تندرج المادة في ملف "كان صرحاً من خيال... لعبة التاريخ البديل"
في عصر المماليك، أيّام وزارة الأمير منجك، انتشرت موضة غريبة عبرت حدود الشام إلى مصر واستهوت النساء من مختلف الأقطار والطبقات الاجتماعية، إذ أحدثن "قمصاناً طوالاً تخبّ أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطّى قدمها"، حتى قيل إن الرجل في زمن الأكمام الطويلة تلك، ربما جامع زوجته من كمّها دون حاجة لرفع بقيّة الثوب.
أرّق هذا الأمر منجك، فجمع من حوله القضاة في حضرة السلطان، وحدثهم عن تلك القمصان الشيطانية، وأن النساء تركن لبس الإزار البغدادي، وأحدثن الإزار الحرير الذي يبلغ ثمن الواحد منها ألف درهم، فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التي يجب منعها ولو بالقوة.
الاحتفال التأديبي وقطع أكمام النساء
إصدار الفتاوى كان تجارة مربحة، وغالباً ما لجأ حكّام وأمراء المماليك للمفتين لإيجاد مخرج شرعي وتسويغ بعض تصرفاتهم التي ينتقدها ويعترض عليها علماء المذاهب. لكن هذه الفتوى لم تكن كافية لردع النساء وإشعارهن بالإثم، فضربن بها عرض الحائط، وكان لا بد من استهداف الجسد علناً في "عرض عقابي" يردع المبتدعات.
يقول المقريزي: "وكّل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر بمنع النساء من لبس ما تقدّم ذكره، وأنه متى وُجدت امرأة عليها شيء مما منع أُخرِق بها وأخِذ ما عليها.
واشتدّ الأمر على النساء، وقبض على عدة منهن، وأخذت أقمصتهن. ونُصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعُلِّق عليها تماثيل معمولة على صور النساء، وعليهن القمصان الطوال، إرهاباً لهن وتخويفاً".
في عصر المماليك، أيّام وزارة الأمير منجك، انتشرت موضة غريبة استهوت النساء، إذ أحدثن "قمصاناً طوالاً تخبّ أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع"، حتى قيل إن الرجل في زمن الأكمام الطويلة تلك، ربما جامع زوجته من كمّها دون حاجة لرفع بقيّة الثوب
جسد المحكوم هو قطعة أساسية في احتفال العقوبة العامة، وعلى المتهم أن يُظهر للعلن إدانته وحقيقة الجريمة التي ارتكب فيُظهر جسده ويتجول، يُعرَض ويُعذّب، لأن فعل العدالة يجب أن يكون مرئياً ومقروءاً للجميع في هذا الجسم.
وقد كان العرض التشهيري المقترن بالتنفيذ العلني للعقوبات وجهاً لانتصار القانون وللسلطة.
والدليل أن كل المؤرخين الذين نقلوا أخبار إقصاء النساء المبتدعات بعرض تماثيلهن على الأنظار، مثل المقريزي وابن تغري بردي وابن حجر العسقلاني، قدّموا الوقائع على أنها تحاول أن تُصلح وتُقوّم وأن "تشفي"، وتبنّوا عموماً وجهة نظر القضاة الذين تصدّوا لهذه البدعة، أي وجهة نظر السّلطة المسؤولة عن التقويم الأخلاقي التي طالت الأهواء والغرائز ووضعت الحدود بين ما تتقبله هي وتعتبره عادياً وبين ما ترفضه باعتباره شاذاً ومنحرفاً، كي تصنّف وتعالج وتصف أشكال الحراسة والعقاب.
فراء ورخام
ولكن لماذا استحدثت النساء هذه الأكمام الواسعة وتشبثن بها؟ ولماذا أثارت رفضاً قاطعاً من أولياء الأمور بلغ حد مطاردة "المُخالِفات"، وهي غير كاشفة أو منافية لقواعد الحجاب، واسعة وطويلة يصل ذيلها إلى الأرض وتؤدي وظيفة "إسبال الكساء على النساء"؟ نجد أجوبة عابرة على هذا السؤال، قدمها المؤرخون القدامى، تُرجع المنع إلى أسباب اقتصادية.
فقد كانت هذه القمصان مكلفة، يبلغ مصروف الواحد منها "ألف درهم" أو أكثر (والدرهم من الفضة الخالصة يزن ما يقرب من ثلاثة غرامات) لكننا نرجح أن هذا مجرد تبرير، فقد حفلت حياة المماليك بمظاهر الثراء والبذخ دون أن تتدخل السلطة لضبط الملابس؛ فمثلاً كثُر لبس الطواس للصبيان والنساء والجواري، وكانت ترصع بالجواهر وكثر استعمال العنبر حتى جعلته النساء قلائد، وكذلك الفراء الذي كانت له سوق رائجة.
وقيل إن جهاز الأمير آنوك بن السلطان الناصر محمد بن قلاوون بلغ حمولة ثمانمائة جمل وستة وثلاثين قطاراً من البغال، وبلغ الذهب المُصاغ والملابس المزركشة ثمانين قطاراً، ومع ذلك فقد استصغر أبوه هذا الجهاز.
لماذا استحدثت النساء الأكمام الواسعة وتشبثن بها؟ ولماذا أثارت رفضاً قاطعاً من أولياء الأمور بلغ حد مطاردة "المُخالِفات"، وهي غير كاشفة أو منافية لقواعد الحجاب، واسعة وطويلة يصل ذيلها إلى الأرض وتؤدي وظيفة "إسبال الكساء على النساء"؟
ذُكر أيضاً أن السلطان المظفر حاجي بن الناصر أهدى إلى إحدى محظياته هدايا خيالية، منها عقد لؤلؤ قيمته أربعمئة ألف دينار، وعمل لها قلنسوة رصّعها باللؤلؤ والأحجار الكريمة بقيمة مئة ألف دينار، وأعجب الأشرف برسباي بامرأة من الرق، فتزوجها وصنع لها ثوباً واحداً كلفه ثلاثين ألف دينار. كتب التاريخ تقدّم أرقاماً خياليّة عن تكلفة أنواع أخرى من الملبوسات والحليّ والأحذية، فلماذا قُمعت الأكمام الواسعة دون غيرها وبطريقة مُمنهجة؟
ولع بالموضة أم حركة نسوية؟
لم يقتصر بذخ السلاطين المماليك على بناء القصور وتزيينها وفرش منازلهم بأنفس البسط وتزيين أبوابها وسقوفها بالعاج والزجاج القبرصي الملوّن، وجلب أنواع الرخام والحيوانات الغريبة الداجنة وتطعيم أواني الشرب والطسوت بفصوص الذهب والفضة، بل أنفقوا على حفلات الزواج والملابس والمجوهرات النفيسة المصنوعة في فرنسا والبندقية وكشمير وتحف الصين والهند.
لذلك يدلّ عنف خطاب الردع على أنّ العلة لا تكمن في الإسراف والتبذير، بل في إفراط من نوع آخر، هو "الفسق والفجور" حسب عبارة العسقلاني. إذ لا يتعلق الأمر هنا بمجرد ولوع بالموضة، فالكمّ الواسع منفذ للجسد، ثغرة في حصن الحجاب، يخفي جسد المرأة ويجعله متاحاً في نفس الوقت. إنها اللعبة الإيروسية الخطرة القائمة على الكشف والحجب والتي تقول إن خلف طبقات الأردية هذه جسد ورغبات متوقّدة تستطيع المرأة أن تعبّر عنها بحركة واحدة.
جسدي ملكي
تعالوا نتخيل الحكاية مع تغييرات طفيفة: في أحد العوالم الموازية، وبعد أن استفتى الأمير منجك قضاة بيت العدل في أمر الأكمام المجنونة، بعث أعوانه إلى مناشر الغسيل ومحلات البابية وهي محلات كيّ وصقل الملابس (دراي كلين العصر الثامن الهجري) وأخذوا ما عندهم من قمصان.
نودي في مصر بمنع هذا اللباس وأنّ من باع إزاراً حريراً أُخذ جميع ماله للسلطان، فانقطع تدريجياً خروج النساء إلى الأسواق، وكفّ التجار عن بيع الأزر وشرائها، حتى أنه نودي على إزار حرير بثمانين درهماً فلم يلتفت له أحد. أما مماليك الأمير فقد انتشروا في الشوارع، فقطعوا أكمام النساء ومزقوا الأثواب، ليتحول الأمر إلى نوع من مسرحة الاغتصاب والتعرية، ولعلها سخرية الأقدار ما أدت إلى التقاء الأجساد، من حيث أرادت سلطة الضّبط فصلها وعزلها.
ومع ارتفاع الدعاوي بالتزام الخلق القويم، أدركت النساء أن منجك يقاوم هذه الثياب لأنها تثيره هو نفسه، ويقمعها لأنه يدرك سلطتها الجنسية على الذكور، وأن تقييد الحركة هذا يتضمن تمييزاً واحتقاراً لهن. فالمرأة تُستهدف بالعنف باعتبارها أنثى لا باعتبارها إنساناً، يتم تعنيفها على أساس أنها كائن من نوع خاص، مؤذ أو مصدر فتنة.
من يمتلك جسد المرأة؟ هي نفسها، أم الله خالقها كما في التصوّر الديني؟أم أنّ هذا الجسد ملك لطرف آخر هو المجموعة أو الدولة، أم أنّه ليس ملكاً لأحد؟
بين هذا المخزون من الهول والرعب والتطبيق اليومي للعقوبة كان الهامش كبيراً، بدأت النساء يتجمعن في حلقات ليلية سرية بحثاً عن مفتاح، عن أثر، عن علامة تبدّد الظلام، وطُرحت أسئلة مهمة للمرة الأولى: من يمتلك جسد المرأة؟ هي نفسها، أم الله خالقها كما في التصوّر الديني؟أم أنّ هذا الجسد ملك لطرف آخر هو المجموعة أو الدولة، أم أنّه ليس ملكاً لأحد؟
تشكّلت الأجوبة لتعيد وعي المرأة المفقود بجسدها، فرأت أنّها هي التي تملك جسدها ويحقّ لها حجبه أو تعريته، وأرادت أن تؤسس من جديد دورة الجنس واللهو ولا تكون مساراتها نهباً للآخرين، وأن تطوي صفحة تواطؤها الماضي مع العبودية ومع الأحكام التي تجعلها ملكاً للرجل، أو هبة له، وتجعله بمثابة إلهها البشري الذي يحاكم ويعاقب ويفرض الوصاية.
الصرخة
تقول هذه النسخة من الحكاية إن امرأة غامضة واجهت الشعور بالضآلة والخزي والغضب، وقررت التخلي عن الملابس التي جعلتها عرضة للإيذاء، فخرجت عارية إلى المدينة، وسرعان ما تبعتها أخريات رافعات شعار "جسدي ملكي"
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 20 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت