شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ثورة الزُط... قصة انتفاضة ضد العباسيين في العراق ساهم في إخمادها مصريون

ثورة الزُط... قصة انتفاضة ضد العباسيين في العراق ساهم في إخمادها مصريون

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

السبت 3 سبتمبر 202211:20 ص

في فترة الفتنة بين الخليفتين العباسيين محمد الأمين وعبد الله المأمون (195– 198هـ)، ثار "الزُط" ضد الدولة، وحاولوا الاستقلال بمنطقة كانوا يقيمون فيها في العراق، بعدما تأججت نيران الثورة في صدورهم نتيجة تعرضهم لتهميش سياسي واجتماعي وحرمان من حقوقهم.

قطع الثائرون الطرق وأحدثوا قلاقل واضطربات إلى أن استطاع الخليفة المعتصم بالله القضاء على حركتهم، وقام بذلك بمساعدة المصريين.

من هم الزطّ؟

رغم الاتفاق بين المصادر حول أن منطقة السند من بلاد الهند هي الموطن الأصلي للزُط، إلا أن اختلافاً يصل حدّ الغموض يحيط بطريقة وتاريخ مجيء هذه الجماعة التي يسميها البعض "الغجر" وآخرون "النور" إلى المنطقة العربية.

ينقل عبد العزيز الدوري في كتابه "العصر العباسي الأول/ دراسة في التاريخ السياسي والإداري والمالي"، عن أبي الحسن البلاذري في كتابه "فتوح البلدان"، أن موطن الزُطّ الأصلي هو منطقة السند من بلاد الهند، وأنهم كانوا يربّون الجواميس، فأتى بهم الحجاج بن يوسف الثقفي وأسكنهم في جنوب العراق بأسافل منطقة كسكر في منطقة البطيحة ليحفظوا الأمن فيها، خاصة أن الأسود تخاف من الجواميس.

كما ينقل عن أبي الحسن المسعودي، في كتابه "التنبيه والأشراف"، أن غلاء وقع في ناحية الهند التي يقطنها الزُط، فهربوا من المجاعة وتنقلوا في البلاد حتى وصلوا إلى البطيحة.

ويرجح الدوري أن الزُط كانوا يربّون الجواميس في أهوار السند، ثم هاجروا غرباً بسبب مجاعة وقعت في بلادهم، فسمح لهم الحجاج باستيطان منطقة الأهوار جنوب العراق ليستفيد منهم في زراعة تلك المنطقة.

ويذكر سيد عبد العزيز سالم في كتابه "العصر العباسي الأول"، أن الزُط هم في الأصل من أهل السند والبنجاب، وأنهم وقعوا في سبي الفرس، وأسلموا زمن الفتوحات، فأنزلهم أبو موسى الأشعري في البصرة، وفي فترة لاحقة أتى الحجاج بجماعة من زُط السند ومعهم أهلوهم وأولادهم وجواميسهم، فأسكنهم بأسافل كسكر، فنزلوا في البطيحة وتكاثروا وزاد عددهم وأصبحوا الأكثرية بها، ثم انضم إليهم قوم من المستعبَدين الهاربين والموالي فشجعوهم على قطع الطريق ومبادرة السلطان بالمعصية، وكان همهم في البداية اختلاس الشيء الطفيف من السفن.

ردة ثم مشاركة في الفتوحات

في دراسته "حركة الزُط في العصر العباسي"، يذكر عصام منصور صالح أن الزُط كانوا من أدنى طبقات المجتمع الهندي منذ فجر تاريخهم، فعانوا من سوء معاملة الحكومات هناك، وكُتب عليهم امتهان الحرف الحقيرة، وحُرّم عليهم ركوب الدواب وارتداء الملابس الثمينة، كما يشير إلى أنهم عُرفوا بالشجاعة والخبرة بالزراعة والتجارة، لذا هاجروا صوب الغرب حيث بلاد فارس في عهد الساسانيين، ثم سكنوا منطقة البطائح بين البصرة وواسط.

وينقل صالح عن محمد بن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، أن الزُط ارتدّوا عن الإسلام في حوادث سنة 11هـ في أرض "الخُط" في البحرين، عندما انضموا إلى ردة الحطم بن ضبيعة، ولعل سر وجودهم في هذه المنطقة هو العمل بالتجارة، حيث اشتهرت "الخُط" بسوق تباع فيه رماح تُجلب من الهند وتباع للعرب.

ومع اتساع الفتوحات الإسلامية، ازدادت أعداد الزُط. ففي خلافة عمر بن الخطاب وولاية أبي موسى الأشعري على البصرة، أسلم بعضهم ممن كانوا في جند الفرس وأتوا أبا موسى فأنزلهم بالبصرة، ويقال أن علياً بن أبي طالب استعملهم في ما بعد في حراسة أموال البصرة قبيل معركة يوم الجمل سنة 36هـ، ثم استخدمهم معاوية بن أبي سفيان في حراسة ثغور الشام.

وفي خلافة السلطان الأموي الوليد بن عبد الملك (86 - 96هـ) وولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، أُرسل محمد بن القاسم الثقفي لفتح السند، فأسر عدداً كبيراً جداً من الزُط، وقيل إنهم انضموا إليه، فنقلهم مع أهلهم ومع دوابهم وبعث بهم إلى الحجاج، فأسكنهم في منطقة البطائح بهدف زراعتها عن طريق استقرارهم فيها.

كانوا فقراء ومهمشين وكانوا من أدنى طبقات المجتمع حتى أصبح اسمهم مما يُشتم به، فيقال "يا زطي"، و"فلان زطي"، كناية عن الضعف والاحتقار وضعف الشأن، فزاد سخطهم وتأججت الثورة في صدورهم

وينقل صالح عن البلاذري في كتابه المذكور آنفاً، أن الزُط شاركوا في فتوح السند والهند في صفوف المسلمين كمرتزقة ومرشدين، لمعرفتهم بمسالك وأحوال البلاد هناك.

ورغم مشاركة الزُط في النهوض باقتصاد الدولة الأموية، وحماية ثغورها، وفي طلائع جيوشها الفاتحة، إلا أن الشقاء والعناء كُتب عليهم في البيوت والمزارع، فكانوا يعيشون في أكواخ مصنوعة من القصب مثبتة بدعائم في قيعان القنوات المائية، وكان غذاؤهم من الأسماك والطيور المائية، كما عوملوا معاملة المستعبَدين، وصُنّفوا في أسفل درجات السلّم الاجتماعي، لأن الأمويين كطبقة حاكمة تعصبوا لبني جنسهم من العرب ضد الموالي، ونظروا إليهم نظرة السيد إلى المسود رغم إسلامهم، بحسب صالح.

عوامل مساعدة

مع مرور الزمن، ازداد عدد الزُط في البطائح وتكاثر عددهم وتناسلوا حتى كادت البطائح تختص بهم وحدهم دون غيرهم، وفي نفس الوقت زاد فقرهم وتهميشهم، وكانوا من أدنى طبقات المجتمع حتى أصبح اسمهم مما يُشتم به، فيقال "يا زطي"، و"فلان زطي"، كناية عن الضعف والاحتقار وضعف الشأن.

كل ذلك أدى إلى زيادة سخطهم، فتأججت الثورة في صدورهم، وأدركوا أنه لا توجد رابطة تربطهم بالدولة الإسلامية، لذا سرعان ما استغلوا حالة الفوضى وضياع هيبة الخلافة أيام الفتنة بين الأمين والمأمون في العصر العباسي وقاموا بثورتهم ليستقلوا بمنطقة البطائح.

وبحسب صالح، ساهمت العوامل السياسية في تلك الفترة في قيام ثورة الزُط، فالصراع بين الأمين والمأمون نتج عنه استنزاف أموال الدولة وميزانيتها، كما أن بعض عمال الولايات اتّبعوا سياسة متعسّفة، ما دفع الأهالي للثورة والتمرد على عمال الولايات.

على كلٍ، بدأت الحركة بمهاجمة سفن البضائع القادمة من البصرة مجتازة البطيحة إلى بغداد، ومصادرة ما تحمله من مؤن وبضائع، وفي بعض الأحيان فرض إتاوات عليها، ثم تطور الأمر إلى حصار بغداد نفسها، وقطع ما يصل إليها عن طريق الملاحة النهرية، مما شكل خطراً جسيماً على موارد الدولة الاقتصادية.

تغيير الأوضاع الاقتصادية

بعد أن دانت الأمور للمأمون، شرع في تجريد حملات عسكرية على الزُط بداية من عام 205هـ، ومنها حملة قادها عيسى بن زيد الجلودي سنة 205هـ، وحملة داوود بن ماسجور سنة 206هـ، فضلاً عن حملات ولاته على البحرين وكور ودجلة واليمامة، لكنه لم يتمكن من القضاء على الثورة، ذلك أن الزط كانوا كلما هاجمهم الجنود العباسيون تفرقوا في الأدغال والمستنقعات، حسبما ذكر محمد عبد الحفيظ درويش في دراسته "الجيش في العصر العباسي الأول: 132 - 232هـ".

وعندما تولى الخليفة المعتصم بالله الحكم سنة 218هـ، ورث من أخيه المأمون تركة ثقيلة، إذا كانت الأوضاع السياسية تهدد كيان الدولة العباسية، لهذا اضطر إلى عقد هدنة مؤقتة مع البيزنطيين الذين كانوا يهددون حدود الدولة ليتفرغ لإخماد الفتن الداخلية ومنها ثورة الزُط.

حاول الزُط تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة في جنوب العراق، والحد من سلطة الدهاقين (كبار التجار)، والرفع من مستوى الفلاحين...

في تلك الأثناء، حاول الزُط تغيير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة في جنوب العراق، والحد من سلطة الدهاقين (كبار التجار)، والرفع من مستوى الفلاحين، فزادوا من نشاطهم وقطعوا جميع الطرق البرية والبحرية الواصلة إلى واسط وبغداد.

وعندما ازداد نفوذهم، نظموا أنفسهم وجعلوا فرقهم تحت قيادة سياسية واحدة تولاها محمد بن عثمان الزطي البصري، وتولى القيادة الحربية القائد العسكري سملق الزطي الهندي، الذي تمكن من هزيمة الجيش العباسي بقيادة أحمد بن سعيد بن أسلم بن قتيبة الجاهلي، روى درويش.

في معاركهم مع الجيش العباسي، استخدم الزُط أسلوب الهجمات البرية والبحرية على طريقة الكر والفر، فكانوا يهاجمون ثم يتفرقون بقواربهم السريعة في المستنقعات، كما استخدموا الحرب من خلال الكمائن في الأحراش والمستنقعات وغابات النخيل والجداول والقنوات والسدود.

الأسرى المصريون

ويلفت درويش إلى أن المعتصم تنبّه لهذا التكتيك الذي يستخدمه الزُط، فاستشار قائده عجيف بن عنبسة في خطة عسكرية وضعها المعتصم بنفسه أخذ فيها البيئة الجغرافية بعين الاعتبار، وكانت تعتمد على استخدام العنصر البشري القادر على المحاربة في مثل الظروف التي يحارب فيها الزُط، ففكر في استخدام الأسرى المصريين الذين أُسروا خلال الاضطرابات التي وقعت في مصر من سكان الوجه البحري ودلتا النيل في عهد المأمون، وهي مناطق شبيهة إلى حد كبير ببطائح البصرة وكسكر من حيث وجود المستنقعات والأدغال والمياه والجداول.

وبالفعل جُهّز الجيش العباسي ودُرّب على مثل هذه الظروف البيئية، واستُخدم الأسرى المصريون في الجيش الذي أسند المعتصم قيادته إلى ابن عنبسة، وتألف من نحو عشرة آلاف مقاتل، فسار إلى واسط واتخذها مقراً لقيادته، وسد على الزط أفواه الأنهار التي كانوا يدخلون ويخرجون منها حتى يمنع تحركاتهم.

وظل ابن عنبسة يحارب الزط حوالي تسعة أشهر إلى أن تمكن من أسر العديد منهم، فقتلهم وأرسل رؤوسهم إلى المعتصم، ثم شدد الحصار عليهم إلى أن طلبوا الأمان لنفاد المؤن لديهم، في ذي الحجة سنة 219هـ، فاستسلموا، ووصل عددهم إلى سبعة وعشرين ألفاً بين رجل وصبي، والمقاتلون منهم 12 ألفا. وبحسب درويش، كان للأسرى المصريين دور كبير في الإمساك بالزُط في المستنقعات ومهاجمتهم في مكامنهم بالحراب.

ويروي درويش أن المعتصم صرف مكافأة للجنود المشاركين في حرب الزُط، فدفع لكل واحد دينارين، أما الأسرى المصريين فأخلى سبيلهم وخُيروا بين البقاء أو السفر إلى بلادهم، وأغدق عليهم العطاء، وجهّز لهم السفن لنقلهم إلى مصر.

وبعد أن انتصر ابن عنبسة على الزُط، وأسر هذه الأعداد الكبيرة، جاء بهم إلى الزعفرانية، ثم عبأهم في زوارقهم على هيأتهم في الحرب ومعهم الأبواق ينفخون فيها حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء سنة 220هـ، فمروا على المعتصم وهو في سفينة اسمها "الرف"، ثم نُقلوا إلى الجانب الشرقي من النهر، ثم إلى مدينة خانقين، ثم نُقلوا إلى عين زربة في الثغور في بلاد الشام، حيث كانت نهايتهم على يد البيزنطيين سنة 241هـ، حسبما روى درويش.

ويذكر بدر عبد الرحمن محمد في كتابه "الدولة العباسية: دراسة في سياستها الداخلية من أوائل القرن الثاني الهجري حتى ظهور السلاجقة"، أن الروم أغاروا على عين زربة في عهد الخليفة المتوكل وأسروا الزُط ونقلوهم إلى أوروبا مع نسائهم وذويهم، ومن ثم وجدوا طريقاً إلى مناطق عديدة داخل هذه القارة، وعُرفوا هناك باسم "جيبس" أو "النور"، وأقاموا عادة في خارج المدن.

ويشير درويش إلى أن الزُط عادوا للثورة من جديد سنة 221هـ، ولكن هذه المرة في مدينة القيقان في بلاد السند، فقلد المعتصم القائد عمران بن موسى بن يحيى البرمكي ولاية السند وكلفه بمحاربتهم، وتمكن من القضاء على ثورتهم واستعان بأسراهم لمحاربة "الميد"، أو "الميدو"، وهم طائفة من الزُط أيضاً كانوا يقومون بالقرصنة في مياه الخليج، فيتعرضون لسفن التجارة بالسلب والنهب والقتل، وامتد نشاطهم حتى وصل مياه البصرة، ووصلوا شمالاً إلى واسط، وظفر عمران بالميد، فقتل منهم نحو ثلاثة آلاف، وأخمد نشاطهم نهائياً.

القضاء على الزُط في السند

ويروي محمد نصر عبد الله ومحمد صقر الدوسري في كتابهما "تاريخ الدولة العباسية في العصر العباسي الأول"، رواية مختلفة بعض الشيء، فيذكران أن المعتصم لم يكتف بالقضاء على الزُط في العراق فقط، بل وجّه واليه على السند عمران بن موسى البرمكي عام 221هـ لمحاربتهم في موطنهم الأصلي هناك.

واستهل البرمكي عهده بحملة شاملة ضد الزُط، وقتل عدداً كبيراً منهم، ثم دعا مَن تبقى منهم، وختم أيديهم وجمع منهم الجزية، ثم أتبع ذلك بإجراء قد يبدو غريباً، إذ أمر كل فرد منهم بأن يصطحب كلباً معه عند خروجه من بيته، حسبما نقل الباحثان عن البلاذري في كتابه المذكور آنفاً.

وبحسب عبد الله والدوسري، كان ختم الأيدي وجمع الجزية إجراء عادياً بالنسبة إلى "أهل الذمة"، لكن الإجراء الثاني بدا غريباً، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الغرض منه كان التخلص من الكلاب الضالة أو العكس، أي تشجيع تربية الكلاب، لكنها تفسيرات تبدو ساذجة.

ويذكر الباحثان أن تفسيراً مقبولاً لدى عدد من المصادر يشير إلى أن محمد بن القاسم حين فتح السند استفسر عن وضع الزُط في عهد ما قبل الفتح، وعندما علم أنهم عنصر دائم التمرد، وأنه كان يُفرض عليهم اصطحاب الكلاب كنوع من التحقير لهم، قرر أن يظلوا على هذا الوضع المذل، ومن ثم كان الأمر نوعاً من إحياء تقليد سابق.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image