"أنا فلاحة من معتمدية (حكم محلي) ملولش في محافظة المهدية. أجريت تدريباً في تربية الأبقار وتقدمت بملفي إلى بنك للحصول على قرض، وتم قبوله شريطة أن يضمنني زوجي وهو ما تم. اشتريت خمس بقرات بتكلفة قاربت 38 ألف ديناراً وكل واحدة حبلى في شهرها الرابع"، تقول إحدى الفلاحات في شهادتها لتنسيقية صغار الفلاحين بمنطقة أولاد جاب الله في المهدية.
تضيف المتحدثة التي فضلت إخفاء هويتها أنها تكفلت من مالها الخاص بتوفير الأعلاف لأبقارها حتى وضعت صغارها، وأنها منذ حصولها عليها بدأت في سداد دين البنك بدفع مبلغ 500 دينار شهريا، وأنها دفعت إلى حد الآن، ما يناهز 25 ألف دينار حتى بدأت الحالة تتغير وتتدهور إلى الأسوأ مع ارتفاع أسعار الأعلاف مقابل انخفاض سعر الحليب".
أجبر الفلاحون التونسيون الشركات المهيمنة على قطاع الأعلاف على خفض الأسعار بعد أن قررت الرفع منها. "ثورة" على احتكار المادة الحيوية في حياة المزارع التونسي
ما زاد الطين بلّة هو إصابة أبقارها بمرض اللسان الأزرق، فكانت الأولوية معالجتها حتى أصبحت غير قادرة على خلاص بقية دينها للبنك الذي بدأ يهدّدها بالسجن وبحجز سيارة زوجها، ما تسبب لها في مشاكل مع زوجها تهدد استقرار أسرتها، تؤكد.
طلبت المتحدثة مساعدتها قائلة "لقد تعبت ولا أريد بيع أبقاري لأني تعبت عليها وصبرت وهي رزقي ورزق أطفالي الستة الوحيد".
غضب واحتجاجات
في بداية شهر أيار/مايو، تسبب قرار رفع سعر الأعلاف المركّبة إلى قرابة 300 دينار للطن الواحد في احتجاج صغار المزارعين في عدة محافظات في البلاد على غرار المهدية وقابس وصفاقس وسوسة والمنستير وباجة وجندوبة والكاف.
إذ ارتفع بموجب هذه الزيادة سعر كيس العلف الواحد المركّب من وزن 50 كيلوغراما من 48 ديناراً إلى 79 ديناراً و500 مليم، بينما بقي سعر بيع لتر الحليب الواحد عند الإنتاج على حاله عند 1140 مليما.
رفض صغار الفلاحين هذه الزيادة معتبرين أنها "جنونية وقاتلة" وستقضي على مورد رزق قرابة 100 ألف فلاح يعملون في قطاع التربية الحيوانية (أبقار، أغنام، دواجن) يمثلون 80 في المئة من حلقة الإنتاج الغذائي في تونس.
من بين من قالوا "لا" في وجه هذه الزيادة، صغار فلاّحي قرية أولاد جاب الله في محافظة المهدية، الذين نفذوا جملة من التحركات على غرار إغلاق بعض متاجر بيع الدواجن التابعة لشركات إنتاج العلف المركب، كما قطعوا الطريق الرابطة بين المهدية وصفاقس ونفذوا اعتصاماً أمام مقر محافظة المهدية.
وكان صغار فلاحي أولاد جاب الله نفذوا في مارس/آذار 2022 وقفات احتجاجية قبْل إقرار الزيادة طالبوا خلالها بتوفير العلف بالكميات الكافية، وقبلها نفذوا احتجاجات في شباط/فبراير 2021 أسفرت عن مواجهات بين سكان القرية والوحدات الأمنية التي استعملت خلالها الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي.
ثورة صغار الفلاحين
ثار فلاحو أولاد جاب الله على غلاء أسعار الأعلاف وعلى استيراد اللحوم مقابل معاناة منتجاتهم من الركود والكساد.
ومع تصاعد حدّة احتجاجات صغار الفلاحين في البلاد، سارعت وزارة التجارة وتنمية الصادرات يوم 16 أيار/مايو 2022 إلى الإعلان رسمياً عن قرار "تجميد الزيادات المسجلة في أسعار الأعلاف خلال شهر أيار/مايو 2022 وتحديد أسعار بيع العلف المركب في حدود المستويات المطبقة لكل مؤسسة قبل الزيادات الأخيرة التي تمت معاينتها بدايةً من يوم 5 أيار/مايو 2022".
وتتحكم ثلاث شركات تونسية خاصّة في استيراد وبيع الأعلاف المركبة، إذ تستورد عنصرين اثنين لهذه الأعلاف وهما "الصوجا وحبوب الذرة" فيما تنتج 3 أنواع أخرى محلية وهي الشعير العادي والسداري (فضلات العجين كالكسكسي والسميد) وفيتامينات ومكملات غذائية (cmv)، يوضح المتحدث الرسمي باسم تنسيقية صغار الفلاحين بأولاد جاب الله بلال المشري لرصيف22.
الزيادة التي أقرتها الشركات المتحكمة في قطاع الأعلاف كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس خاصة وأن مئات الآلاف من صغار الفلاحين يعيشون ويقتاتون من تربية الماشية
يقول إن هامش ربح هذه الشركات كان قبل سنة 2010 في حدود 5 في المئة بينما يتراوح اليوم بين 80 و100 في المئة، وإن أصحابها يبررون "الزيادة الجنونية" بارتفاع أسعار السوق العالمية لمدخلات الأعلاف المركبة المستوردة، مؤكداً أنها "مجرد ادعاءات لا غير".
يضيف أن مادة السداري موجودة في السوق التونسية وتشتريها هذه الشركات الخاصة مدعمة من الديوان الوطني للحبوب وسعرها ثابت لا يتغير، "فتبريراتهم مجرد مغالطات فقط".
واعتبر المشري أن الزيادة التي أقرتها هذه الشركات "المتحكمة في القطاع" بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس خاصة وأن مئات الآلاف من صغار الفلاحين يعيشون ويقتاتون من تربية الماشية من دواجن وأبقار وأغنام وهي مصدر رزقهم الوحيد فخسروا مصدر قوتهم ورؤوس أموالهم وفقدوا إمكانياتهم لإعالة أسرهم فانتفضوا ضد هذا القرار الجائر".
وشدد على أن "احتكار ثلاث شركات خاصة كبرى للأعلاف جعل كلفة إنتاج الحليب واللحوم والبيض تكون مرتفعة كثيراً مقارنة بمداخيل الإنتاج ما نتج عنه خسارة كبرى لصغار الفلاحين، وتراكمت ديوننا ولا نستطيع سدادها"، يقول.
شركات تحتكر القطاع
أشار بلال المشري إلى أن صغار فلاحي أولاد جاب الله كانوا انتفضوا منذ شباط/فبراير 2021 ضد شركة خاصة رابعة جرّاء احتكارها بيع زيت الصوجا لبقية الشركات الثلاث الأخرى بعد استيرادها وتكريرها وتحرم صغار الفلاحين منه.
تدخلت حينها وزارة التجارة واستجابت لمطالبهم وألغت في بلاغ رسمي يوم 19 شباط/فبراير 2021 احتكار هذه الشركة ومضاربتها بأسعار الصوجا وأصبحت تبيع للمصانع وصغار الفلاحين، يضيف.
ويؤكد المتحدث أن "مطالب اليوم هي مطالب السنة الماضية، ولكن تم الالتفاف عليها وعلى رأسها إدراج الأعلاف المركّبة ضمن المواد الأساسية التي تحدد أسعارها مع هامش ربح الشركات في 5 في المئة لأن الحليب محدّد السعر، فإما نقوم بتسعير الأعلاف أو نحرر الاثنين معا وفي هذه الحال سيصل سعر لتر الحليب إلى 3 دنانير و500 مليم ما سيثقل كاهل المواطن البسيط الضحية في هذه المسألة".
كما طالب بإرساء قانون للرفع من سعر الإنتاج (حليب، بيض...) كلما ارتفعت كلفة الإنتاج (أعلاف مركبة، أعلاف خشنة).
وشدد بلال المشري على أن قضية صغار الفلاحين لم تنته وأنهم "قدموا مهلة للسلطة بعد تعهّد رئيس الجمهورية قيس سعيد بفتح تحقيق في مسألة شركات الأعلاف والمضاربة في الأسعار إلى حين استكمال التحقيق"، وأن مطلبهم الرئيس يتمثل في نشر مطالبهم في شكل قوانين رسميّة لإنهاء احتكار الشركات الكبرى الخاصة للقطاع والإضرار بصغار الفلاحين.
بدوره، يؤكد عضو قسم العدالة البيئية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية محمد قعلول أن مشكلة فلاحي قرية أولاد جاب الله انطلقت منذ العام الماضي إذ تعرضوا إلى احتكار كبير للأعلاف من قبل هذه الشركات الثلاث الكبرى وأن الأمر تكرر هذه السنة بالرفع الكبير من سعر هذه الأعلاف.
ليس هناك قرار رسمي واضح بخصوص أسعار الأعلاف المركبة الجديدة، وزارة التجارة تعهّدت فقط على إثر احتجاجات صغار الفلاحين بمراجعة موضوع الرفع منها
وتأسس المنتدى المذكور سنة 2011، وهو منظمة غير حكومية مستقلة تعنى بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على المستوى القومي والدولي.
أوضح قعلول لرصيف22 أن هذه الشركات "هي المتحكمة في القطاع فهي التي تستورد الأعلاف المركبة وهي التي تبيعها وترفع أسعارها بالاتفاق فيما بينها".
وأضاف أنه ليس هناك قرار رسمي واضح بخصوص أسعار الأعلاف المركبة الجديدة وأن وزارة التجارة تعهّدت فقط على إثر احتجاجات صغار الفلاحين "بمراجعة موضوع الرفع منها".
كما تحدث عن خسارة كبرى لصغار الفلاحين بسبب "هيمنة هذه الشركات على السوق في ظل عدم امتلاك الدولة بديلا للأعلاف المركبة التي يتم استيرادها".
"بالنسبة إلينا مشكل صغار الفلاحين هو نتيجة للتنمية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة، وتهميشهم من قبل الدولة من خلال غياب الدعم الموجه لهم والموجه فقط لكبار الفلاحين وللشركات الكبرى. لقد تخلت الدولة عن دورها كلّيا خاصة في دعم قطاع تربية الماشية، وهو قطاع أساسي وحيوي في الإنتاج الفلاحي الوطني"، يؤكد محمد قعلول.
ينتقد عضو المنتدى عدم تفاعل الدولة مع مقترحات بعض الخبراء والباحثين لإيجاد بدائل محلية للأعلاف المركبة المستوردة لوضع حد لاحتكار الشركات الخاصة الكبرى للقطاع.
في المقابل، طالبت الغرفة الوطنية لمصنعي الأعلاف وموردي المواد الأولية في بيان لها يوم 18 أيار/مايو 2022 وزارة التجارة "بإعادة النظر فيما يخص أسعار الأعلاف المركبة بكل أنواعها والاستجابة لطلبهم عقد جلسة عمل بصفة مستعجلة نظرا للوضع الخطير الذي يمر به القطاع بأكمله ويبقى جميع الأطراف مجتمعين للمتابعة واتخاذ القرارات اللازمة التي تخص القطاع".
وأفاد البيان بأن ما تعيشه تونس "من أزمات متتالية من تبعات آفة كوفيد 19 والحرب الروسية الأوكرانية قد أفضى إلى تدهور أوضاع قطاع الأعلاف في تونس بعد الارتفاع الحاد في أسعار المواد الأولية في الأسواق العالمية، إذ أن تكلفة الأعلاف المركبة شهدت ارتفاعاً كبيراً"، وفق نص البيان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون