحيدة التي أعطاها له والده في حياته، وذلك بسبب الانجليز الذين كانوا يطالبون بإغلاق الشبابيك بينما تركها الصبي مفتوحة وراح يقلّد العساكر. فهو يذكر في كتاب رجاء النقاش: "أحضر عصاه وهوى بها عليّ، وجاءت أمّي تساعده وطرحاني أرضاً، وأمسكت أمّي بساقيّ ورفعتهما إلى أعلى، ليتمكّن أبي من ضربي على باطن قدمي، وتركاني وأنا أعرج"! فهي علقة تلقّاها الطفل نجيب محفوظ لأنّه عرّض نفسه للخطر، تماماً مثل العلقات التي كان ينالها كمال عبد الجواد، وهي أيضاً قد تركته أعرج مثلما كانت عقوبات كمال تجعل المشي مستعصياً عليه.

ويمكن أن نتساءل هل كانت تلك حقاً العلقة الوحيدة التي ضرب بها والد نجيب محفوظ ابنه، أوّلاً لأنّ مثل هذا النوع القاسي من الضرب يشي في الغالب بممارسة منتظمة له، ويجب هنا الإشارة أيضاً إلى دور أمّ نجيب محفوظ في العلقة، وهو يذكر في مقطع آخر من كتاب النقاش أنّها ضربته مرّة واحدة بدورها.

ثانيًا فإنّ الكاتب المصري يذكر العلقة في حواره مع رجاء النقاش كحادثة استثنائية، بينما تظهر العلقة التي تجعل المشي مستعصيا كعادة جارية في حياة كمال عبد الجواد، وهناك أيضاً في ذكريات أخرى في كتاب رجاء النقاش ما قد يؤكّد أوجه الشبه بين نجيب محفوظ وكمال عبد الجواد في المقطع المذكور من الرواية.

فقبل بضع صفحات فقط من وصف نجيب محفوظ لوالده بالمرونة والتسامح والابتعاد عن العنف والاستبداد، نجده يذكر في تعارض تامّ مع ذلك أنّه لمّا زادت "شقاوته" بعض الشيء اصطنع معه والده الحزم، وبعد أن دلّلـه إلى سنّ معيّنة، بدأ في سياسة الشدة، وأخيراً تخلّص منه بأن أرسله للكتّاب، أي أنّه أولى مسؤولية العلقة إلى شخص آخر غيره. ويضيف محفوظ: "عشت طفولة سعيدة لولا بعض المنغّصات مثل الكتّاب والحزم وسياسة الشدّة".

لكلّ هذه الأسباب، لا يبدو الحزم وسياسة الشدة – وقد لا تكون العبارة سوى تلميح لطيف للضرب والتخويف – لا يبدوان استثناء في طفولة الكاتب بل أشبه بالحزم وسياسة الشدّة، اللذين عاشهما كمال عبد الجواد بطريقة يوميّة، وقد يكون والد نجيب محفوظ أقرب إلى شخصية السيد أحمد عبد الجوّاد ممّا أراد الحائز جائزة نوبل الإفصاح عنه.

وكيف له أن يكشف عن مثل هذا الشبه للآخرين، بل ولنفسه على وجه الخصوص وهو الذي يقول "كنت أقدّس الأسرة"، ويعتبر أنّ المناخ الذي نشأ فيه يوحي بمحبّة الوالدين ومحبّة الأسرة.

هذا ما قد يدلّ على أن محفوظ يطمس تماماً حتّى عن وعيه الشخصيّ أثر ألمه ومعاناته المرجّحيْن خلال الطفولة. ولكن هل يمكن أن يكون جسده قد طمس كلّ أثر أيضاً؟

أصيب الكاتب، كما هو معروف، عقب تخرجه في عام 1934، بحساسية في الجلد والعين تعاوده في الربيع والصيف، فكانت تمنعه عن العمل. ثمّ إنّ نجيب محفوظ كان يحمل دوماً نظارات داكنة بسبب إصابته بمرض "جريفز" الذي يسبب حساسية من الضوء إلى جانب جفاف العينين أو احمِرارهما أو زيادة الدموع أو الشعور بعدَم الارتياح في إحدى عينيه.

قد نتساءل إذًا، كما تساءلت ميلر عمّا كان جويس يمنع نفسه من رؤيته: ماذا كان نجيب محفوظ، هذا الكاتب النابغة الشغوف الصّدوق، يمنع نفسه من رؤيته؟ أهي إساءة والده إليه؟

لن نعرف أبدًا إجابة قاطعة لهذا السؤال بعد أكثر من 16 عاماً على رحيل أستاذنا الكبير. وليس الغرض من هذا المقال إلحاق أيّ ضرر بسمعته، فإسهامه في الأدب العربي والعالمي يعلو على كل محاولة لتقزيمه، لكنّ ظهور بعض تفاصيل حياته في المجال العامّ، ووجودها بطريقة غير مباشرة في رواية مستوحاة من سيرته، تسمح باستكشاف موضوع الجسد الذي لا يكذب أبدًا، والذي يبقى دوماً حاملاً في خلاياه الحقيقة الأولى التي عاشها، أي حقيقة الطفولة.

فهل الغرض هو معاتبة كاتبنا الكبير على صمته المرجّح على إساءة والده؟ كلّا، بتاتًا، "فمن يريد أن يقول على الملإ أنّ والديه سيّئان" كما صرّح ابن أليس ميلر ذاته في حوار لتقديم الكتاب الذي نشره عن والدته “المأساة الحقيقية للطفل الموهوب". 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard