شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نزحوا إليها بحثاً عن الأمن والثراء... قصص طوائف المغول في مصر

نزحوا إليها بحثاً عن الأمن والثراء... قصص طوائف المغول في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 26 يناير 202309:29 ص

خلال عصر المماليك، نزحت عدة طوائف مغولية إلى مصر، وذلك لأسباب مختلفة، ووجدت ترحيباً من قبل السلطة الحاكمة، فتولى أفرادها مناصب سياسية وعسكرية، وتركوا بصماتهم الاجتماعية والثقافية في المجتمع المصري، وبعض آثارها لا تزال باقية حتى الآن.

غالبية المغول المهاجرين إلى مصر في تلك الفترة كانوا من "مغول القفجاق". وتشرح الدكتورة حياة ناصر الحجي، في دراستها "العلاقات بين دولة المماليك ودولة مغول القفجاق"، أن المغول كان لهم دولتين عظيمتين، هما دولة بني هولاكو، وتشمل بلاد العراق وفارس وخراسان وما وراء النهر؛ ودولة بني جوجي بن جنكيز خان في الشمال، وتعرف باسم بلاد "القفجاق"، والتي ظلت مملكة بدوية يعيش أهلها على الرعي في المناطق السهلية، وامتد سلطانها على المناطق الواقعة جنوب روسيا، وكان ملكهم يلقّب بـ"خان القبيلة الذهبية".

وتذكر الحجي أن بركة خان أول مَن اعتنق الإسلام من ملوك دولة مغول القفجاق، ما أدى إلى تقارب كبير بين سلطنة المماليك وهذه الدولة، خاصة في عهد العاهليْن الظاهر بيبرس وبركة خان. واستمرت هذه العلاقة الودية رغم تغيّر حكام الدولتين وتعاقبهم.

بيد أن هناك سبباً آخر ساهم في توطيد هذه العلاقة، إذ كان العداء مستفحلاً بين بيت بركة، حكام دولة مغول القفجاق، وبيت هولاكو حكام مغول فارس، وفي نفس الوقت كان بيت هولاكو يطمع في السيطرة على الشام ومصر، بعد أن استولى على العراق. وبحسب الحجي، أدت هذه الظروف إلى تفاقم مشاعر العداء بين مغول فارس وسلطنة المماليك، ما ترتب عليه من ناحية أخرى تقارب سلاطين المماليك وملوك دولة مغول القفجاق، ومن ثم تزايد وتيرة الهجرات المغولية إلى مصر.

نزاعات سياسية ومجاعات

جاء المغول إلى مصر للبحث عن مأوى في دولة المماليك نتيجة للنزاعات التي نشبت بين دول المغول المختلفة، وبين القبائل المغولية بعضها وبعض، أو بين خان المغول وأتباعه، كما أن البعض جاء في أعقاب مجاعات حدثت في أقاليمهم، أو لأنهم سمعوا عن غنى مصر وما يتمتع به المماليك من ثروة ونفوذ، حسبما يذكر الدكتور أحمد عبد الكريم سليمان في كتابه "العنصرية وأثرها في الجيش المملوكي".

على العموم، حدثت هجرة المغول إلى مصر في معظمها أثناء حكم اثنين من السلاطين، هما الظاهر بيبرس الذي وضع الأسس الثابتة لدولة المماليك الأولى، وزين الدين كتبغا. وأطلق المؤرخون على العناصر التي جاءت إلى مصر لاجئة أو منفية اسم "الوافدية"، أو "الوافدين"، أو المستأمنة"، أو "المستأمنين".

وبحسب سليمان، وصلت المجموعة الأولى من المغول سنة 1261م، وكان عدد أفرادها حوالي مئتي رجل، بخلاف النساء والأطفال، وكان هؤلاء جزءاً من حملة أرسلها بركة خان القفجاقي إلى هولاكو قبل أن يقع العداء بينهما بسبب إسلام بركة. وقد أرسل بركة إلى قواته يأمرها بالعودة إلى بلادها، وإنْ تعذّر عليها ذلك تذهب إلى بلاد سلطنة المماليك.

ولما وصل أفراد المجموعة إلى القاهرة استقبلهم الظاهر بيبرس بنفسه، وأمر بإنزالهم في دور بُنيت خصيصاً لهم في منطقة اللوق (وسط القاهرة الآن)، ومنح بعضهم رتبة "أمير مائة" العسكرية، واندمج بعضهم في فرقة البحرية، وأرسل الظاهر إلى بركة خان يعلمه بما حدث.

هذا الاستقبال الطيّب شجّع على قدوم مجموعات أخرى من المغول إلى مصر. يذكر سليمان أنه، خلال حكم الظاهر بيبرس الذي امتد بين سنتي 1260 و1277، دخل إلى دولة المماليك ثلاثة آلاف فارس، مُنح بعضهم رتباً عسكرية، مثل أمير طبلخانة، أو أمير عشرين، أو أمير عشرة، وجعل بعضهم في وظيفة ساقي، وسلحدار (حامل سلاح السلطان) وجمدار (الذي يلبّس السلطان ثيابه)، كما اندمج بعضهم في قوات الأمراء.

ونظراً إلى أن التنظيمات العسكرية التي أدخلها الظاهر بيبرس في الجيش المملوكي تتشابه مع بعض النظم المغولية، كان من السهل على الفرسان المغول الوافدين إلى سلطنة المماليك الاندماج في الجيش المملوكي، غير أن الظاهر كان حريصاً على ألا يتجاوز هؤلاء حدوداً معيّنة، سواء من حيث العدد أو من حيث الوظائف العسكرية التي يصلون إليها، أو من حيث أهمية الأماكن التي يمكن أن يتواجدوا فيها، حسبما ذكر سليمان.

هجرة المغول الأويرات

وشهد عصر السلطان زين الدين كتُبغا (1295 – 1296) أكبر الموجات المغولية الوافدة إلى دولة المماليك، وكانوا من مجموعة (أو قبيلة) "الأويرات" التي ينتمي إليها السلطان كتبغا نفسه، لذا كان من الطبيعي أن يرحب بهم ويعمل على تدعيمهم في الجيش المملوكي.

وبحسب سليمان، جاء هؤلاء بعد تطورات داخلية في دولة مغول فارس، إذ اعتنق خان مغول فارس محمود غازان بن أرغون الإسلام، ولم يجد هذا التحوّل قبولاً من أتباع الديانة البوذية، فنشبت اضطرابات داخلية في مختلف الولايات، وتمرد كثيرون من أمراء المغول عليه، كما هرب بعضهم إلى خارج فارس، وكان من هؤلاء الهاربين مجموعة من الأويراتية كانت تقيم في بغداد وديار بكر، فجاءت إلى الشام ومصر، وكان عدد أفرادها يزيد عن عشرة آلاف بيت بنسائهم وأولادهم.

جاء المغول إلى مصر للبحث عن مأوى في دولة المماليك، نتيجة للنزاعات التي نشبت بين مجموعات المغول المختلفة، كما أن بعضهم أتوا في أعقاب مجاعات حدثت في أقاليمهم، أو لأنهم سمعوا عن غنى مصر

واستقبل السلطان كتُبغا هذه المجموعة بترحاب كبير، ليس بسبب أنه من أصل أويراتي مغولي فحسب، بل بسبب العلاقات السيئة التي كانت قائمة بين مغول فارس وسلطنة المماليك في تلك الفترة.

ولم تكن طائفة الأويرات على دين الإسلام عندما جاءت مصر، فأثارت بسلوكها وعاداتها غضب باقي أمراء المماليك في مصر. وبحسب سليمان، أدت سياسة كتُبغا مع الأويرات وتأييده الشديد لهم إلى طرده من الحكم، وقتل زعيم الأويرات ويدعى "طرغاي"، ورغم ذلك ظلت هذه الطائفة قوة فاعلة في الجيش المملوكي تعمل على استعادة مركزها، من خلال محاولات ومؤمرات باءت بالفشل وانتهت بقيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون بطردهم من خدمته.

ومنذ ذلك التاريخ، أخذ دور الأويراتية يتلاشى، كما هدأت حركة الوافدين إلى مصر من المغول، واقتصرت على أعداد قليلة كل بضع سنوات، بحسب سليمان.

أكل لحوم الخيل وخمر ألبانها

لم يقتصر التواجد المغولي على الصعيدين السياسي والعسكري، إذ ثمة تأثيرات اجتماعية صُبغ بها المجتمع المملوكي من خلال العادات والتقاليد التي حملها المغول الوافدون إلى مصر.

يذكر صلاح الدين محمد نوار في كتابه "الطوائف المغولية في مصر وتأثيراتها السياسية والعسكرية والاجتماعية واللغوية والعمرانية في عصر دولة المماليك البحرية"، أن أول مَن تأثر بهذه العادات هم سلاطين المماليك أنفسهم، وكانوا هم أيضاً تربّوا أو نشأوا في كنف هذه العادات في بلاد القبجاق، مثل أكل لحوم الخيل في الحفلات والمناسبات، وكان الطعام الرئيسي المفضل لدى المغول.

وامتد التأثير المغولي ليشمل صناعة بعض أنواع لبن الخيل المخمّر والمعروف باسم "القميز" أو "القِمز"، والذي أقبل السلاطين وأمراء المماليك على تناوله.

وبحسب نوار، وُجدت بعض العادات المغولية التي نفرت منها طبقات المجتمع المصري في العهد المملوكي ولم يُقبلوا عليها، مثل تلك التي حملها معهم المغول الأويراتية، إذ كانوا يأكلون الخيل المقتولة بالضرب لا بالذبح، بمعى أنهم كانوا لا يذبحون الخيل ذبيحة ولا نحراً، بل يربطون الفرس ويضربونه على وجهه حتى يموت فيأكلونه بما اعتادوا عليه في بلادهم، فأنف الأمراء والناس من الجلوس معهم أو إكرامهم.

لم يقتصر التواجد المغولي في مصر على الأدوار السياسية والعسكرية التي لعبوها، إذ ثمة تأثيرات اجتماعية صُبغ بها المجتمع المملوكي من خلال العادات والتقاليد التي حملها الوافدون

غير أن أهم مظاهر التأثير المغولي على المجتمع المملوكي هو انتشار ظاهرة الزواج من مغوليات، سواء كن أميرات أو جوارٍ، من سلاطين المماليك والأمراء، وحتى من بين عامة الشعب، وذلك رغم عدم اعتناق بعضهن للإسلام، نظراً لما اشتهرت به المغوليات من جمال باهر، حسبما ذكر نوار.

ونتج عن هذا التزاوج في ما بعد ظهور جيل جديد يطلق عليه نوار اسم "المولدين" مجازاً، وهم من أمهات مغوليات مسلمات قبجاقيات، أو أويرات بوذيات، وآباء من الممكن أن يكونوا من عناصر غير تركية أو مغولية قبجاقية. ومن هؤلاء المولدين مَن ارتقى السلطنة مثل الناصر محمد بن قلاوون، وكانت أمه تترية الأصل وإحدى زوجات المنصور قلاوون.

مدارس وجوامع وخانقاوات

يذكر علي السيد علي، في كتابه "بحوث في التاريخ الاجتماعي من العصر المملوكي"، أن لطوائف المغول التي نزحت إلى مصر كثيراً من المنشآت المعمارية، من مدارس وخانقاوات وجوامع.

ومن المدارس التي أنشأتها طوائف المغول تلك التي شيّدها الأمير شمس الدين آق سنقر الفارقاني (ت. 1287م)، أحد كبراء الأمراء أيام السلطان الظاهر بيبرس، وبناها بالقرب من داره داخل باب سعادة بالقاهرة، وكان بها درس للمذهب الحنفي ودرس للمذهب الشافعي، وما زالت المدرسة موجودة حتى الآن.

وكذلك، بنيت المدرسة الحسامية في منطقة باب الوزير، نسبة إلى الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري (ت. 1290م)، نائب السلطنة في ديار مصر، وبناها إلى جوار داره وجعلها برسم الفقهاء الشافعية.

وهناك المدرسة الآقبغاوية بجوار الجامع الأزهر، على يسار مَن يدخل إليه من بابه الكبير البحري، وبناها الأمير علاء الدين أقبغا بن عبد الله (ت. 1343م)، أحد مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وأخو زوجته خوند طغاي، وكان فيها درس للشافعية، وجعل فيها عدداً من الصوفية لهم شيخ، وقرر بها طائفة من القرّاء لقراءة القرآن الكريم، بحسب علي.

وهناك المدرسة الداودارية، وبناها الأمير ركن الدين بيبرس بن عبد الله المنصوري (ت. 1324م) خارج باب زويلة في القاهرة، وأوقف عليها عدة أوقاف، وكان بها درس للحنفية.

أما المدرسة القراسنقرية، فتقع تجاه خانقاة سعيد السعداء، بين رحبة باب العيد وباب النصر، وأنشأها الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري (ت. 1327م)، وبنى بجوارها مسجداً ومكتباً لإقراء أيتام المسلمين، وجعل بهذه المدرسة درساً للفقهاء الحنفية، بحسب علي، وما زالت المدرسة موجودة حتى الآن في حي الجمالية.

وتضم القائمة أيضاً المدرسة الفارسية في أول حارة العطوفية في القاهرة، وأقيمت في أرض كانت عليها كنيسة قديمة تعرف بكنيسة الفهادين، هدمها الأمير فارس الدين لبكي سنة 1355م، وبنى مكانها المدرسة التي نُسبت إليه، ووقف عليها وقفاً بما تحتاج إليه من جميع الوجوه.

كما أنشأ الأمراء من أصل مغولي بيوت صوفية، منها خانقاه أرسلان التي تُنسب إلى الأمير بهاء الدين أرسلان الناصري الدوادار (ت. 1317م)، أحد مماليك الأمير سلار نائب السلطنة (ت. 1310م) وبناها في القاهرة ورتب لها شيخاً وصوفية، وجعل لها أوقافاً جارية، وكان ينزل إليها من القلعة في كل ليلة ثلاثاء فيبيت فيها، روى علي.

ومن هذه البيوت أيضاً خانقاه قوصون في شمال القرافة بعد قلعة الجبل وتجاه جامع قوصون، وما زال الأثران موجودان حتى الآن في شارع الصليبة في القاهرة، وأنشأهما الأمير سيف الدين قوصون (ت. 1339م)، والذي حضر من بلاد المغول القفجاق صحبة خوند ابنة أزبك، والتي تزوجها السلطان الناصر محمد بن قلاوون سنة 1320م.

وهناك أيضاً خانقاه طغاي النجمي في الصحراء بين قلعة الجبل وقبة النصر، وأنشأها الأمير طغاي تمر النجمي (ت. 1347م) دوادار الملك (حامل دواة السلطان ومُبلغ رسائله) الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون.

وشيد الوافدون المغول جوامع عديدة، منها الجامع الذي عمّره الأمير سيف الدين كراي المنصوري سنة 1301م، وهذا الجامع يُعرف الآن باسم جامع الكومي في شارع الوايلية الصغرى في قسم الوايلي في القاهرة، نسبة إلى الشيخ علي أبي منصور الكومي الذي عمل فيه لفترة كبيرة من الزمن، بحسب علي.

وهناك أيضاً جامع الأمير ألماس الحاجب الناصري (ت. 1333م) خارج باب زويلة، وبناه سيف الدين ألماس الحاجب سنة 1329م، وكان أحد مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فرّقاه إلى أن صار من كبار الأمراء، والجامع لا يزال قائماً في شارع الحلمية من جهة شارع محمد علي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image